في اتصال هذه الآية بما قبلَها وجوه :
أحدها : أنَّه لما قال بعد إيجاب شهر رمضان وتبيين أحكامه :
{ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } فأمر العبد بالتَّكبير الذي هو الذِّكر وبالشكر ، أعلم العبد أنه سبحانه بلُطفه ورحمته قريب من العبد مطلع على ذكره وشُكره ، فيسمع نداءه ويجيبُ دعاءه .
الثاني : أنه أمره بالتَّكبير أولاً ، ثم رغبه في الدعاء ثانياً تنبيهاً على أن الدعاء لا بُدَّ وأن يكون مسبُوقاً بالثناء الجميل ؛ ألا ترى أن الخليل – عليه السَّلام – لمَّا أراد الدعاء قَدَّم أولاً الثناء ؛ فقال :
{ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] إلى قوله : { وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } [ الشعراء : 82 ] فلما فرغ من هذا الثناء ، شرع في الدُّعاء ، فقال : { رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً } [ الشعراء : 83 ] فكذا هاهنا .
الثالث : أنَّه لما فرض عليهم الصِّيام ، كما فُرض على الذين من قبلهم ؛ وكانوا إذا ناموا ، حرم عليهم ما حرم على الصَّائم ، فشَقَّ ذلك على بعضهم ؛ حتَّى عصوا في ذلك التكليف ، ثم نَدِمُوا وسألوا النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – عن توبتهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة مُخبراً لهم بقبول توبتهم ، وبنسخ ذلك التَّشديد ؛ بسب دعائهم وتضرُّعهم .
ذُكر في سبب نزول هذه الآية الكريمة وجوهٌ :
الثاني : قال ابن عبَّاس : إنَّ يهُود المدينة قالوا : يا محمَّد ، كيف يسمع ربُّك دعاءنا ، وأنت تزعم أنَّ بيننا وبينَ السَّماء مسيرة خمسمائة عامٍ ، وأنَّ غِلَظَ كلِّ سماءٍ مثلُ ذلك ؟ فنزلت الآية الكريمة{[2654]} .
الثالث : قال الضَّحَّاك : إنَّ أعرابيّاً سأل النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال : أقريبٌ ربُّنا فنناجيه أم بعيدٌ فنناديه ؟ فأنزل الله تعالى الآية{[2655]} .
الرابع : أنه – عليه الصلاة والسلام – كان في غزاة خيبر ، وقد رفع أصحابُهُ أصواتهُم بالتكبير والتَّهليل والدُّعاء ، فقال رسُولُ الله – صلى الله عليه وسلم- اربعوا على أنفسكم فإنَّكم لا تدعون أصمّ ولا غائباً ، إِنَّما تدعون سمعياً قريباً وهُو معكُم{[2656]} .
الخامس : قال قتادةُ وغيره : إنَّ الصحابة قالوا : كيف ندعُو ربنا ، يا رَسُول الله ، فنزلت الآية{[2657]} .
السادس : قال عطاءٌ وغيره : إن الصحابة سألوا في أي ساعة ندعو ربنا فأنزل الله الآية{[2658]} .
السابع : قال الحسن : سأل أصحابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : أين رَبُّنا ؟ فأنزل الله الآية{[2659]} .
واعلم أنَّ المراد من الآية الكريمة ليس هو القُرب بالجهة ؛ لأنَّه تبارك وتعالى ، لو كان في مكانٍ ، لما كان قريباً من الكُلِّ ، بل كان يكون قريباً من حملة العرش ، وبعيداً من غيرهم ، ولكان إذا كان قريباً من زيدٍ الذي بالشَّرق ، كان بعيداً من عمرو الذي بالمغرب ، فلَمَّا دلَّت الآية الكريمة على كونه تعالى قريباً من الكُلِّ ، علمنا أنَّ القرب المذكُور في الآية الكريمة ليس قرباً بجهة ، فثبت أن المراد منه أنه قريبٌ بمعنى أنه يسمع دعاءهم .
والمرادُ من هذا القُرب العلمُ والحفظُ ؛ على ما قال : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } [ الحديد : 4 ] وقال { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ }
[ ق : 16 ] وقال تعالى : { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ }
[ المجادلة : 7 ] ونظيره : وهو بينكُمْ وبَيْنَ أعناق رواحلكم .
