قال القرطبيُّ : لا جناح ، أي : لا إِثْمَ{[3834]} والجناحُ : الإثمُ ، وهو أصح في الشَّرع .
وقيل : بل هو الأَمر الشاقُّ ، وهو أصحُّ في اللغة ؛ قال الشَّمَّاخ : [ الوافر ]
إِذَا تَعْلُو بِرَاكِبِهَا خَلِيجاً *** تَذَكَّرُ مَا لَدَيْهِ مِنَ الجُنَاحِ{[3835]}
و " التَّعْريضُ " في اللغة : ضدُّ التصريح ، ومعناه : أن يضمِّن كلامَهُ ما يصلحُ للدَّلالة على مقصُوده ، ويصلُحُ للدَّلالة على غير مقصُوده ، إلا أن إشعَاره بجانب المقصُود أتَمُّ وأرجحُ .
وأصلُهُ مِنْ عُرض الشيء ، وهو جانبُهُ ؛ كأنَّه يحوم حولَهُ ؛ ولا يظهر ، ونظيره أن يقول المُحتاج للمحتاج إليه : جئتُكَ لأُسلمَ عَلَيك ، ولأنْظر إلى وجهك الكريم ؛ ولذلك قال : [ الطويل ]
. . . *** وَحَسْبُكَ بِالتَّسْلِيمِ مِنِّي تَقَاضِيَا{[3836]}
والتعريض قد يُسمَّى تلويحاً ؛ لأنَّه يَلُوحُ منه ما يريدُه ، والفرقُ بين الكناية والتعريض : أنَّ الكناية ذكرُ الشَّيء بذكر لوازمه ؛ كقولك فلانٌ طويلُ النجادِ ، كثيرُ الرماد ؛ لأنَّ النجاد عبارةٌ عن حَمِيلَةِ السَّيفِ ، إذا كانت حميلةُ سيفهِ طويلةً ، لزم منه أن يكونَ الرَّجُل طويلاً ، وكذلك إذا كان كثير الرمَادِ ، لزم منه أن يكون كثير الطَّبخ للأَضياف ، وغيرهم ، والتعريضُ أنْ يذكر كلاماً يحتمل المقصُود وغيره ، إلاَّ أنَّ قرينة الحال تؤكِّد حمله على المقصُود .
وقال الفراء{[3837]} : الخِطْبَةُ مصدرٌ بمعنى الخَطْب ، وهي مثل قولك : إِنَّه لَحَسَنُ القِعْدةِ والجِلْسَةِ تريد : القُعُود والجُلُوس والخطبَةُ مصدرٌ في الأصل بمعنى الخَطْبِ ، والخَطْب : الحاجة ، ثم خُصَّت بالتماس النكاح ؛ لأنه بعضُ الحاجات ، يقال : ما خَطْبُكَ ؟ أي : ما حاجتُك . وفي اشتقاقه وجهان :
الأول : الأمر والشأن يقال ما خطبُكَ ؟ أي : ما شأنُكَ ؟ فقولهم : خَطَبَ فلانٌ فُلانَةً ، أي : سَأَلَهَا أَمراً وشأناً في نفسِها .
والثاني : أصلُ الخِطْبة من الخطابة الَّذي هو الكلامُ ، يقال : خَطَبَ المرأة ، أي : خاطبها في أمر النِّكاح ، والخطب : الأمر العظيم ؛ لأنَّه يحتاجُ لخطاب كثيرٍ . والخطبة بالضَّم ، الكلامُ المشتملُ على الوعظِ والزَّجرِ ، وكلاهما من الخَطْبِ الذي هو الكلامُ ، وكانت سَجاح يُقال لها خِطْبٌ فتقول : نِكْحٌ .
قوله تعالى : { مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ } في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : الهاءُ المجرورةُ في " بِهِ " .
والثاني : " مَا " المجرورة ب " فِي " ، والعاملُ على كِلا التقديرين محذوفٌ ، وقال أبو البقاء{[3838]} : حالٌ من الهاءِ المجرورةِ ، فيكونُ العاملُ فيه " عَرَّضْتُمْ " ، ويجوزُ أن يكونَ حالاً من " مَا " فيكونُ العاملُ فيه الاستقرارَ . قال شهاب الدين : وهذا على ظاهره ليس بجيِّدٍ ؛ لأنَّ العاملَ فيه محذوفٌ ؛ على ما تقرَّر ، إلا أَنْ يريدَ من حيث المعنى لا الصناعةُ ، فقد يجوزُ له ذلك .
