اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مَّن يَشۡفَعۡ شَفَٰعَةً حَسَنَةٗ يَكُن لَّهُۥ نَصِيبٞ مِّنۡهَاۖ وَمَن يَشۡفَعۡ شَفَٰعَةٗ سَيِّئَةٗ يَكُن لَّهُۥ كِفۡلٞ مِّنۡهَاۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ مُّقِيتٗا} (85)

في تعلُّق هذه الآية بما قَبْلَها وجوه :

أحدها : أنه - تعالى - لمَّا أمَر{[9031]} الرَّسُول - [ عليه الصلاة والسلام ]{[9032]} - بأن يحرَّض الأمَّة على الجِهَاد ، وهو طاعَةٌ حَسَنةٌ ، بيَّن في هذه الآية{[9033]} أنَّ من يَشْفَع شَفَاعة حَسَنَة يَكُنْ له نَصِيبٌ مِنْهَا ، والغَرَض مِنْه : أنه - عليه الصلاة والسلام - يستَحِقُّ بالتَّحْرِيضِ على الجِهَاد أجْراً عَظِيماً .

وثانيها : أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يوصِيهم{[9034]} بالقِتَال ، ويبالِغُ في تَحْرِيضهم عليه ، فكان بَعْضُ المُنَافِقِين يَشْفَع إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم في أن يأذَن لَهُم في التَّخَلُّف عن الغَزْوِ ، فنهى [ الله ]{[9035]} عن مثل هَذِه الشَّفَاعَة ، وبيَّن أن [ هَذِه ]{[9036]} الشَّفاعة إذا كَانَت وَسِيلَة إلى مَعْصِيَةٍ ، كانت مُحَرَّمَة .

وثالِثُها : أنَّه يجُوز أن يَكُون بعض المُؤمنِين راغباً في الجِهَاد ، ولا يَجِد أهْبَة الجِهاد ، فصار غَيْرُهُ من المُؤمنِين شَفِيعاً له إلى مُؤمِنٍ آخر ؛ ليعِيِنه على الجِهَاد ، والشَّفَاعَة مأخُوذَة من الشَّفْع وهو الزَّوج من العَدَد ، ومنه الشَّفِيع ، [ وهو ]{[9037]} أن يَصِير الإنْسَان [ نفسه ]{[9038]} شَفْعاً لِصَاحب الحَاجَة ؛ حتى يجْتَمِع معه على المسألة فِيهَا ، [ ومنه نَاقَةٌ شَفُوعٌ : إذا جمعت بين مِحْلَبَيْن في حَلبةٍ واحدةٍ ، وناقة شَفِيعٌ : إذا اجْتَمع لها حَمْلٌ وولَدٌ يَتْبَعُها ، والشُّفْعَةُ : ضم مِلْكِ الشَّريك إلى ملكك{[9039]} ، والشَّفَاعة إذا ضَمَّ غَيْرك إلى جاهك ، فهي على التَّحقِيق إظهار لمنزلة الشَّفِيع عند المُشَفِّع ، وإيصَال المَنْفَعَة إلى المَشْفُوع له ]{[9040]} فيكون المُرَادُ : تَحْرِيض النَّبِيِّ - عليه الصلاة والسلام - إيَّاهم على الجِهَاد ؛ لأنه إذا أمَرهُم بالغدو{[9041]} ، فقد جَعَل نَفْسَهُ شَفْعاً لَهُم في تَحْصِيل الأغْرَاضِ المتعلِّقةِ بالجِهَادِ ، والتَّحْرِيض على الشَّيءِ عبارة عن الأمر به على وجْه الرِّفْقِ والتَّلَطُّفِ ، وذلك يَجْرِي مُجْرَى الشَّفَاعة .

وقي : المُرَاد ما تَقَدَّم من شفاعة بَعْض المُنَافِقِين النَّبِيَّ - عليه الصلاة والسلام - في أن يَأذن لِبَعْضِهِم في التَّخَلُّف .

ونقل الوَاحِديُّ{[9042]} عن ابن عبَّاس ؛ ما معناه : أن الشَّفَاعة الحَسَنَة هَهُنا ، وهي أن يَشْفَع إيمانهُ بالله بقِتَال الكُفَّار ، والشفاعة السَّيِّئَة : أن يَشْفَع كفره بِمُوالاَةِ الكُفَّار ، وقيل : الشَّفَاعة الحَسَنَة : ما تقدَّم في أن يَشْفَع مؤمِنٌ لمؤمِنٍ [ عند مُؤمِنٍ ]{[9043]} آخَرِ ؛ في أن يُحَصِّلَ له آلات الجِهَاد ، ورُوي عن ابن عبَّاسٍ ؛ أن الشفاعة الحَسَنة [ هي الإصلاح بين النَّاس ، والشَّفَاعة السَّيِّئة ، هي النَّمِيمة بين النَّاسِ .