قال ابن الخطيب : وإذا عرف هذا فنقُول : لا يبعدُ أن يقال : إنه كان في بعض أولئك الحاضرين من كان قائلاً بالتَّشبيه ، فقد كان من مشركي العرب ، وفي اليهود وغيرهم من هذه طريقته ، فإذا سألوه - عليه الصلاة والسلام - أين ربُّنا ؟ صحَّ أن يكون الجوابُ : فإنِّي قريبٌ ، فإنَّ القريبَ مِنَ المتكلِّم يسمعُ كلامَهُ ، وإن سألوه كيف يدعُون ؛ برفع الصَّوت أو بإخفائه ؟ صحَّ أن يجيبَ بقوله : " فإِنِّي قَرِيبٌ " ، وإن سألوه أنه هل يعطينا مطلوبنا بالدُّعاء ؟ صحَّ هذا الجوابُ ، وإن سألوه : إنا إذا أذنبنا ثم تُبنا ، فهل يقبلُ الله توبتَنَا ؟ صحَّ أن يجيبَ بقوله " فَإِنِّي قَرِيبٌ " أي : فأنا القريبُ بالنظر إليهم ، والتجاوز عنهم ، وقبُول التَّوبة منهم ؛ فثبت أنَّ هذا الجواب مطابقٌ للسُّؤَالِ على كُلِّ تقدير .
قوله تعالى : " أُجِيبُ " فيها وجهان :
أحدهما : أنها جملةٌ في محلِّ رفع صفةً ل " قَريبٌ " .
والثاني : أنها خبرٌ ثانٍ ل " إنِّي " ؛ لأنَّ " قَرِيبٌ " خبرٌ أوَّلُ .
ولا بُدَّ من إضمارِ قولٍ بعد فاء الجزاء ، تقديرُه : فَقُلْ لهم إِنِّي قريبٌ ، وإنما احتَجْنَا إلى هذا التقدير ؛ لأنَّ المرتِّب على الشَّرط الإخبارُ بالقُرب ، وجاء قوله " أُجِيبُ " ؛ مراعاةً للضمير السابقِ على الخبر ، ولم يُراعَ الخبرُ ، فيقالُ : " يُجِيبُ " بالغَيْبَة ؛ مراعاةً لقوله : " قَرِيبٌ " ؛ لأنَّ الأشْهَرَ من طريقتي العرب هو الأولُ ؛ كقوله تعالى : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [ النمل : 55 ] وفي أخرى
{ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } [ النمل : 47 ] ، وقول الشاعر : [ الطويل ]
948 - وَإِنَّا لَقَوْمٌ مَا نَرَى الْقَتْلَ سُبَّةً *** إِذَا مَا رَأَتْهُ عَامِرٌ وسَلُولُ{[2660]}
ولو راعى الخبر ، لقال : " مَا يَرَوْنَ القَتْلَ " .
وفي قوله : " عَنِّي " و " إِنِّي " التفاتٌ من غيبة إلى تكلُّم ؛ لأنَّ قبله : " وِلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ " والاسمُ الظاهرُ في ذلك كالضميرِ الغائبِ ، والكافُ في " سَأَلَكَ " للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وإنْ لم يجرِ له ذكرٌ ، إلاَّ أنَّ قوله : { أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } يَدُلُّ عليه ؛ لأنَّ تقديره : " أُنْزِلَ فيه القرآنُ عَلَى الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - " وفي قوله : فَإِنِّي قَريبٌ " مجازٌ عن سرعةِ أجابته لدعوةِ داعيه ، وإلاَّ فهو متعالٍ عن القُرْبِ الحِسِّيِّ ، لتعاليه عن المَكَان .