والخِطبة بكسر الخاء - فعلُ الخاطِب - : من كلام وقصدٍ ، واستلطافٍ ، بفعل أَو قولٍ . يقال : خطبها يخطبها خطباً ، أو خطبةً ، ورجل خَطّاب كثيرُ التصرفِ في الخطبةِ ، والخطيبُ : الخاطِبُ ، والخِطِّيبَى : الخِطْبة ، والخطبة فعلهُ : كجلسةٍ ، وقعدةٍ ، وخُطبة - بضمِّ الخاءِ - هي الكلامُ الذي يقال في النكاح ، وغيره .
قال النحاس : " والخُطبة " ما كان لها أَوَّل وآخِر ، وكذلك ما كان على فعله ، نحو الأَكلة ، والضَّغطَة{[3839]} .
فصل في جواز التعريض بالخطبة في عدة الوفاة
التعريضُ بالخطبة مباحٌ في عدَّة الوفاة ، وهو أَنْ يقول : رُبَّ راغبٍ فيك ، ومَنْ يجدُ مثلك ، إنَّك لجميلة إنَّك لصالِحَةٌ ، إنّك عليّ كريمةٌ ، إنِّي فيك لراغِبٌ ، وإن مِنْ غرضي أَنْ أَتزوَّج ، وإِنْ جمع اللهُ بيني وبينك بالحلالِ أعجبتني ، وإِنْ تزوَّجتُك لأُحسن إليك ، ونحو ذلك من الكلامِ ، من غير أَنْ يقول : أَنحكيني .
والمرأةُ تجيبه بمثله ، إِنْ رغبتْ فيه .
وقال إبراهيم : لا بأس أَنْ يُهدي لها ويقوم بشغلها في العدة ، إذا كانت غير شابةٍ{[3840]} .
روي أَنَّ سُكَيْنةَ بنت حنظلة ؛ بانت من زوجها ، فدخل عليها أَبُو جعفرٍ محمَّد بن علي الباقر في عِدّتها ، وقال : يا ابنة حنظلة ، أنا مَنْ قد عَلِمْت قرابتي مِنْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وحقَّ جَدِّي عليِّ ، وقدَمي في الإسلام ، فقالت له سُكينة : أَتخطبني وأنا في العدَّة ، وأَنْتَ يؤخذُ عنك ؟ فقال أو قد فعلت ؟ إِنَّما أخبرتُك بقرابتي مِنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم{[3841]} - .
وقد دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أُمِّ سلمة ، وهي في عِدَّةٍ من زوجها ، أبي سلمة ، فذكر لها منزلتهُ مِنَ الله - عز وجلَّ - وهو متحامِلٌ على يده ؛ حتَّى أثَّر الحصيرُ في يده من شدَّة تحامله على يده{[3842]} .
والنٍّساء في حكم الخِطبة على ثلاثة أقسامٍ :
الأول : التي يجوز خِطْبتُها تعريضاً ، وتصريحاً ، وهي الخاليةُ عن الأَزْوَاجِ والعدد إلاَّ أَنْ يكونَ خطبها غيره ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : " لا يَخْطِبَنَّ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيْهِ " ، وهذا الحديثُ وإِنْ كان مطلقاً ففيه ثلاثةُ أجوالٍ :
الحالة الأولى : أَنْ يخطب الرجلُ ، فيجاب صريحاً ؛ فهاهنا لا يَحِلُّ لغيره أَنْ يخطبها .
الحالة الثانية : أَنْ يُجابَ بالردِّ صريحاً ؛ فهاهنا يَحِلُّ لغيره أَنْ يخطبها .
الحالة الثالثة : ألاَّ يوجد صريحُ الإجابة ، ولا صريحُ الرَّدِّ ؛ فهاهنا فيه خلافٌ .
فقال بعضهم تجوزُ خطبتها ؛ لأَن السكوتَ لَمْ يدُلَّ على الرِّضا وهو الجديدُ عن الشَّافعيَّ .
