" المحيض " فعل من الحيضِ ، ويُرادُ به المصدرُ ، والزمانُ ، والمكانُ ، تقولُ : حاضِت المرأَةُ تحيضُ ، حَيضاً ومَحِيضاً ، ومَحاضاً ، فَبَنَوْه على مِفْعلٍ ومَفْعَل بالكَسرِ والفتحِ .
واعلم أنَّ في المَفْعَل مِنْ يَفْعِل بكسر العينِ ثلاثة مذاهب :
أحدها : أَنَّهُ كالصَّحيح ، فتُفْتَحُ عينهُ مراداً به المصدرُ ، وتُكسَرُ مراداً به الزَّمانُ والمكانُ .
والثَّاني : أَنْ يُتَخَيَّر بين الفتح والكسر في المصدرِ خاصَّةً ، كما جاء هنا : المَحيضُ والمحَاضُ ، ووجهُ هذا القول : أنَّهُ كثُر هذان الوجهان : أعني ، الكسر ، والفتح فاقْتَاسا .
والثالث : أَنْ يُقْتَصَرَ على السَّماعِ ، فيما سُمِع فيه الكَسرُ ، أو الفتحُ ، لا يَتَعَدَّى . فالمحيضُ المُرادُ به المَصْدَرُ ليس بمقيسِ على المذهبين الأول والثالث ، مقيسٌ على الثاني . ويقال : امرأَةٌ حائِضٌ ولا يقال : " حائِضَةٌ " إلا قليلاً ، أنشد الفرَّاء : [ الطويل ]
. . . *** كَحَائِضَةٍ يُزْنَى بِهَا غَيْر طَاهِرِ{[3459]}
وَالمَعْرُوفُ أَنَّ النَّحويين فَرَّقوا بين حائضٍ ، وحائضةٍ : فالمُجرَّدُ من تاء التَّأنيث بمعنى النَّسَب ، أي : ذاتُ حيضٍ ، وإِنْ لم يكن عليها حَيْضٌ ، والملتبسُ بالتَّاءِ لِمَنْ عليها الحَيْضُ في الحال ، فيُحتمل أن يكونَ مرادُ الشاعر ذلك ، وهكذا كُلُّ صفةٍ مختصةٍ بالمُؤَنّثِ نحو : طَامِث ومُرْضِع وشبههما .
قال القرطبيُّ : ويقال : نساءٌ حيض ، وحوائض ، والحَيضةُ : المرأَةُ الواحدة . والحِيضةُ بالكَسْر ، الاسم والجمع الحيض ، والحيضة أيضاً : الخرقةُ التي تَسْتَثْفِرُ بها المَرْأَةُ ، قالت عَائِشَةُ : لَيْتَنِي كُنُتُ حِيْضَةٌ مُلْقَاةً " وكذلك المَحِيضَةُ ، والجمع : المَحائص .
وأصلُ الحَيض السَّيَلانُ ، والانفجِارُ ، يُقالُ : حَاضَ السَّيلُ وَفَاضَ ، قال الفَرَّاءُ : " حَاضَتِ الشَّجَرَةُ ، أي : سال صَمْغُها " ، قال الأَزهرِيُّ : " وَمِنْ هَذَا قيل لِلْحَوضِ : حَيْضٌ ؛ لأَنَّ المَاءَ يسيلُ إليه " والعربُ تُدْخِلُ الواو على اليَاءِ ، وَالياءَ على الواوِ ؛ لأَنَّهُما من حَيِّز واحدٍ ، وهو الهواءُ .
ويقالُ : حاضت المرأةُ وتحيَّضَتْ ، ودَرَسَتْ ، وعَرَكت ، وطَمِثت فهي حائضٌ ، ودارِسٌ ، وعارِكٌ ، وَطَامِثٌ ، وطَامِسٌ ، وكَابِرٌ ، وَضَاحِكٌ . قال تعالى : { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } [ يوسف :31 ] أي : حضن ، وقال تعالى : { فَضَحِكَتْ } [ هود :71 ] .
قال مجاهد{[3460]} : أي : حاضَتْ ونافس أيضاً ، والظَّاهر أن المحيض مصدرٌ كالحيضِ ، ومثله : " المَقِيلُ " مِنْ قال يقِيلُ ؛ قال الرَّاعِي : [ الكامل ]
بُنِيَتْ مَرَافِقُهُنَّ فَوْقَ مَزَلَّةٍ *** لاَ يَسْتَطِيعُ بِهَا القُرَادُ مَقِيلاَ{[3461]}
وكذلك قال الطَّبريُّ : " إِنَّ المَحِيضَ اسْم كالمَعِيشِ : اسمُ العَيْشِ " ؛ وأنشد لرؤية : [ الرجز ]
إِلَيْكَ أَشْكُو شِدَّةَ المَعِيشِ *** وَمَرَّ أَعْوَامٍ نَتَفْنَ رِيشِي{[3462]}
وقيل : المَحيضُ في الآية المُرادُ به : اسمُ موضعِ الدَّم ، وعلى هذا فهو مقيسٌ اتِّفاقاً ، ويؤيِّد الأَوَّل قوله : { قُلْ هُوَ أَذًى } . وقد يُجَابُ عنه بأنَّ ثَمَّ حذف مضافٍ ، أي : هو ذُو أَذى ، ويؤيِّدُ الثَّاني قوله : { فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } . ومن حَمَلَه على المَصْدَرِ قَدَّر هنا حَذْفَ مُضَافٍ ، أي : فاعْتَزِلُوا وَطْءَ النِّسَاءِ في زَمَانِ الحَيْضِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المَحِيضُ الأَوَّلُ مَصْدَراً والثَّاني مكاناً .
