في تعلُّق هذه الآية بما قَبْلَها وجوه :
أحدها : أنه - تعالى - لمَّا أمَر{[9031]} الرَّسُول - [ عليه الصلاة والسلام ]{[9032]} - بأن يحرَّض الأمَّة على الجِهَاد ، وهو طاعَةٌ حَسَنةٌ ، بيَّن في هذه الآية{[9033]} أنَّ من يَشْفَع شَفَاعة حَسَنَة يَكُنْ له نَصِيبٌ مِنْهَا ، والغَرَض مِنْه : أنه - عليه الصلاة والسلام - يستَحِقُّ بالتَّحْرِيضِ على الجِهَاد أجْراً عَظِيماً .
وثانيها : أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يوصِيهم{[9034]} بالقِتَال ، ويبالِغُ في تَحْرِيضهم عليه ، فكان بَعْضُ المُنَافِقِين يَشْفَع إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم في أن يأذَن لَهُم في التَّخَلُّف عن الغَزْوِ ، فنهى [ الله ]{[9035]} عن مثل هَذِه الشَّفَاعَة ، وبيَّن أن [ هَذِه ]{[9036]} الشَّفاعة إذا كَانَت وَسِيلَة إلى مَعْصِيَةٍ ، كانت مُحَرَّمَة .
وثالِثُها : أنَّه يجُوز أن يَكُون بعض المُؤمنِين راغباً في الجِهَاد ، ولا يَجِد أهْبَة الجِهاد ، فصار غَيْرُهُ من المُؤمنِين شَفِيعاً له إلى مُؤمِنٍ آخر ؛ ليعِيِنه على الجِهَاد ، والشَّفَاعَة مأخُوذَة من الشَّفْع وهو الزَّوج من العَدَد ، ومنه الشَّفِيع ، [ وهو ]{[9037]} أن يَصِير الإنْسَان [ نفسه ]{[9038]} شَفْعاً لِصَاحب الحَاجَة ؛ حتى يجْتَمِع معه على المسألة فِيهَا ، [ ومنه نَاقَةٌ شَفُوعٌ : إذا جمعت بين مِحْلَبَيْن في حَلبةٍ واحدةٍ ، وناقة شَفِيعٌ : إذا اجْتَمع لها حَمْلٌ وولَدٌ يَتْبَعُها ، والشُّفْعَةُ : ضم مِلْكِ الشَّريك إلى ملكك{[9039]} ، والشَّفَاعة إذا ضَمَّ غَيْرك إلى جاهك ، فهي على التَّحقِيق إظهار لمنزلة الشَّفِيع عند المُشَفِّع ، وإيصَال المَنْفَعَة إلى المَشْفُوع له ]{[9040]} فيكون المُرَادُ : تَحْرِيض النَّبِيِّ - عليه الصلاة والسلام - إيَّاهم على الجِهَاد ؛ لأنه إذا أمَرهُم بالغدو{[9041]} ، فقد جَعَل نَفْسَهُ شَفْعاً لَهُم في تَحْصِيل الأغْرَاضِ المتعلِّقةِ بالجِهَادِ ، والتَّحْرِيض على الشَّيءِ عبارة عن الأمر به على وجْه الرِّفْقِ والتَّلَطُّفِ ، وذلك يَجْرِي مُجْرَى الشَّفَاعة .
وقي : المُرَاد ما تَقَدَّم من شفاعة بَعْض المُنَافِقِين النَّبِيَّ - عليه الصلاة والسلام - في أن يَأذن لِبَعْضِهِم في التَّخَلُّف .
ونقل الوَاحِديُّ{[9042]} عن ابن عبَّاس ؛ ما معناه : أن الشَّفَاعة الحَسَنَة هَهُنا ، وهي أن يَشْفَع إيمانهُ بالله بقِتَال الكُفَّار ، والشفاعة السَّيِّئَة : أن يَشْفَع كفره بِمُوالاَةِ الكُفَّار ، وقيل : الشَّفَاعة الحَسَنَة : ما تقدَّم في أن يَشْفَع مؤمِنٌ لمؤمِنٍ [ عند مُؤمِنٍ ]{[9043]} آخَرِ ؛ في أن يُحَصِّلَ له آلات الجِهَاد ، ورُوي عن ابن عبَّاسٍ ؛ أن الشفاعة الحَسَنة [ هي الإصلاح بين النَّاس ، والشَّفَاعة السَّيِّئة ، هي النَّمِيمة بين النَّاسِ .
وقيل ]{[9044]} : هي حُسْنُ القول في النَّاسِ يُنَال به الثَّوَاب والخير ، والسَّيِّئَة هي الغَيْبة والقَوْل السيّئ في النَّاسِ يُنَال به الشَّرُّ . والمراد بالكفل : الوِزْر .
قال الحَسَن مُجَاهِد والكَلْبي وابن زَيْدٍ : المراد شَفَاعة النَّاسِ بَعْضهم لِبَعْض{[9045]} ، فإن كان في ما يَجُوز ، فهو شَفَاعة حَسَنَة ، وإن كان فِيمَا لا يجُوز ، فهو شَفَاعَة سَيِّئَة .