وقال مالكٌ : لا يجوزُ ، وهو القديمُ ؛ لأنَّ السكوت وإِنْ لم يدُلَّ على الرضا ، لكنه لا يدلُّ أيضاً على الكراهة ، فربَّمَا حصلت الرغبةُ مِنْ بعضِ الوجوه ؛ فتصيرُ هذه الخِطبةُ الثانية مزيلة لذلك القدر من الرغبة .
القسم الثاني : التي لا تجوز خِطْبتُها ؛ لا تصريحاً ، ولا تعريضاً ، وهي زوجة الغير ؛ لأَنَّ خطبتها ربما صارت سبباً لتشويش الأَمر على زوجها ، مِنْ حيثُ إنها إذا علمت رغبة الخاطب ، فربما حملها ذلك على الامتناع مِنْ تأدية حُقُوق الزوج ، والتسبب إلى هذا حرامٌ ، والرجعية كذلك ؛ لأنها في حكم الزوجة ؛ لصحة طلاقها ، وظهارها ، ولعانها ، وعِدَّتُها منه عِدَّة الوفاة إذا مات عنها ويتوارثان .
القسم الثالث : أَنْ يفصل في حقِّها بين التعريض ، والتَّصريح ، وهي المعتدة غير{[3843]} الرجعيَّة ، وهي ثلاثة أقسامٍ :
الأول : المعتدة عِدَّة الوفاةِ ، يجوز خطبتها تعريضاً ؛ لقوله تعالى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ } فظاهره أنها المتوفَّى عنها زوجها ؛ لأنها مذكورةٌ عقب تلك الآية ، ولمّا خُصِّصَ التعريضُ بعدم الجناح ، دلّ على أنّ التصريحَ بخلافِهِ ، والمعنى يُؤكِّدُه ؛ لأن التصريح لا يحتمل غير النكاح ، فربما حملها الحِرص على النكاح ، على الإِخبار بانقضاء العِدَّة قبل أَوانها بخلافِ التعريضِ ، فإنَّه يحتمل غير ذلك ، فلا يدعوها إلى الكذب .
الثاني : المعتدةُ عن الطلاق الثلاث ، والبائن باللِّعان والرَّضاع ففي جواز التعريض بخطبتها خلافٌ .
فقيل : يجوز التعريض بخطبتها ، لأنّها ليست في نكاحٍ ، فأشبهت المتوفى عنها .
وقيل : لا يجوزُ لأنّ عدتها بالأَقراءِ ، فلا يُؤمن عليها الكَذِب في الإخبارِ بانقضاء عدَّتها ؛ لرغبتها في الخُطَّاب .
الثالث : البائِنُ لطلاقٍ أَوْ فسخٍ ، وهي التي يجوزُ لزوجها نكاحُها في عدَّتها كالمختلعة ، والتي انفسخ نكاحُها بعيبٍ أو عُنَّةٍ ، أَو إعسار نفقةٍ ، فهذه يجوزُ لزوجها التصريحُ ، والتعريضُ ؛ وأَمَّا غيرُ الزوج ، فلا يحلُّ له التصريحُ ، وفي التعريض خلافٌ ، والصحيحُ : أنّه لا يحِلُّ لأنها مُعتدةٌ ، تحلُّ للزوجِ أَنْ يستنكحها في عِدَّتها ، فلم يحلَّ التعريض لها كالرجعية .
وقيل : هي كالمتوفَّى عنها زوجها ، والمطلقة ثلاثاً .
قوله تعالى : " أَوْ أَكْنَنتُمْ " " أَوْ " هنا للإباحةِ ، أو التخيير ، أو التفصيلِ ، أو الإِبهامِ على المخاطبِ ، " وأَكَنَّ " في نفسِهِ شيئاً ، أي : أَخْفَاهُ ، وكَنَّ الشيء بثوبٍ ونحوه : أي سَتَرَهُ به ، فالهمزةُ في " أَكَنَّ " للتفرقة بين الاستعمالَيْنِ ك " أَشْرَقَتْ ، وشَرَقَتْ " .