حكى الواحديُّ في " البَسيط " {[3463]} عن ابن السَّكِّيت : إذا كان الفعلُ من ذوات الثلاثة نحو : كَالَ يكيلُ ، وحاضَ يحيض وأشباهه ، فإِنَّ الاسم منه مكسور والمصدر مفتوح ، مِنْ ذلك مالَ ممالاً ، وهذا مميله يذهب بالكسر إلى الاسم ، وبالفتح إلى المصدر ، ولو فتحهما جميعاً ، أو كسرهما جميعاً في المصدرِ والاسمِ لجازَ ، تقول : المَعَاشُ ، والمَعِيشُ ، والمَغَابُ ، والمَغِيبُ ، والمَسَارُ والمَسِيرُ فثبت أَنَّ لفظ المحيض حقيقةٌ في موضع الحيض ، وأيضاً هو اسمٌ لنفس الحيضِ .
قال ابن الخطيب{[3464]} : وعندي أَنَّهُ ليس كذلك ؛ إذ لو كان المُرادُ بالمحيض هنا الحيض ، لكان قوله تعالى { فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } معناه : فاعتزلوا النِّساء في الحيض ، ويكونُ المُرادُ : فاعتزلوا النساء في زمن الحيض ، يكون ظاهره مانعاً من الاستمتاع بهنَّ فيما فوق السُّرَّة ، ودون الرّكبة ، ولما كان هذا المنعُ غير ثابت لزم القول بتطرُّق النَّسخ ، والتَّخصيص إلى الآية ، وهو خلاف الأصل ، أما إذا حملنا المحيض على موضع الحيض ؛ كان معنى الآية : فاعتزلوا النِّسَاءَ في موضع الحيض من النِّسَاء ، وعلى هذا التَّقدير لا يتطرَّقُ إلى الآية نسخٌ ، ولا تخصِيصٌ .
ومن المعلوم أَنَّ اللَّفْظ إذا كان مشتركاً بين معنيين وكان حمله على أحدهما يوجب محذوراً ، وعلى الآخر لا يوجب ذلك المحذور ، فإِنَّ حمل اللَّفظ على المعنى الَّذِي لا يُوجِبُ المحذورَ ، أولى إذا سلَّمنا أَنَّ لفظ المحيض مشتركٌ بين الموضع ، وبين المصَدرِ .
فإن قيل : الدَّليلُ على أَنَّ المُراد من المحيض الحيضُ قوله : { قُلْ هُوَ أَذًى } ، ولو كانَ المُرَادُ الموضع لما صَحَّ هذا الوَصْفُ .
قلنا : بتقدير أَنْ يكون المحيض عبارة عن الحَيض ، فالحيض نفسُهُ ليس بِأَذى لأن " الحَيْضَ " عبارةٌ عن الدَّمِ المخصوص ، و " الأَذَى " كيفيَّةٌ مخصوصَةٌ وهو عرض ، والجسم لا يكُونُ نفس العرض فَلا بُدَّ أَنْ يقُولُوا : المرادُ منه أَنَّ الحيض موصوف بكونه أذى ، وإذا جاز ذلك فيجُوزُ لنا أيضاً أن نقول : إِنَّ المراد منه أنَّ ذلك المَوْضع ذو أذًى ، وأيضاً لم لا يجوزُ أَنْ يكون المراد بالمحيض الأَوَّل الحيض ، وبالمحيض الثَّاني موضع الحيضِ كَمَا تقدَّمَ وعلى هذا فيزولُ الإِشكالُ .