قال أبو حَيَّان : والعامِل في " إِذَا " قوله : " أُجِيبُ " يعني " إِذَا " الثانية ، فيكون التقديرُ : أُجِيبُ دعوَتهُ وقتَ دعائِه ، فيُحْتَملُ أنْ تكونَ لمُجَرَّد الظرفية ، وأَنْ تكونَ شرطيةً ، وحذف جوابها ؛ لدلالةِ " أُجِيبُ " عليه ؛ وحينئذٍ لا يكونُ " أُجِيبُ " هذا الملفوظ به هو العامل فيها ، بل ذلك المحذوفَ ، أو يكونُ هو الجوابَ عند مَنْ يُجِيزُ تقديمهُ على الشَّرط ، وأمَّا " إِذَا " الأولى ، فإنَّ العاملَ فيها ذلك القولُ المقدَّرُ ، والهاء في " دَعْوَة " ليست الدالَّة على المَرَّة ، نحو : ضَرْبَةٍ وقَتْلَةٍ ، بل التي بُنِيَ عليها المصدرُ ، نحو : رحمة ونجدة ؛ فلذلك لم تَدُلَّ على الوَحْدَة .
والياءان من قوله : " الدَّاع - دَعَان " من الزوائد عند القُرَّاءِ ، ومعنى ذلك أنَّ الصحابة لم تُثْبِت لها صورةً في المُصحَف ، فمن القُرَّاءِ مَنْ أَسْقَطَها تَبَعاً للرسم وَقْفاً ووَصْلاً . ومنهم مَنْ يُثْبِتُها في الحالَين ، ومنهم مَنْ يُثْبِتُها وَصْلاً ويحذِفُها وَقْفاً ، وجملةُ هذه الزوائد اثنتان وستُّون ياءً ، فأثبَتَ أبو عمرو وقَالُونُ هاتَينِ الياءَيْنِ وَصْلاً وحَذَفَاهَا وَقْفاً .
قال أبو سليمان الخطَّابيُّ{[2661]} : والدُّعاء مصدر من قولك : دعَوتُ الشَّيءَ أَدعوه دُعاءً ، ثم أقامُوا المَصدرَ مقام الاسم ؛ تقول : سمعتُ الدعاء ؛ كما تقولُ : سمعتُ الصَّوتَ ، وقد يوضعُ المصدر موضع الاسم ؛ كقولك : رَجُلٌ عدلُ ، وحقيقةُ الدعاء : استدعاءُ العبدِ ربَّهُ جلَّ جلالهُ العناية ، واستمدادُهُ إيَّاه المعونَةَ .
والإجابةُ في اللُّغة : الطاعةُ وإعطاءُ ما سُئِلَ ، فالإجابةُ من الله العطاءُ ، ومن العبدِ الطاعةُ .
وقال ابنُ الأنباريِّ " أُجِيبُ " ههنا بمعنى " أَسْمَعُ ؛ لأنَّ بين السماع والإجابةِ نَوْعَ ملازمةٍ{[2662]} .
فصل في الجواب على من ادَّعى أن لا فائدة في الدُّعاء
قال بعضهم : الدعاء لا فائدة فيه لوجوهٍ{[2663]} :
أحدها : أنَّ المطلوب بالدُّعاء ، إنْ كان معلوم الوقُوع عند الله تعالى ، كان وقوعهُ واجباً ؛ فلا حاجة إلى الدُّعاء ، وإن كان معلوم الانتفاءِ واجبَ العَدَمِ ، فلا حاجة إلى الدُّعاء .
وثانيها : أنَّ وقوع الحَوَادِث في هذا العالم إنْ كان لا بُدَّ لها منْ مُؤَثِّر قديم اقتضى وجودَها اقتضاءً قديماً ، كانت واجبةً الوُقُوع ، وكلُّ ما لم يقتض المؤثِّرُ القديمُّ وجودَهُ اقتضاءً أزليّاً ، كان ممتنعَ الوقُوع ، وإذا كانت هذه المقدِّمة ثابتةً في الأَزَلِ ، لم يكُن للدعاءِ ألبتَّة أثر ، وربَّما عبَّروا عن هذا الكلام بأنْ قالوا : الأقدَارُ سابقةٌ ، والأقضيةُ متقدِّمةٌ ، فالإِلحاح في الدُّعاء لا يزيد فيها وتركُه لاَ ينقُصُ منها شيئاً ، فأيُّ فائدةٍ في الدعاء ، وقال عليه الصلاة والسلام : " أَرْبَعٌ قَدْ فُرِغَ منها : الخَلْقُ والخُلُقُ وَالرِّزْقُ وَالأَجَلُ{[2664]} " .