وقال الفراءُ{[3844]} : للعرب في " أَكْنَنْتُ الشَيْءَ " أي : سترتهُ ، لغتان : كنَنْتُه ، وأَكْنَنْتُه في الكِنِّ ، وفي النَّفْس ؛ بمعنى ، ومنه { مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ } [ القصص :69 ] ، و{ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } [ الصافات :49 ] وفرَّق قومٌ بينهما ، فقالوا : كننتُ الشيء ، إذا صُنته حتَّى لا تُصيبه آفةٌ ، وإن لم يكن مستُوراً يقال : دُرٌّ مكنونٌ وجاريةٌ مكنونةٌ ، وبيضٌ مكنونٌ مصونٌ عن التدحرج ؛ وأمَّا " أَكْنَنْتُ " فمعناه : أضمرت ويستعمل ذلك في الشيء الذي يُخفيه الإنسانُ ، ويستره عن غيره ، وهو ضِدُّ أَعْلنتُ وأظهرت ، ومفعول " أكنَّ " محذوفٌ يعودُ على " ما " الموصولة في قوله : " فِيمَا عَرَّضْتُمْ " أي : أو أكْنَنْتُمُوهُ ، ف " فِي أَنْفُسِكُمْ " متعلِّقٌ ب " أَكْنَنتُمْ " ، ويضعُفُ جعلُهُ حالاً من المفعولِ المقدَّرِ .
فصل في عدوم وجوب الحد بالتعريض
استدلَّ بعضهم{[3845]} بهذه الآية على أنَّه لا يجب الحدُّ بالتعريض بالقذف [ لأن الله تعالى لمَّا دفع الجَرَج في التعريض بالنِّكاح ، دلَّ على أنَّ التعريض بالقذف ]{[3846]} لا يوجب الحد .
وأُجيب بأنّ الله تعالى لم يحلَّ التصريح بالخطبة في النكاح للمعتدَّة ، وأَذِن في التعريض الذي يُفهم منه النكاحُ ، فهذه يدلُّ على أَنَّ التعريض يُفهم منه القذف{[3847]} والأعراضِ يجب صيانتها ، وذلك يوجب الحدَّ على المعرِّض ؛ لئلا يتعرض الفسقةُ إلى أخذ الأَعراضِ بالتعريض الذي يُفهم منه ما يُفهم بالتصريح .
والمقصودُ من الآية أَنّه لا حرج في التعريض للمرأة في عِدَّة الوفاة ، ولا فيما يُضمره الرجلُ من الرغبة فيها .
فإن قيل : إنَّ التعريضَ بالخطبة أعظم حالاً مِنْ أَنْ يميل بقلبه إليها ، ولا يذكر باللِّسان شيئاً ، فلمّا قدّم جواز التعريض بالخطبة ، كان قوله بعد ذلك { أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ } جارٍ مجرى إيضاح الواضحات .
فالجواب : ليس المرادُ ما ذكرتم ، بل المرادُ أنّه أباح التعريض ، وحرّم التصريح في الحالِ ، ثم قال : { أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ } والمرادُ : أَنْ يعقد قلبه على أنه سيصرحُ بذلك في المستقبلِ ، ففي أوَّل الآيةِ أباح التعريض في الحالِ ، وحرَّم التصريح في الحالِ ، وهاهنا أباح له أن يعقد عليه على أنَّه سيصرِّحُ بذلك بعد انقضاء العدّة ، ثم إنّه تعالى ذكر الوجه الذي لأجله أباح ذلك ، فقال : " عَلِمَ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ " لأنَّ شهوةَ النفس إذا حصلت للنكاح ، لا يكاد يخلُو ذلك المشتهي من العزم ، والتَّمَنِّي ، فلمّا كان دفع هذا الخَاطر ، كالشيء الشَّاقِّ أَسقط عنه هذا الحرج ، وأباحَ له ذلك ، ثُمَّ قال : { وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } وهذا الاستدراك فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه استدراكٌ من الجملةِ قبله ، وهي قوله : " سَتَذْكُرُونَهُنَّ " ؛ فإنَّ الذِّكر يقع على أنحاء كثيرةٍ ، ووجوهٍ متعددةٍ ، فاسْتُدْرِكَ منه وجهٌ نُهِيَ فيه عن ذِكْرٍ مخصُوص ، ولو لم يُسْتَدْرَكْ ، لكانَ من الجائز ؛ لاندراجِهِ تحت مطلقِ الذِّكْرِ ، وهو نظيرٌ : " زَيْدٌ سَيَلْقَى خَالِداً ، ولَكِنْ [ لاَ ] يواجهُهُ بِشَرٍّ " ، لمَّا كانت أَحوالُ اللقاءِ كثيرةً ، من جملتها مواجهته بالشَّرِّ ، استُدْرِكَتْ هذه الحالةُ من بينها .