فصل في بيان مغالاة اليهود وغيرهم في أمر الحيض
عن أنس بن مالك أَنَّ اليهُود ، والمَجُوس كانُوا يبالغون في التَّباعد عن المرأَةِ حال حيضها ، والنَّصارَى كانوا يجامعوهنّ ولا يبالون بالحيض ، وأَنَّ أَهْلَ الجاهِليَّةِ كانُوا يقولُونَ مثل قولِ اليَهُودِ ، والمَجُوسِ ، وكانوا إذا حَاضَتِ المرأَةُ ؛ لم يُؤَاكِلُوها ، ولم يُشارِبُوها ، ولم يُجَالِسُوها على فراشٍ ، ولم يساكنوها في بيتٍ كفعل اليهود والمجوس ، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فأنزل الله هذه الآية ، فأخذ المُسْلِمُون بظاهر الآية ، فأخرجوهنّ من بيوتهن ، فقال ناسٌ من الأَعْراب : يا رسُول اللهِ البردُ شديدٌ ، والثِّيابُ قَلِيلةٌ ، فإِنْ آثرناهن بالثِّيابِ ، هلك سائِرُ أهل البيت ، وإن اسْتَأْثَرْنَاهَا هلكت الحيض ، فقال عليه الصّلاة والسّلام : " إِنَّمَا أَمَرْتُكُم أَنْ تَعْتَزِلُوا مُجَامَعَتهنَّ إِذَا حِضْن ولَمْ آمُرُكُم بإِخْرَاجِهِنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ كَفِعْلِ الأَعاجِمِ " فلمَّا سمع اليهُودُ ذلك قالوا : هذا الرَّجُلُ يُرِيدُ أَلاَّ يدع شيئاً من أمرنا ، إلاَّ خالفنا فيه . فَجاء أُسيِّد بن حُضيرٍ وعباد بن بشر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : يا رسُول اللهِ إِنَّ اليهُود تقول كذا وكذا ، أفلا ننكحهنّ في المحيض ، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى ظننا أَنَّه غضب عليهما ، فخرجا ؛ فَجَاءَتْهُ هديَّةٌ مِنْ لَبَنِ ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما فسقاهما فعلمنا أنه لم يغضب عليهما{[3465]} .
فصل في مجيء " يسألونك " بحرف الواو
وجاء : " وَيَسْأَلُونَكَ " ثلاثَ مرَّاتٍ بحرفِ العطفِ بعد قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ } وهي : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ } ، { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى } { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ } وجاء " يَسْأَلُونَكَ " أربع مراتٍ من غيرِ عطفٍ : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ } { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ } { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ } { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ } . فما الفرقُ ؟
والجوابُ : أَنَّ السُّؤالات الأَواخر وقعَتْ في وقتٍ واحدٍ ، فجُمِع بينها بحرفِ الجمعِ ، وهو الواوُ ، أَمَّا السّؤالاتُ الأُوَلُ فوقعَتْ في أوقاتٍ متفرقةٍ ، فلذلك استؤْنِفَتْ كلُّ جملةٍ ، وجيء بها وحدها .
وقوله : " هو أَذًى " فيه وجهان :
أحدهما : قاله أبو البقاء : " أَنْ يكُونَ ضمير الوطءِ الممنوع " وكأنه يقول : إِنَّ السِّياق يدلُّ عليه ، وإِنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ .
الثَّاني : أَنْ يعود على المحيض ، قال أبو البقاء : " ويكون التَّقدير : هو سببُ أَذًى " وفيه نظرٌ ؛ فإنَّهم فَسَّروا الأَذَى هنا بالشَّيء القَذِر ، فإذا أَرَدْنا بالمَحِيضِ نَفْسَ الدَّمِ ، كان شيئاً مُسْتَقْذَراً ، فلا حاجة إلى تقديرِ حَذْفِ مضافٍ .
قال عطاءٌ ، وقتادةٌ ، والسُّدِّيُّ : هو أَذًى ، أي : قذر{[3466]} واعلم أَنَّ الأَذَى في اللُّغة ما يكره مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، ويحتمل أن يَكُونَ قوله : " هُوَ أَذًى " ، أي : سببُ الأَذَى قالوا : لأَنَّ من جَامَعَ في الحَيْض ، قد يحصُلُ له في ذكره وأنثييه تفتيح وقروح .
وقوله : { فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } .
الاعتزالُ : التَّنَحِّي عن الشَّيْءِ ، وأَرَاد به هاهنا : تَرْكَ الوَطءِ ، وقدَّم ذكر العِلَّة ، وهي الأذى ، ثم رَتَّبَ الحُكْم ، وهو وجوب الاعتزال . فإن قيل : المرادُ ب " الأذى " هو الدَّمُ ، وهو حاصِلٌ في وقت الاستحاضة مع أن اعتزال المرأة وقت الاستحاضة ، غير واجب ، فانتقضت هذه العِلَّةُ .
والجواب : أَنَّ دم الحيض دَمٌ فاسِدٌ يتولّد من فضلة تدفعها طبيعة المرأة من عمق الرَّحم ، ولو احْتَبَسَتْ تلك الفضلةُ لمرضت المرأةُ ، فذلك الدَّمُ جارٍ مجرى البَوْلِ ، والغائط ، فكان أَذًى وقذراً ، وأَمَّا دمُ الاستحاضة ، فليس كذلك ، بل هو دَمٌ صالحٌ يسير من عروق تنفجر من عمق الرَّحِمِ ، فلا يكونُ أذى ، قال عليه الصَّلاة والسَّلام لما سئل عن الاستحاضة فقال : " إِنَّ ذَلكَ دَمُ عِرْق ، ولَيْسَ بِالحَيْضَةِ " {[3467]} .
قال ابن الخطيب{[3468]} : وهذا جوابٌ طبّيٌّ مُخَلِّصٌ ظاهر القرآن مِنَ الطَّعن .