وثالثها : أنَّه سبحانه وتعالى قال : { يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } [ غافر : 19 ] وإذا كان يعلمُ ما في الضمير ، فأيُّ حاجةٍ إلى الدُّعاء .
ورابعها : أنَّ المطلوب بالدعاء ، إنْ كان من مصالح العَبْد ، فالجواد المطلق لا يهملُهُ ، وإن لم يكُنْ من مصالحه ، لم يَجُزْ طلبه .
وخامسها : أنَّه ثبت أنَّ أجلَّ مقامات الصِّدِّيقين وأعلاها الرِّضا بقضاء الله تعالى والدعاءُ ينافي ذلك ؛ لأنه اشتغالٌ بالالتماس ، وترجيحٌ لمراد النَّفسِ على مُرَاد الله .
وسادسها : أنَّ الدعاء يُشبهُ الأمر والنَّهي ، وذلك من العبد في حقِّ المولى الكريم سُوءُ أَدَب .
وسابعها : قال - عليه الصَّلاة والسَّلام - عن الله تعالى : " مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي " {[2665]} .
وقال الجمهور{[2666]} : الدعاء أفضَلُ مقاماتِ العبُوديَّة ، واحتجُّوا بأدلَّة :
{ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] .
الثالث : قوله { فَلَوْلا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 43 ] بين أنه تعالى ، إِذَا لَمْ يُسْألْ يَغْضب ، وقال - عليه السَّلام - " لاَ يَنْبَغِي لأَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ ، اغْفِرْ لي إِنْ شِئْتَ ، وَلَكِنْ يَجْزِمُ فَيَقُولُ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي " وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : " الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ{[2667]} " وقرأ " وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ " ، فقوله " الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ " معناه أنه مُعْظَم العبادة ، وأفضل العبادة ؛ كقوله عليه الصَّلاة والسَّلام : " الحَجُّ عَرَفة{[2668]} " ، أي : الوقوف بِعَرَفَةَ هو الرُّكْن الأَعْظَم .
الرابع : قوله : { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } [ الأعراف : 55 ] وقال :
{ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ } [ الفرقان : 77 ] والآياتُ في هذا الباب كثيرةٌ ، فمن أبطل الدعاء ، فقد أنكَرَ القرآن ، وأمَّا الأحاديث فكثيرةٌ .
والجوابُ عن شبهتهم الأولى بالمناقضة ؛ فنقُول : إقدامُ الإنسان على الدعاء ، إن كان معلوم الوقوع ، فلا فائدة باشتغالكم بإبطال الدُّعاء ، وإن كان معلوم العدم ، لم يكُنْ إلى إنكاركُم حاجة .
والجوابُ عن الثَّانية : علم الله تعالى وكيفيَّةُ قضائه وقدره غائبةٌ عن العُقُول والحكمة الإلهيَّة تقتضي أن يكُون العَبد معلَّقاً بين الرَّجاء والخَوف اللّذين بهما يتمُّ العبودية ، ولهذا صَحَّحنا القَول بالتَّكاليف مع الاعتراف بإحاطة علم الله تعالى بالكُلِّ وجريان قضائِهِ وقدره في الكُلِّ ، ولهذا الإشكال سألت الصحابة - رضي الله عنهم - رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : أرأيت أعمالنا هذه أشيء فرغَ منهُ ، أم أمرٌ يستأنِفُهُ ؟ فقال : " بَلْ أَمْرٌ فُرغَ مِنْهُ " فقالوا : فَفِيمَ العَمَلُ إذَنْ ؟ قَالَ : " اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ لَهُ " فانظُر إلى لطائف هذا الحديث ، فإنه - عليه الصلاة والسلام - علَّقهم بين أمرين ، فرهَّبهم سابقَ القَدَر المفروغ منه ، ثم ألزمهم العمل الذي هو مدرجةُ التعبُّد ، فلم يبطل ظاهر العَمَل بما يفيد من القضاء والقدر ، ولم يترك أحد الأمرين للآخر ، وأخبر أنَّ فائدة العمل هو المقدَّر المفروغُ ، فقال : " كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ " يريد أنَّه ميسَّر في أيَّام حياته للعَمَل الذي سَبَقَ له القَدَر قَبْل وجوده وكذا القولُ في باب الكسب والرِّزق فإنه مفروغٌ منه في الأصل لا يزيده الطَّلَبُ ، ولا ينقصه التَّرك .