والثاني : - قاله أبو البقاء{[3848]} - : أنه مستدرَكٌ من قوله : " فِيمَا عَرَّضْتُمْ " وليس بواضحٍ .
والثالث : - قاله الزمخشريٌّ - أنَّ المُسْتَدْرَكَ منه جملةٌ محذوفةٌ قبل " لَكِنْ " تقديرُهُ : " فَاذْكُرُوهُنَّ ، وَلَكِنْ لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً " وقد تقدَّم أنَّ المعنى على الاستدرَاكِ من الجملةِ قبلَه ، فلا حاجة إلى حذف ؛ وإنما الذي يحتاجُهُ ما بعدَ " لَكِنْ " وقوعُ ما قبلها من حيثُ المعنى ، لا من حيثُ اللفظُ ؛ لأنَّ نَفْيَ المواجهةِ بالشَّرِّ يستدعي وقوعَ اللقاءِ .
قوله : " سِرّاً " فيه خمسةُ أوجهٍ :
أحدها : أن يكونَ مفعولاً ثانياً .
والثاني : أنه حالٌ من فاعلِ " تُوَاعِدُوهُنَّ " ، أي : لا تُوَاعِدُوهُنَّ مُسْتَخِفين بذلك .
والثالث : أنه نعت مصدرٍ محذوفٍ ، أي : مواعدةً سِرّاً .
والرابع : أنه حالٌ من ذلك المصدر المُعَرَّف ، أي : المواعدةَ مستخفيةً .
والخامس : أَنْ ينتصِبَ على الظرف مجازاً ، أي : في سِرٍّ .
وعلى الأقوالِ الأربعةِ : فلا بُدَّ من حذفِ مفعولٍ ، تقديرهُ : لا تُوَاعِدُوهُنَّ نِكَاحاً .
والسِّرُّ : ضدُّ الجهرِ : وقيل : يُطْلَقُ على الوَطْءِ ، وعلى الزِّنا بخُصُوصيَّةٍ ؛ وأنشدوا للحُطَيْئة : [ الوافر ]
وَيَحْرُمُ سِرُّ جَارَتِهِمْ عَلَيْهمْ *** وَيَأْكُلُ جَارُهُمْ أُنُفَ القِصَاعِ{[3849]}
وقول الآخر هو الأعشى : [ الطويل ]
وَلاَ تَقْرَبَنَّ جَارَةَ إِنَّ سِرَّهَا *** حَرَامٌ عَلَيْكَ فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَبَّدَا{[3850]}
مَوَانِعُ لِلأَسْرَارِ إِلاَّ مِنَ أهْلِهَا *** وَيُخْلِفْنَ مَا ظَنَّ الغَيُورُ الْمُشَفْشِفُ{[3851]}
أي : الذي شَغفه بهن ، يعني : أنهنَّ عفائفُ يمنعن الجماعَ إلاَّ من أَزواجِهِنَّ ؛ وقال امرؤ القيس : [ الطويل ]
أَلاَ زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ اليَوْمَ أَنَّني *** كَبِرتُ وَأَلاَّ يُحْسِنُ السَّرَّ أَمْثَالِي{[3852]}
اختلفوا في السِّرِّ هنا ، فقال قومٌ : هو الزِّنا ، كان الرجلُ يدخل على المرأةِ مِنْ أجلِ الزِّنْيَة وهو يُعرِّضُ بالنِّكاح{[3853]} ، ويقول لها : دعيني أُجامِعْكِ ، فإذا وَفَيْتِ عِدَّتك ، أظهرتُ نكاحك قاله الحسن ، وقتادة ، وإبراهيم ، وعطاءٌ{[3854]} ، ورواه عطيةٌ عن ابن عباس{[3855]} .
وقال زيد بن أسلم : أي : لا يُنْكِحها سرّاً فيمسكها فإذا حلّت ، أظهرت ذلك{[3856]} .