اعلم أَنَّ الحيضِ موصوفٌ بصفاتٍ حقيقيةٍ ، ويتفرَّعُ عليه أحكام شرعيّة فالصِّفاتُ نوعان :
الأول : المنبعُ ؛ فدم الحيض يخرجُ من الرَّحم ، قال تعالى : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } [ البقرة :228 ] قيل في تفسيره إنَّ المراد منه الحيض والحمل ، وأَمَّا دم الاستحاضة ، فإِنَّهُ لا يخرجُ من الرَّحم ، لكن من عروق تنقطع من فم الرَّحم ، قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في صفة دم الاستحاضة : " إِنَّهُ دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ " {[3469]} ، وهذا يؤيّدُ ما تقدَّمَ في الجواب .
النوع الثاني : من صفات دم الحيضِ التي وصفه بها رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم وهي سِتّ : أحدها : إنه أسود .
الثالث : محتدم وهو المحترقُ من شدَّةِ حرارته .
الرَّابع : أنه يخرُجُ برفق لا يسيلُ سيلاناً .
الخامس : أنَّ له رائحة كريهة بخلاف سائر الدماء ؛ وذلك لأنه من الفضلات التي تدفعها الطبيعة .
والسادس : أنه بحراني وهو الشَّدِيدُ الحمرة ، وقيل ما تحصُلُ فيه كدورة تشبيهاً له بماء البحر .
فهذه صفاته الحقيقيّة ، ثم مِنَ النَّاسِ من قال : إِنَّ دَمَ الحَيْضِ يتميَّزُ عن دمِ الاستحاضة ، فكلُّ دم موصوف بهذه الصِّفَات ، فهو دَمْ حَيْضِ وما لا فلا ، وما اشتبه الأمرُ فيه فالأَصْلُ بقاء التَّكليف ، ولا يزول إلا بعارض الحيض ، فإذا لم يُعلمْ وجوده ؛ بقيت التَّكَاليفُ على ما كانت وقال آخرون : هذه الصِّفَاتُ قد تشتَبِهُ على المُكَلّف ، فإيجاب التأمل من تلك الدِّمَاء يقتضي عسراً ومشقة فقدر الشارع وقتاً مضبوطاً ، متى حصلت فيه الدِّمَاءُ كان حُكمُها حُكم الحَيْض كيفما كانت صفةُ تلك الدِّماء قَصْداً إلى إسقاط العُسْرِ والمَشَقَّةِ .
اختلف العُلَماءُ في مُدَّةِ الحيضِ ، فقال عليُّ بن أبي طالب - رضي الهُ عنه - : أقلُّه يوم ولَيْلَة ، وأكثرُهُ خمسة عشر يوماً ، وهو قولُ عطاء بن أَبي رباحٍ{[3470]} ، والأوزاعيِّ ، والشَّافِعِيّ ، وأحمد ، وإسحاق .
وقال أبو حنيفة ، والثَّورِيّ : أقلّه ثلاثة أيَّام ولياليهن ، فإِنْ نقص عنه ، فهو دمٌ فاسد ؛ وأكثره عشرةُ أيَّامِ .
قال أبو بكر الرَّازِيُّ في " أحكام القُرْآن " : وقد كان أبُو حنيفة يقولُ بقول عطاءِ ، ثم تركه .
وقال مَالِكٌ : لا تقديرَ له في القِلَّةِ ، والكثرة ، فإن وُجِدَ ساعةً ، فهو حيض ، وإن وجد أيّاماً ، فكذلك .
واحتجَّ أبُو بكر الرازيُّ في " أَحْكَامِ القُرْآنِ " على فساد قول مالكٍ بأنه : لو كان التَّقْدير ساقطاً في القليل ، والكثِير ، لوجب أَنْ يكُونَ الحيض هو الدّم الموجود من المرأة فيلزم ألاَّ يوجد في الدنيا مستحاضة لأن كل ذلك الدم يكون حيضاً على المذهب ، وذلك باطِلٌ بالإجماع ولأنه روي أَنّ فاطمة بنت أبي حبيش قالت للنّبيّ صلى الله عليه وسلم " إِنِّي أُسْتَحَاضُ فَلا أَطْهُرُ " {[3471]} . وروي أَنّ حمنة استحيضت سبع سنين ولم يقل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لهما إن ذلك حيض بل أخبرهما أَنّ منه ما هو حيضٌ ، ومنه ما هو استحاضةٌ ، فبطل هذا القول ويمكن الجواب عنه بأن نقُولَ : إِنَّما يتميَّزُ دم الحيض عن دم الاستحاضة بالصِّفات التي قدّمناها لدم الحيضِ ، فإذا عدمت ؛ حكمنا بدم الحيض ، وإِنْ تَرَدَّدْنا فيهما ، كان طريانُ الحيض مجهولاً ، وبقاء التّكليف الَّذِي هو الأَصلُ معلوم ، والمشكوك لا يارض المعلوم ، فلا جَرَمَ قلنا ببقاء التَّكاليف ، فبهذا الطّريق يميز الحيض عن الاستحاضة وإن لم يجعل للحيض زماناً معيّناً .
واحتجَّ مالكٌ رضي اللهُ عنه بوجهين :
الأول : أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بيَّنَ علامة دم الحيض ، وصفته كما قدمنا في قوله : " دَمُ الحَيْضِ هُوَ الأَسْوَدُ المُحْتَدمُ " {[3472]} وإذا كان الدَّمُ موصوفاً بهذه الصِّفَةِ ، كان الحيضُ حاصِلاً ، فيدخلُ تحت قوله : { فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } .
الثاني : قوله في دم الحيض " هُو أَذى " ، ذكر كونهُ أَذًى في معرض العِلَّة ، لوجوب الاعتزال ، وإِنَّما كان " أَذًى " للرَّائِحَة المنكرة التي فيه ، واللون الفاسد وللحدةِ القوية الَّتي فيه ، وإذا كان وجُوبُ الاعتزال معللاً بهذه المعاني ، وجب الاحتراز عملاً بالعِلَّةِ المذكورة في كِتابِ الله .
واحتجّ الشَّافعيُّ على أبي حنيفة بوجهين :
الأول : أنه وجد دم الحيض في اليوم بليلته ، وفي الزَّائد عن العشرة لأنه عليه الصَّلاة والسَّلام وصف دم الحيض بأنه أسود محتدم ، فإذا وجد ذلك ، فقد حصل الحيض فيدخل تحت قوله : { فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } تركنا العمل بهذا الدّليل في الأقلّ من يوم وليلة وفي الأكثر من خمسة عشر يوماً باتِّفاق بيني وبينك يا أبا حنيفة ؛ فوجب أن يبقى معمولاً به في هذه المدَّة .
الثاني : أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام بيّن نقصان دينها : بأنها تمكث شطر عمرها لا تصلّي{[3473]} ، وهذا يدلُّ على أنَّ الحيضة قد تكون خمسة عشر يوماً ؛ لأن على هذا التقدير يكون الطهر خمسة عشر يوماً ؛ فيكون الحيض نصف عمرها ، ولو كان أقلّ من ذلك لم تكن تاركة للصَّلاة نصف عمرها .
أجاب أبو بكر الرَّازيُّ عنه{[3474]} بوجهين :
الأوَّل : أن الشَّطر ليس هو النِّصف ، بل هو البعض .
والثاني : أنه لا يوجد في الدُّنيا امرأة تكون حائضاً نصف عمرها ، لأن ما مضى من عمرها قبل البلوغ هو من عمرها .
والجواب عن الأول : أنَّ الشَّطر هو النِّصف ، يقال : شطرت الشَّيء أي جعلته نصفين ، ويقال في المثل : " احْلُبْ حَلْباً لَكَ شَطْرُهُ " {[3475]} أي نصفه .
وعن الثاني : أن قوله عليه الصَّلاة والسَّلام : " تَمْكُثُ إِحْدَاكُنَّ شَطْرَ عُمْرِهَا لاَ تُصَلِّي " {[3476]} إنّما يتناول زماناً هي تصلّي فيه ، وذلك لا يتناول إلا زمان البلوغ .
واحتجَّ أبو بكر الرازي على قول أبي حنيفة بوجوه :
الأول : ما روى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أَقَلّ الحَيْضِ ثَلاثَة أَيَّامٍ ، وَأَكْثَرُهُ عَشْرَةُ أَيَّام " {[3477]} فإن صحَّ هذا الحديث ، فلا معدل عنه لأحد .
الثاني : روي عن أنس بن مالك ، وعثمان بن أبي العاص الثَّقفيّ أنهما قالا : " الحيضُ ثلاثةُ أيَّامٍ ، وأربعة أيَّامٍ إلى عَشَرَةِ أيَّام ، وما زاد فهو اسْتِحَاضَة " {[3478]} وهذا قول صحابي لم يخالفه أحدٌ ، فكان إجماعاً ، ولأنَّه إذا ورد قول عن صحابي فيما لا سبيل للعقل إليه ، فالظَّاهر أنَّه سمع من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم .
الثالث : قوله عليه الصَّلاة والسَّلام لحمنة بنت جحش : " تحيضي في علم الله ستّاً ، أو سَبْعاً ، كما تَحِيضُ النِّسَاء في كُلِّ شَهْرٍ " {[3479]} فقوله : " كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ في كُلِّ شَهْرٍ " مقتضاه أن يكون حيض النِّسَاء في كلِّ شهر هذا القدر ، خالفنا هذا الظَّاهر في الثَّلاثة إلى العشرة ، فيبقى ما عداه على الأصل .
الرابع : قول عليه الصَّلاة والسَّلام : " مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِعُقُولِ ذَوِي الأَلْبَابِ مِنْهُنَّ " فقيل : ما نقصان دينهن ؟ قال : " تَمْكُثُ إِحْدَاهُنَّ الأَيَّامَ واللَّيَالِي لاَ تُصَلِّي " {[3480]} .
فهذا يدلُّ على أنَّ مدَّة الحيض ما يقع عليه اسم الأيّام ، واللَّيالي ، وأقلّها ثلاثة أيَّام وأكثرها عشرة ؛ لأنَّه لا يقال في الواحد ، والاثنين لفظ الأيَّام ، ولا يقال في الزَّائد على العشرة أيَّام ؛ بل يقال أحد عشر يوماً ، أما الثَّلاثة إلى العشرة ، فيقال فيها أيَّامٌ .