والجوابُ عن الثالثة : أنه ليس المقصودُ من الدعاءُ الإعلام بالمطلوب ، بل إظهار العُبُوديَّة والذلَّة والانكِسار والرُّجُوع إلى الله تعالى بالكُلِّيَّة .
والجواب عن الرابعة : أنه يجوزُ أنْ يصير ما ليسَ بمصلحَةٍ بحسب سَبق الدعاء .
والجواب عن الخامس : إذا كان مقصُوده من الدُّعاء إظهار الذلَّة والمسكنة ، ثم بعده الرضا بما قدَّره الله تعالى وقضاه ، فذلك من أعظم المقامات ، وهذا الجوابُ أيضاً بقيَّة الشُّبَهِ .
فإن قيل : إنَّه تعالى قال { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ، وقال هنا { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } ، وقال { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ } [ النمل : 62 ] ثم إنا نرى الداعي يبالغ في الدَّعَواتِ والتضرُّع ، فلا يجاب .
أحدها : أن هذه الآيات ، وإن كانت مطلقةً إلاَّ أنه وردت في آية أخرى مقيَّدة ، وهو قوله تعالى : { بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ } [ الأنعام : 41 ] والمطلق يحمل على المقيَّد .
وثانيها : قوله - عليه الصلاة والسلام- : " دَعْوَةُ المُسْلم لاَ تُرَدُّ إلاَّ لإحْدى ثَلاث : مَا لَمْ يَدْعُ بإثْمِ ، أَوْ قطيعَة رَحِمٍ ، أَوْ يَسْتَعْجلْ ، قَالُوا : وَمَا الاسْتِعْجَالُ ، يَا رَسُولَ الله ؟ قَالَ :يَقُولُ : قَدْ دَعوْتُكَ يَا رَبِّ ، قَد دَعَوتُكَ يَا رَبِّ ، قَدْ دَعَوْتُكَ يَا رَبِّ ، فَلاَ أَرَاكَ تستجيبُ لي ، فيستَحْسِرُ عند ذلك فيدع الدُّعاء{[2669]} " .
وثالثها : أنَّ قوله { أَسْتَجِبْ لَكُمْ } يقتضي أنَّ الداعي عارفٌ بربِّه ، ومِنْ صفاتِ الربِّ سبحانه وتعالى أنه لا يَفْعَلُ إلاَّ ما وافَقَ قضاءه وقدره ، وعلمه وحكمته ، فإذا علم العبدُ أنَّ صفة ربِّه هكذا ، استحَالَ منه أن يقول بقلبه أو بعقله يا ربِّ ، أفعل الشَّيء الفُلانِيَّ ، بل لا بدَّ وأن يقول : أفعل هذا الفعل ، إن كان موافقاً لقضائك وقدرك ؛ وعند هذا يصيرُ الدُّعاء المجابُ مشروطاً بهذه الشرائط ، فزال السؤال .
ورابعها : أن لفظ الدعاء والإجابة يحتمل وجوهاً كثيرة :
فقيل : الدعاء عبارةٌ عن : التوحيد والثَّناء على الله تعالى ؛ لقول العبد يا الله الذي لا إله إلا أنتَ ، فدعَوتَه ، ثم وحَّدتَه وأثنيت عليه فهذا يسمَّى دعاءً بهذا التأويل ، فسمي قبوله إجابةً للتجانس ، ولهذا قال ابن الأنباريِّ : " أُجِيبُ " ههنا بمعنى " أًسْمَعُ " ؛ لأن بين السماع والإجابة نوع ملازمةٍ ، فلهذا السبب يقام كلُّ واحدٍ منهما مُقام الآخر ، فقولنا : " سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ " ، أي : أجاب الله ، فكذا هاهنا قوله : { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ } ، أي : أَسْمَعُ تلكَ الدَّعوة ، فإذا حَمَلنا قوله تعالى { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } على هذا الوجه ، زال الإشكال .