وقال مجاهدٌ : هو قول الرجل لا تفوِّتيني بنفسك ، فإنِّي ناكِحُك{[3857]} . وقال الشعبيُّ ، والسدّيُّ : لا يؤخَذُ ميثاقها ، ألاَّ ينكح غيرها{[3858]} . وقال عكرمة : لا يخطبها في العِدَّة{[3859]} .
وقال الكلبيُّ ورُوِيَ عن ابن عباس : أي تصفُوا أنفُسكم لهُنَّ بكثرةِ{[3860]} الجماع ، فيقول آتيتك الأَربعة والخَمْسَة ، وأشباه ذلك ، وإنما قيل للزِّنا والجماع سِرّاً ؛ لأنه يكون في خفاءٍ بين الرجل والمرأةِ .
فصل في كراهة المواعدة في العدّة
حكى القرطبيُّ{[3861]} ، عن ابن عطيَّة ، قال : أجمعتِ الأُمَّةُ على كراهة المواعدة في العدة للمرأة في نفسها ، وللأَبِ في ابنته البِكْر ، والسيّد في أمتِه . قال ابن المواز : وأمّا الوليّ الذي لا يملكُ الجبر ، فأكرهُهُ .
وقال مالكٌ - رحمه اللهُ - فيمَنْ يواعد في العدَّة ، ثم يتزوج بعدها : فراقها أَحَبُّ إليّ ، دخل بها ، أو لم يدخل ، وتكون تطليقةً واحدةً هذه رواية ابن وهبٍ ، وروى أشهب عن مالكٍ ، أنّه يفرِّق بينهما إيجاباً ، وقاله ابنُ القاسِمِ ، وحكى ابن الحارِث مثلهُ عن ابن الماجشون ، ورأى ما يقتضي أَنَّ التحريم يتأبدُّ ، وقال الشافعيُّ إِنْ صرَّح بالخطبة ، وصرَّحت له بالإجابة ، ولم ينعقد النكاح [ حتى ] تنقضي العِدَّة ، فالنكاح ثابت [ والتصريح لهما مكروهٌ ]
قوله : { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ } في هذا الاستثناءِ قولان :
أحدهما : أنه استثناءٌ منقطعٌ ؛ لأنه لا يندرج تحت " سِرّ " على أيِّ تفسيرٍ فَسَّرْتَه به ، كأنه قال لكنْ قولُوا قولاً معروفاً .
والثاني : أنه متصلٌ ، وفيه تأويلان ذكرهما الزمخشري فإنه قال : فَإِنْ قلتَ : بِمَ يَتَعَلَّقُ حرفُ الاستثناء ؟ [ قلتُ ] : ب " لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ " ، أي : لا تواعِدُوهُنَّ مواعدةً قطٌّ إلا مواعدةً معروفةً غيرَ مُنْكَرَةٍ ، أو لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ إلا بأَنْ تقولوا ، أي : لا تواعِدُوهُنَّ إلاَّ بالتعريضِ ، ولا يكونُ استثناءً منقطعاً من " سِرّاً " ؛ لأدائِهِ إلى قولك : " لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ إلاَّ التعرِيضَ " انتهى ، فجعلَهُ استثناءً متصلاً مُفَرَّغاً على أحدِ تأويلين :
الأول : أنه مستثنىً من المصدرِ ؛ ولذلك قدَّره : لا تواعِدُوهُنَّ مواعدةً إلاَّ مواعدةً معروفةً .
والثاني : أنه من مجرور محذوفٍ ؛ ولذلك قَدَّره ب " إِلاَّ بَأَنْ تَقُولُوا " ؛ [ لأنَّ التقدير عنده : لا تُوَاعِدُوهُنَّ بشيءٍ ، إلا بَأَنْ تقولُوا ، ثم أَوْضَحَ قوله بأنْ تَقُولُوا ] بالتعريض ، فلمَّا حُذِفَت الباءُ من " أَنْ " ، وهي باءُ السببيةِ بقي في " أَن " الخلافُ المشهورُ بعد حذفِ حرفِ الجرِّ ، هل هي في محلِّ نصبٍ أم جَرٍّ ؟ وقوله : " لأدائِهِ إلى قولك . . . إلى آخره " يعني أنه لا يصِحُّ تسلُّط العامِل عليه ، فإنَّ القولَ المعروفَ عندَهُ المرادُ به التعريضُ ، وأنت لو قلْتَ : " لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ إِلاَّ التَّعْرِيض " لأنَّ التعريض ليس مواعداً .