وأيضاً قوله عليه الصَّلاة والسَّلام لفاطمة بنت أبي حبيش : " دَعِي الصَّلاةَ أيَّامَ أَقْرَائِك " {[3481]} فلفظ الأيَّام مختصّ بالثَّلاثة إلى العشرة .
وفي حديث أُمِّ سلمة في المرأة التي سألته أنَّها تهرق الدَّم فقال : " لِتَنْظُر عَدَدَ الأَيَّامِ ، واللَّيَالِي الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُ مِنَ الشَّهْرِ ، ثُمَّ لِتَغْتَسِل ولتصلِّ " {[3482]} .
فإن قيل : لعلَّ حيض تلك المرأة كان مقدّراً بذلك المقدار قلنا : إنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام ما سألها عن قدر حيضها ، بل حكم عليه بذلك الحكم مطلقاً ، فدلّ هذا على أنَّ الحيض مطلقاً مقدّر بما ينطلق عليه لفظ الأيَّام .
وأيضاً قال في حديث عديِّ بن ثابتٍ : " المُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلاَةَ أَيَّامَ حَيْضِهَا " {[3483]} وذلك عامٌّ في جميع النِّساء .
الخامس : قال الجبَّائي{[3484]} في " تَفْسِيرِهِ " إنّ فرض الصِّيام والصَّلاة لازم لعموم الأدلَّة ، فعلى الوجوب ترك العمل بها في الثَّلاثَةَ إلى العشرة بالإجماع ، وما دون الثَّلاثة وفوق العشرة حصل فيه اختلاف العلماء ، فأورث شبهة ، فلم نجعله حيضاً ، فوجب بقاء التَّكليف على أصله .
اتَّفق المسلمون على حرمة الجماع في زمن الحيض ، واختلفوا في وجوب الكفَّارة{[3485]} على من جامع فيه ، فذهب أكثرهم إلى أنَّه لا كفَّارة عليه فليستغفر الله ويتوب ، وذهب قومٌ إلى وجوب الكفَّارة عليه ؛ منهم : قتادة والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق ، لما روى ابن عبَّاس أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في رجلٍ جامع امرأته وهي حائضٌ إنْ كَانَ الدَّمُ عَبِيطاً ؛ فَلْيَتَصَدّق بِدينَار ، وإِنْ كَانَ صُفْرَةً ، فَنِصْفُ دِينَارٍ " {[3486]} وروي موقوفاً على ابن عبَّاس{[3487]} . واتَّفقوا على أنَّ جلّ الاستمتاع فيما فوق السُّرَّة ، ودون الرُّكبة [ واختلفوا بأنّه هل يجوز الاستمتاع بها فيما دون السُّرة ، وفوق الرُّكبة ؟ ]{[3488]} قال ابن الخطيب{[3489]} : إن فسَّرنا المحيض بموضع الحيض ، كانت الآية دالّة على تحريم الجماع فقط ، فلا يكون فيها دلالة على تحريم غيره ، بل نقول : إنّ تخصيص الشَّيءِ بالذّكر يدلُّ على أنَّ الحُكْمَ فيما عداه بخلافه ، وإن فسَّرنا المحيض بالمحيض ، كان تقدير الآية فاعتزلوا النِّساء في زمان المحيض ، وترك العمل بها فيما فوق السُّرَّة ودون الرُّكبة ؛ فوجب أن يبقى الباقي على الحرمة .
قوله : { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } ، أي : لا تجامعوهنّ .
قال ابن العربيّ : سمعت الشّاشيَّ{[3490]} يقول : إذا قيل " لا تَقْرَب " بفتح الرَّاء كان معناه : لا تَتَلَبَّسْ بالفعل ، وإذا كان بضمّ الرَّاء كان معناه : لا تَدْنُ منه ، وهذا كالتأكيد لقوله تعالى : { فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } فهذا نهيٌ عن المباشرة في موضع الدَّم ، وقوله : " وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ " نهي عن الالتذاذ بما يقرب من ذلك الموضع .
" حتّى " هنا بمعنى " إلى " والفعل بعدها منصوب بإضمار أنْ ، وهو مبنيٌّ لاتصاله بنون الإناث .
وقرأ{[3491]} حمزة والكسائيُّ ، وأبو بكرٍ بتشديد الطَّاء والهاء ، والأصل :
والباقون : " يَطْهُرْنَ " مضارع طَهُرَ ، قالوا : وقراءة التَّشديد معناها يغتسلن ، وقراءة التَّخفيف معناها ينقطع دمهنَّ . ورجَّح الطَّبري قراءة التَّشديد وقال : " هي بِمَعْنَى يَغْتَسِلْنَ لإجماع الجميع على تَحْرِيم قُرْبَان الرَّجُل امرأته بعد انقطاع الدَّم حتَّى تطهر ، وإنما الخلاف في الطهر ما هو ؟ هل هو الغسل أو الوضوء ، أو غسل الفرج فقط ؟ " .
قال ابن عطيَّة : " وكلُّ واحدة من القراءتين تحتمل أن يراد بها الاغتسال بالماء ، وأن يراد بها انقطاع الدَّم وزوال أذاه " .