وقيل : المرادُ من الدعاءِ التَّوْبة مِنَ الذُّنُوب ؛ وذلك لأنَّ التائب يدعُو الله تعالى بتوبته ، فيقْبَلُ توبته ، فإجابته قبول توبته إجابة الدُّعَاء ، فعلى هذا الوجه أيضاً يزول الإشكال .
وقيل : المرادُ من الدُّعاء العبادةُ ، قال عليه الصَّلاة والسَّلام : الدعاءُ هو العبَادةُ{[2670]} ويدلُّ عليه قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] فالدُّعاء هاهنا هو العبادة .
وإذا ثَبَتَ ذلك ، فإجابة الله للدُّعاء عبارةٌ عن الوفاءِ بالثَّواب للمُطيع ؛ كما قال { وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ } [ الشورى : 26 ] روى شهرُ بنُ حوشبٍ عن عبادة بن الصامت ، قال : سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ : " أعطيت أُمَّتي ثلاثاً ، لم تُعطَ إِلاَّ للأنبياء : كان الله إِذَا بَعَثَ النَّبِيَّ ، قَالَ : " ادْعُنِي أَسْتَجِبْ لَكَ " ، وقال لهذه الأُمَّة : " ادعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ " وكان الله إذا بعث النَّبيَّ ، قال له : " مَا جَعَلَ عَلَيْكَ في الدِّين مِنْ حَرَجٍ وقال لهذه الأُمَّة : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] وكان الله تبارك وتعالى إذا بعث النَّبيِّ جعلهُ شهِيداً على قومه ، وجعل هذه الأمَّة شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس " .
وخامسها : { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ } إنْ وافقَ القضاء وأُجيب إن كانت الإجابةُ خَيْراً لهُ ، أو أجيبه إن لم يسأَلْ مُحَالاً .
وسادسها : روى عُبادةُ بن الصَّامت ؛ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : " مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمِ يَدْعُوا الله عَزَّ وَجَلَّ بِدَعْوَةٍ إِلاَّ آتاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا أَوْ كَفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا مَا لَمْ يَدْعُ بإِثْمٍ أَوْ قَطيعَةِ رَحِمٍ " {[2671]} .
وسابعها : إِنَّ الله يجيب دعاء المؤمِنِ في الوقت ، ويؤخِّر إعطاءَ مَنْ يجيب مراده ، ليدعوه فيسمع صوته ، ويعجِّل إعطاء من لا يُحِبُّه ؛ لأنه يبغض صوته .
قال سفيان بن عيينة{[2672]} : لا يمنعنَّ أحداً من الدُّعاء ما يعلمه من نفسه ، فإنَّ الله تبارك وتعالى قد أجاب دعاء شرِّ الخلق إبليس ، لَعَنَه اللَّهُ ؛ قال : { قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ } [ الأعراف : 14 - 15 ] .
وللدُّعاء أوقات وأحوال يكون الغالب فيها الإجابة ، كالسَّحرِ ، ووقت الفطرِ ، وما بين الأذانِ والإقامة ، وما بين الظُّهر والعصر في يوم الأربعاء ، وأوقات الإضطرار وحالة السَّفر والمرض ، وعند نزول المطر ، والصَّفّ في سبيل الله تعالى كُلُّ هذا جاءت به الآثارُ .
وروى شهرُ بن حوشب ؛ أنَّ أُمَّ الدرداءِ قالت لهُ : يا شهرُ ، ألا تجدُ القشعريرة ؟ قلت : نعم قالت فادعُ الله فإنَّ الدُّعاء يُستجابُ عند ذلك{[2673]} .
قوله : { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي } في الاستفعالِ هنا قولان :
أحدهما : أنَّه للطلب على بابه ، والمعنى : فَلْيَطْلُبُوا إِجَابَتِي ، قاله ثعلبٌ .
والثاني : قال مجاهد{[2674]} معناه : فَلْيَسْتَجِيبُوا لي فِيمَا دَعَوْتُهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الإيمانِ ، أي : الطَّاعة والعَمَل ، كما قال تعالى : { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ] .