وردَّ عليه أبو حيان : بأنَّ الاستثناء المنقطع ليس مِنْ شرطِهِ صحَّةُ تسلُّطِ العامِل عليه ، بل هو على قسمين : قسم يَصِحُّ فيه ذلك ، وفيه لغتان : لغةُ الحجازِ وجوبُ النصب مطلقاً ، نحو : " مَا جَاءَ أَحَدٌ إِلاَّ حِمَاراً " ولغةُ تميم إجراؤه مجرى المتصل ، فيجرونَ فيه النصبَ والبدلية بشرطه . وقِسْم لا يصحُّ فيه ذلك ، نحو : " مَا زَادَ إِلاَّ مَا نَقَصَ " ، و " مَا نَفَعَ إِلاَّ مَا ضَرَّ " ، وحكمُ هذا النّصبُ عند العرب قاطبةً ، فالقسمان يشتركان في التقديرِ ب " لَكِنْ " عند البصريين ، إلاَّ أنَّ أحدهما يصحُّ تسلُّط العامِل عليه في قولك : " مَا جَاءَ أَحَدٌ إِلاَّ حِمَار " لو قلت : " مَا جَاءَ إِلاَّ حِمَارٌ " ، صَحَّ ؛ بخلافِ القسمِ الثاني ؛ فإنَّه لا يتوجَّه عليه العامل وقد تقدم البحثُ في مثل هذا كثيراً .
قال بعضُ المفسرين : هو التعريض بالخطبة .
وقال آخرون : لمّا أُذِن في أوّل الآيةِ بالتعريض ، ثم نهي عن المسارَّة معها ؛ دفعاً للريبةِ ، استثني منه المسارَّة بالقولِ بالمعروفِ ، وهو أَنْ يعدها في السرِّ بالإحسان إليها ، والاهتمام بشأنها ، والتكفُّل بمصالحها ؛ حتى يصير ذِكرُ هذه الأَشياء الجميلة ، مُؤكِّداً لذلك التعريض .
قوله : " وَلاَ تَعْزِمُواْ " في لفظ " العَزْمِ " وجوه :
الأول : أنّه عبارةٌ عن عقدِ القلب على فعلٍ من الأَفعالِ ، قال تعالى : { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ } [ آل عمران :159 ] فلا بُدَّ في الآيةِ من إضمار فعلٍ ، وهذا اللفظ إنما يُعَدَّى للفعل بحرفِ " عَلَى " فيقال : فلان عزم على كذا ، فيكونُ تقدير الآيةِ : " ولا تَعْزمُوا على عُقدة النكاح حتى يبلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ " والمقصودُ منه المبالغة في النهي عن النكاح في زمان العِدَّة ، فإنّ العزم متقدمٌ على المعزوم عليه ، فإذا ورد النهي عن الإِقدام على المعزوم عليه كان أولى .
الثاني : أنَّ العزم عبارةٌ عن الإِيجاب ، يقال : عزمتُ عليكم ، أي : أَوجبتُ ، ويقال هذا من باب العزائم ، لا من باب الرُّخَصِ ؛ وقال - عليه الصلاة والسلام – " عَزْمَةٌ مِنْ عَزَائِمِ رَبِّنَا " {[3862]} وقال : " إِنَّ اللهَ تَعالى يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا تُؤْتَى عَزَائِمُهُ " {[3863]} ، فالعزمُ بهذا المعنى جائزٌ على الله تعالى ، وبالوجه الأول لا يجوز .
وإذا ثبتَ هذا فنقولُ : الإيجابُ سببُ الوجود ظاهراً ، فلا يبعد أَنْ يُستفاد لفظ العزمِ من الوجودِ ، وعلى هذا فقوله : { وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ } ، أي : لا تحقِّقُوا ، ولا تُنْشئُوا ، ولا تُفرِّعوا منه فعلاً ؛ حتى يبلغ الكتابُ أَجَلَهُ وهذا اختيارُ أَكْثَر المحققين .
الثالث : قال القفَّال{[3864]} : إنما لم يقُلْ : ولا تعزِمُوا على عقدةِ النكاح ؛ لأن معناهُ : ولا تعقدوا عُقْدة .