قال : " وَمَا ذَهَبَ إليه الطَّبريُّ مِنْ أنَّ قِرَاءَةَ التَّشْدِيد مُضَمَّنُها الاغتسال ، وقراءة التَّخفيف مُضَمَّنُها انْقِطَاعُ الدَّمِ أمرٌ غيرُ لاَزِم ، وكذلك ادِّعَاؤهُ الإجماع " وفي رد ابن عطيَّة عليه نظرٌ ؛ إذ لو حملنا القراءتين على معنى واحدٍ لزم التِّكرار . ورجَّح الفارسيُّ قراءة التَّخفيف ؛ لأنها من الثلاثي المضادِّ لطمث وهو ثلاثي .
فصل في ورود لفظ الطهور في القرآن
قال أبو العبَّاس المقري : ورد لفظ " الطُّهُورِ " في القرآن بإزاء تسعة معانٍ :
الأول : انقطاع الدَّم ، قال تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } [ البقرة :222 ] ، أي : حتى ينقطع الدَّم .
الثاني : الاستنجاء بالماء ؛ قال تعالى : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } [ التوبة :108 ] ، أي : يستنجون بالماء .
الثالث : الاغتسال ، قال تعالى : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ } [ البقرة :222 ] أي : اغْتَسَلْنَ .
الرابع : التَّنظيف من الأدناس ، قال تعالى : { وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } [ البقرة :25 ] .
الخامس : التَّطهُّر من الذُّنوب ؛ قال تعالى : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ } [ الواقعة :79 ] ، ومثله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ } [ التوبة :103 ] .
السادس : التَّطهير من الشّرك ، قال تعالى : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } [ الحج :26 ] ، أي : طهره من الشرك .
السابع : الطهور الطيب ، قال تعالى : { ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } [ الأحزاب :53 ] أي أطيب .
الثامن : الطهور الحلّ ، قال تعالى : { هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } [ هود :78 ] ، أي : أحل .
التاسع : التطهر من الرّجس ، قال تعالى : { وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } [ الأحزاب :33 ] ، أي : من الآثام والرِّجس .
فصل في بيان النَّهي عن الإتيان هل بعد انقطاع الدم أو الاغتسال .
استدلّ أبو حنيفة رضي الله عنه بقوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } بأنه نهيٌ عن قربانهن إلى غاية ، وهي أن يطهرن ، أي ينقطع حيضهنّ ، وإذا كان انقطاع الحيض غايةً للنَّهي ؛ وجب أن يزول النَّهي عند انقطاع الحيض .
وأجيب بأنَّه لو اقتصر على قوله " حَتَّى يَطْهُرْنَ " ، لكان ما ذكرتم لازماً أما إذا انضم إليه قوله : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ } صار المجموع هو الغاية ، وذلك بمنزلة أن يقول الرَّجل : لا تكلِّم زيداً حتى يدخل الدَّار ، فإذا طابت نفسه بعد الدُّخول ، فكلّمه ، فإنّه يجب أن يتعلّق إباحة كلامه بالأمرين جميعاً .
فإن قيل : يحمل قوله : " فَإِذَا تَطَهَّرْنَ " على غسل الموضع ، فإنَّه يجب غسله بإجماع ، فالجواب أنَّ ظاهر قوله : " فَإِذَا تَطَهَّرْنَ " حكم عائد إلى ذات المرأة ، فوجب أن يكون هذا التَّطهير في كلّ بدنها لا في بعض بدنها ، وأيضاً فنحمله على التَّطهير الثَّابت في المستحاضة لثبوته في الحيض ، والمراد به الاغتسال ، إذا أمكن وجود الماء .
فصل في هل تجبر الكتابيَّة على الاغتسال من الحيض
اختلفوا في الكتابيَّة ؛ هل تجبر على الغسل ؟
فقيل تجبر لقوله تعالى : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } يعني بالماء ، ولم يخص مسلمة من غيرها .
وقيل : لا تجبر ؛ لأنها لا تعتقد ذلك ، وقال تعالى : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } [ البقرة :228 ] وهو الحيض والحمل ، وهذا خطاب للمؤمنات . وقال : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ }
قوله : " فَإِذَا تَطَهَّرْنَ " يعني اغتسلن ، " فَأْتُوهُنَّ " أي : فجامعوهنّ .
قوله : { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ } في " مِنْ " قولان :
أحدهما : أنَّها لابتداء الغاية ، أي : من الجهة الَّتي تنتهي إلى موضع الحيض .
والثاني : أن تكون بمعنى " في " ، أي : في المكان الذي نهيتم عنه في الحيض .
قال ابن عبَّاس ، ومجاهد وإبراهيم ، وقتادة وعكرمة : فأتوهنّ في المأْتى ؛ فإنَّه هو الذي أمر الله به{[3492]} ولا تأتوهنّ في غير المأْتى ؛ لقوله : { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ } أي : في حيث أمركم الله ؛ كقوله : { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ } [ الجمعة :9 ] ، أي : في يوم الجمعة ، وقوله : { مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأَرْضِ } [ فاطر :40 ] ، أي : في الأرض . ورجَّح هذا بعضهم ، وفي الكلام حذفٌ ، تقديره : " أَمَرَكُم اللهُ بالإِتيَان منه " يعني : أنَّ المفعول الثَّاني حذف للدلالة عليه .