والثاني : أنه بمعنى الإفعال ، فيكون استفعل وأفعل بمعنى ، وقد جاءَت منه ألفاظ ؛ نحو : أقرَّ واستقرَّ ؛ وأبلَّ المريضُ واستبلَّ وأحصدَ الزَّرع واستحْصَدَ ، واسْتَثَارَ الشَّيْء وَأَثَارَهُ ، وَاسْتَعْجَلَهُ وأَعْجَلَهُ ، ومنه اسْتَجَابَهُ وَأَجَابَهُ ، وإذا كان اسْتَفْعَلَ بمعنى أَفْعَلَ ، فقد جاء متعدّياً بنفسه ، وبحرف الجَرِّ ، إلا أنه لم يَردْ في القرآن إلاَّ مُعَدًّى بحرف الجرِّ نحو : { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ } [ الأنبياء : 84 ] { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ } [ آل عمران : 195 ] ومِنْ تَعدِّيه بنفسه قول كعب الغنوي : [ الطويل ]
949 - وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى *** فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ{[2675]}
ولقائل أنْ يقُول : يحتملُ هذا البيت : أنْ يكون مِمَّا حُذف منه حرفُ الجرِّ .
واللامُ لامُ الأمر ، وفرٌَّ الرُّمَّانيُّ بين أجاب واستَجَابَ : بأنَّ " اسْتَجَابَ " لا يكون إلا فيما فيه قَبُولٌ لما دُعي إليه ؛ نحو : { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ } { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُم } ، وأمَّا " أَجَابَ " فأعمُّ ، لأنه قد يُجيبُ بالمخالفة ، فجعل بينهما عموماً وخصوصاً .
والجمهورُ على " يَرشُدُونَ " بفتح الياءِ وضمِّ الشينِ ، وماضيه : رَشَدَ بالفتح ، وقرأ{[2676]} أبو حيوة وابن أبي عبلة بخلافٍ عنهما بكسر الشين ، وقُرئ بفتحها ، وماضيه رشِد بالكسر ، وقرئ : " يُرْشَدُونَ " مبنيّاً للمفعول ، وقرئ : " يُرْشِدُونَ " بضم الياء وكسر الشين من " أَرْشَدَ " ، والمفعولُ على هذا محذوفٌ ، تقديرُه : يُرْشِدُونَ غيرهم " والرُّشْدُ " هو الاهتداء لمصالح الدِّين والدُّنيا ؛ قال تبارك وتعالى :
{ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً } [ النساء : 6 ] وقال { أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً } [ الحجرات : 7 - 8 ] .
قال القرطبي{[2677]} : و " الرُّشْدُ " خلاف الغيِّ ، وقد رشد يرشُدُ رُشداً ورشِدَ - بالكَسْر - يَرْشَدُ رَشَداً لغةٌ فيه وأرشدهُ اللَّهُ والمراشِد : مقاصد الطُّرق والطريقُ الأرشَدُ نحو الأقصد وأُمُّ راشدٍ كُنية للفأرة ، وبنو رشدان بطنٌ من العرب عن الجوهريِّ .
وقال الهرويُّ : الرُّشْدُ والرَّشد والرَّشَادُ : الهدى والاستقامة ؛ ومنه قوله تعالى : " يَرْشُدُونَ " .
فإنْ قيل : إجابةُ العبد للَّه تعالى إنْ كانت إجابةً بالقَلْب واللِّسان ، فذاك هو الإيمانُ ، وعلى هذا ، فيكونُ قوله : { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي } تكراراً محضاً ، وإن كانت إجابةُ العبد للَّه تعالى عبارةً عن الطاعات كان الإيمان مقدَّماً على الطاعات ، وكان حقُ النَّظم أن يقول : " فَلْيُؤْمِنُوا بِي وَلْيَسْتَجيبُوا لِي " فلم جاء على العكس .
فالجواب : أن الإيمان عبارةُ عن صفة القلب ، وهذا يدلُّ على أنَّ العبد لا يصلُ إلى نُور الإيمان ، إلاَّ بتقديم الطَّاعات والعبادات .