قال ابن الخَطيب{[9046]} : هذه الشَّفَاعة لا بُدَّ وأن يكُون لها تَعَلُّقٌ بالجِهَاد ، وإلاَّ صَارَت الآية مُنْقَطِعَةِ عما قَبْلَهَا ، فإن أرَادُوا دُخُول هذه الوُجُوهِ في اللَّفْظِ العَامِ فيجوز ؛ لأن خُصوص السَّبَبِ لا يَقْدَح في عُمُوم اللَّفْظِ .
والكفل " : النَّصِيب ، إلا أنَّ استعماله في الشَّرِّ أكثر ، عكس النصيب ، وإنْ كان قد استُعْمِل الكِفْلُ في الخَيْرِ ، قال تعالى : { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } [ الحديد : 28 ] وأصلُه قالوا : مُسْتَعَارٌ مِنْ كِفْلِ البَعير ، وهو كساء يُدَار حَوْلَ سِنَامِه ليُرْكَبَ ، سُمِّي بِذَلِك ؛ لأنَّه لم يَعُمَّ ظهرهَ كُلَّه بل نَصِيباً منه ، ولغلبةِ استِعْمَالِه في الشَّرِّ ، واستعمال النَّصِيب في الخير ، غاير بَيْنَهما في هذه الآيَة الكَريمة ؛ إذ أتى بالكِفْل مع السَّيِّئَة ، والنَّصِيب مع الحَسَنة ، و " منها " الظَّاهِر أن " مِنْ " هنا سَببيَّة ، أي : كِفْلٌ بِسَبِبها [ ونَصِيب بسبِبها ] ، ويجُوز أن تكُون ابتدائِيةٌ ، والمُقِيت : المُقْتَدَر [ قال : ابن عباس : مقتدراً مجازياً ] ، قال : [ الوافر ]
وَذِي ضِغْنٍ كَفَفْتُ الْوُدَّ عَنْهُ *** وَكُنْتُ عَلَى إسَاءَتِهِ مٌقِيتَا{[9047]}
أي : مقتدراً ، ومنه : [ الخفيف ]
لَيْتَ شِعْرِي وأشْعُرَنَّ إذَا مَا *** قَرَّبُوهَا مَنْشُورَةً وَدُعِيتُ
ألِيَ الْفَضْلُ أمْ عَلَيَّ إذَا حُو *** سِبْتُ ؟ أنَّي عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ{[9048]}
وأنشد نَضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ : [ الطويل ]
تَجَلَّد ولا تَعْجَزْ{[9049]} وَكُنْ ذَا حَفِيظَةٍ{[9050]} *** فَإنِّي عَلَى مَا سَاءَهُمْ لَمُقِيتُ{[9051]}
قال النَّحَّاس : " هو مُشْتَقٌ من القُوتِ ، وهو مِقْدَارُ ما يَحْفَظ به بَدَنُ الإنْسَانِ من الهَلاَك " فأصل مُقيت : مُقْوِت كَمُقِيم .
[ و ]{[9052]} يقال : قُتُّ الرَّجُلَ ؛ إذا حَفِظْتَ عليه نَفْسهُ{[9053]} " وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقيت " وفي رواية من رَوَاه هَكَذَا ، أي : مَن هو تَحْت قُدْرَته وفي قَبْضَتِه{[9054]} من عِيَالٍ{[9055]} وغيره ؛ ذكره ابن عَطِيَّة{[9056]} : يقول : [ منه : قُتُّهُ ]{[9057]} أقوته قُوتاً ، وأقَتُّهُ أقِيتُهُ إقَاتَةً ، فأنا قَائِتٌ ومُقِيتٌ .
وأمَّا قول الشَّاعِرِ : [ الخفيف ]
… *** إنِّي عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ{[9058]}
فقال الطَّبَرِي : إنه من غَيْر هَذا [ المعنى المتقدِّم ، فإنه بمَعْنَى الموقوف ، ]{[9059]} فأصْل مُقِيت : مُقْوِت كمُقِيم .
وقال مُجَاهِدٌ : معنى مُقِيتاً : شاهداً{[9060]} {[9061]} وقال قتادة : حَفِيظاً{[9062]} ، وقيل معناه : على كل حيوان مُقِيتاً ، أي{[9063]} : يُوصِل القُوت{[9064]} إلَيْه .
قال القَفَّال{[9065]} : وأي هَذَيْن المعنيين كان فَالتَّأوِيل صَحِيحٌ ، وهو أنه - تعالى - قادر على إيصَال النَّصِيب والكَفِيل من الجَزَاءِ إلى الشَّافِع ؛ مثل ما يُوصِلُه إلى المَشْفُوع ، إن خيراً فَخَيْرٌ ، وإن شَرّاً فَشَرٌّ ، ولا ينتَقِص بسبَب{[9066]} ما يَصِل إلى الشَّافِع [ شيء ]{[9067]} من جَزاء المَشْفُوع ، وعلى الوَجْه الآخَر : أنَّه تعالى - حَافِظُ الأشْيَاء شَاهِدٌ عليها ، لا يَخْفَى عليه شَيْءٌ من أحْوَالِهَا ، فهو عَالِمٌ بأن الشَّافِع يَشْفَع في حَقِّ [ أو في ]{[9068]} بَاطِل ، حَفِيظٌ عليهم فَيُجَازِي كلاًّ بما عَلِمَهُ منه .
وقوله : { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً } وَلَمْ يقتيه بوقتٍ ، والحالُ{[9069]} يدلُّ على أن هذه الصِّفَةِ كانت ثَابِتَة له من الأزَلِ إلى الأبَدِ وليست مُحْدَثة .