قال الأصمُّ والزَّجَّاج{[3493]} : فأتوهنَّ بحيث يحلُّ لكم غشيانهنَّ ، وذلك بأن لا يكنَّ صائماتٍ ، ولا معتكفاتٍ ، ولا محرماتٍ .
وقال محمَّد بن الحنفيَّة{[3494]} : فأتوهنّ من قبل الحلال دون الفُجُور . والأقرب : قول ابن عباس ، ومن تابعه ؛ لأن لفظة " حَيْثُ " حقيقة في الكلِّ ، مجاز في غيرها .
قال أبو العبَّاس المقري : ترد " مِنْ " بمعنى " في " كهذه الآية ، وتكون زائدة ؛ كقوله تعالى : { يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } [ نوح :4 ] ، وقوله : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ } [ الشورى :13 ] أي : الدِّين ، وقوله : { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ } [ يوسف :101 ] ، أي الملك . وبمعنى " البَاءِ " ؛ قال تعالى : { يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ } [ غافر :15 ] أي : بأمره ، وقوله : { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ } [ الرعد :11 ] ، أي : بأمر الله ، وقوله : { وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ } [ النبأ :14 ] ، أي : بالمعصرات ، وبمعنى " عَلَى " ؛ قال تعالى : { وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ } [ الأنبياء :77 ] ، أي : على القوم .
قال القرطبيُّ{[3495]} : عبَّر عن الوطء هنا بالإتيان .
قوله : { إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } التَّوَّاب : هو المكثر من فعل ما يسمَّى توبةً ، وقد يقال : هذا في حقِّ الله تعالى ؛ من حيث إنه يكثر من قبول التَّوبة .
فإن قيل : ظاهر الآية يدلُّ على أنَّه يحبُّ تكثير التَّوبة مطلقاً ، والعقل يدلُّ على أن التَّوبة لا تليق إلاَّ بالمذنب ، فمن لم يكن مذنباً ، لا تجب منه التَّوبة .
الأول : أن المكلَّف لا يأمن البتَّة من التَّقصير .
والثاني : قال أبو مسلمٍ{[3496]} : التَّوبة في اللُّغة عبارة عن الرُّجوع ، ورجوع العبد إلى الله في كلِّ الأحوال محمودٌ .
واعترضه القاضي{[3497]} : بأن التَّوبة وإن كانت في أصل اللغة الرُّجوع إلا أنها في عرف الشَّرع عبارةٌ عن النَّدَم على الفعل الماضي ، والتَّرك في الحاضر ، والعزم على ألاَّ يفعل مثله في المستقبل ؛ فوجب حمله على المعنى الشَّرعيِّ دون اللُّغويّ .
ولأبي مسلم أن يجيب : بأنّ مرادي من هذا الجواب ، أنّه إن أمكن حمل اللَّفظ على التَّوبة الشَّرعيَّة ، فقد صحَّ اللَّفظ ، وإن تعذَّر ذلك ، حملناه على التَّوبة بحسب اللُّغة الأصليَّة .
قوله : { وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } فيه وجوه :
أحدها : المراد منه التَّنزُّه عن الذُّنوب والمعاصي ، قاله مجاهد{[3498]} .
فإن قيل : كيف قدَّم ذكر المذنب على من لم يُذنب ؟
فالجواب : قدَّمه لئلا يقنط التَّائب من الرَّحمة ، ولا يعجب المتطهِّر بنفسه ؛ كقوله في آيةٍ أخرى : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } [ فاطر :32 ] ، قاله القرطبي{[3499]} .
الثاني : قال عطاء ومقاتل بن سليمان والكلبيّ : " يُحِبُّ التَّوَّابِينَ من الذُّنُوبِ ، والمتَطَهِّرِين بالمَاءِ من الأَحْدَاثِ والنَّجَاسَاتِ " {[3500]} .
الثالث : قال مقاتل بن حيَّان : يحب التَّوَّابين من الذُّنُوب ، والمتطهِّرين من الشِّرك{[3501]} .
الرابع : قال سعيد بن جبير : التَّوَّابين من الشِّرك ، والمتطهِّرين من الذُّنوب{[3502]} .
الخامس : أن المراد ألا يأتيها في زمان الحيض ، وألاَّ يأتيها في غير المأتى على ما قال : { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ } .
قال بعضهم : وهذا أولى ؛ لأنه أليق بنظم الآية ، ولأنَّه تعالى قال حكاية عن قوم لوطٍ : { أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } [ الأعراف :82 ] ، فكان قوله : { وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } ترك الإتيان في الأدبار .
السادس : أنَّه تعالى لمَّا أمرهنّ بالتَّطهير في قوله : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } ، فلا حرم مدح التَّطهير ، فقال : { وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } والمراد منه التَّطهير بالماء ؛ قال تعالى : { رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } [ التوبة :108 ] ، قيل في التَّفسير : إنهم كانوا يستنجون بالماء ، وكرَّر قوله " يُحِبُّ " ؛ دلالةً على اختلاف المقتضي للمحبَّة ، فتختلف المحبَّة .