قال القرطبيُّ : عزم الشيء عليه قال تعالى : { وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ } [ البقرة :227 ] وقال هنا : { وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ } . وحكى سيبويه : ضُرِبَ فلانٌ الظهر والبطنَ أي : " عَلَى " .
قال سيبويه : والحذفُ في هذه الأَشياء لا يقاسُ عليه .
وقال النحاسُ{[3865]} : ويجوز أَنْ يكون ولا تعقِدُوا عُقدة النكاح ؛ لأَنَّ معنى " تَعْزِمُوا " و " تَعْقِدُوا " واحدٌ .
ويقال : تعزُمُوا ، بضم الزاي .
اعلم أنَّ الإِنسان إذا فعل فعلاً فلا بُدَّ أَنْ يتقدَم ذلك الفعلَ ستُّ مُقَدِّماتٍ .
الأولى : أن يسنح له ذلك الفعل ، ومعنى " يَسْنَحُ له " : أن يَجْنح إلى فعله ، ويعرِضُ له فعله .
وثانيها : أَنْ يفكِّر في فعله أَنْ يفعله ، أم لا .
وثالثها : أن يخطِرَ بباله فعله ، بمعنى أنه يترجَّحُ فعله على تركه .
وخامسها : أَنْ يَهمّ بفعله ، وهو عزمٌ غيرَ جازِمٍ .
وسادسها : أَنْ يعزِم عَزْماً جازِماً فيفعله .
وأَصل العقد : الشدُّ ، والمعهود ، والأنكحةُ تُسمَّى عُقُوداً لأنها تعقد كعقود الحبل في التوثيق .
قوله : " عُقْدَةَ " في نصبه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مفعولٌ به على أنه ضمَّن " عَزَمَ " معنى ما يتعدَّى بنفسه ، وهو : تَنْوُوا أو تُبَاشِرُوا ، ونحو ذلك .
والثاني : أنه منصوبٌ على إسقاط حرف الجر ، وهو " عَلَى " ؛ فإنَّ " عَزَمَ " يتعدَّى بها ، قال : [ الوافر ]
عَزَمْتُ عَلَى إقَامةِ ذِي صَبَاحٍ *** لأَمْرٍ مَّا يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ{[3866]}
وحذفها جائز ، كقول عنترة ، [ الكامل ]
وَلَقَدْ أَبِيتُ عَلَى الطَّوَى وَأظَلُّهُ *** حَتَّى أَنَالَ بِهِ كَرِيمَ المَطْعِمِ{[3867]}
والثالث : أنه منصوبٌ على المصدر ؛ فإنَّ المعنى : ولا تعقدوا عقدة ؛ فكأنه مصدرٌ على غير الصَّدر ؛ نحو : قعدت جلوساً ، والعقدة مصدرٌ مضاف للمفعول ، والفاعل محذوفٌ ، أي : عُقْدتكم النِّكاح .
قوله تعالى : { حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } في " الكتاب " وجهان :
أحدهما : أن المراد به المكتوب ، والمعنى : حتى تبلغ العدَّة المفروضة آخرها .
الثاني : أن يكون المراد " الكتابَ " نفسه ، لأنه في معنى الفرض ؛ كقوله :
{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } [ البقرة :183 ] فيكون المعنى : حتى يبلغ هذا التكليف آخره ونهايته ، وقال تعالى : { إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً }
قال القرطبي{[3868]} : وقيل : في الكلام حذف ، أي : حتى يبلغ فرض الكتاب أجله ، فالكتاب على هذا المعنى بمعنى القرآن .
ثم قال تعالى : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ } وهذا تنبيه على أنّه تعالى لمّا كان عالماً بالسرّ ، والعلانية ؛ وجب الحذر منه في السرِّ ، والعلانية ، فالهاء في " فَاحْذَرُوهُ " تعود على الله تعالى ، ولا بدَّ من حذف مضاف ، أي : فاحذروا عقابه . ويحتمل أن تعود على " مَا " في قوله " مَا فِي أَنْفُسِكُمْ " بمعنى ما في أنفسكم من العزم على ما لا يجوز ، قاله الزمخشريُّ .
ثم قال : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } أي : لا يعجِّل بالعقوبة .