وقيل ]{[9044]} : هي حُسْنُ القول في النَّاسِ يُنَال به الثَّوَاب والخير ، والسَّيِّئَة هي الغَيْبة والقَوْل السيّئ في النَّاسِ يُنَال به الشَّرُّ . والمراد بالكفل : الوِزْر .

قال الحَسَن مُجَاهِد والكَلْبي وابن زَيْدٍ : المراد شَفَاعة النَّاسِ بَعْضهم لِبَعْض{[9045]} ، فإن كان في ما يَجُوز ، فهو شَفَاعة حَسَنَة ، وإن كان فِيمَا لا يجُوز ، فهو شَفَاعَة سَيِّئَة .

قال ابن الخَطيب{[9046]} : هذه الشَّفَاعة لا بُدَّ وأن يكُون لها تَعَلُّقٌ بالجِهَاد ، وإلاَّ صَارَت الآية مُنْقَطِعَةِ عما قَبْلَهَا ، فإن أرَادُوا دُخُول هذه الوُجُوهِ في اللَّفْظِ العَامِ فيجوز ؛ لأن خُصوص السَّبَبِ لا يَقْدَح في عُمُوم اللَّفْظِ .

والكفل " : النَّصِيب ، إلا أنَّ استعماله في الشَّرِّ أكثر ، عكس النصيب ، وإنْ كان قد استُعْمِل الكِفْلُ في الخَيْرِ ، قال تعالى : { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } [ الحديد : 28 ] وأصلُه قالوا : مُسْتَعَارٌ مِنْ كِفْلِ البَعير ، وهو كساء يُدَار حَوْلَ سِنَامِه ليُرْكَبَ ، سُمِّي بِذَلِك ؛ لأنَّه لم يَعُمَّ ظهرهَ كُلَّه بل نَصِيباً منه ، ولغلبةِ استِعْمَالِه في الشَّرِّ ، واستعمال النَّصِيب في الخير ، غاير بَيْنَهما في هذه الآيَة الكَريمة ؛ إذ أتى بالكِفْل مع السَّيِّئَة ، والنَّصِيب مع الحَسَنة ، و " منها " الظَّاهِر أن " مِنْ " هنا سَببيَّة ، أي : كِفْلٌ بِسَبِبها [ ونَصِيب بسبِبها ] ، ويجُوز أن تكُون ابتدائِيةٌ ، والمُقِيت : المُقْتَدَر [ قال : ابن عباس : مقتدراً مجازياً ] ، قال : [ الوافر ]

وَذِي ضِغْنٍ كَفَفْتُ الْوُدَّ عَنْهُ *** وَكُنْتُ عَلَى إسَاءَتِهِ مٌقِيتَا{[9047]}

أي : مقتدراً ، ومنه : [ الخفيف ]

لَيْتَ شِعْرِي وأشْعُرَنَّ إذَا مَا *** قَرَّبُوهَا مَنْشُورَةً وَدُعِيتُ

ألِيَ الْفَضْلُ أمْ عَلَيَّ إذَا حُو *** سِبْتُ ؟ أنَّي عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ{[9048]}

وأنشد نَضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ : [ الطويل ]

تَجَلَّد ولا تَعْجَزْ{[9049]} وَكُنْ ذَا حَفِيظَةٍ{[9050]} *** فَإنِّي عَلَى مَا سَاءَهُمْ لَمُقِيتُ{[9051]}

قال النَّحَّاس : " هو مُشْتَقٌ من القُوتِ ، وهو مِقْدَارُ ما يَحْفَظ به بَدَنُ الإنْسَانِ من الهَلاَك " فأصل مُقيت : مُقْوِت كَمُقِيم .

[ و ]{[9052]} يقال : قُتُّ الرَّجُلَ ؛ إذا حَفِظْتَ عليه نَفْسهُ{[9053]} " وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقيت " وفي رواية من رَوَاه هَكَذَا ، أي : مَن هو تَحْت قُدْرَته وفي قَبْضَتِه{[9054]} من عِيَالٍ{[9055]} وغيره ؛ ذكره ابن عَطِيَّة{[9056]} : يقول : [ منه : قُتُّهُ ]{[9057]} أقوته قُوتاً ، وأقَتُّهُ أقِيتُهُ إقَاتَةً ، فأنا قَائِتٌ ومُقِيتٌ .

وأمَّا قول الشَّاعِرِ : [ الخفيف ]

… *** إنِّي عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ{[9058]}

فقال الطَّبَرِي : إنه من غَيْر هَذا [ المعنى المتقدِّم ، فإنه بمَعْنَى الموقوف ، ]{[9059]} فأصْل مُقِيت : مُقْوِت كمُقِيم .

وقال مُجَاهِدٌ : معنى مُقِيتاً : شاهداً{[9060]} {[9061]} وقال قتادة : حَفِيظاً{[9062]} ، وقيل معناه : على كل حيوان مُقِيتاً ، أي{[9063]} : يُوصِل القُوت{[9064]} إلَيْه .

قال القَفَّال{[9065]} : وأي هَذَيْن المعنيين كان فَالتَّأوِيل صَحِيحٌ ، وهو أنه - تعالى - قادر على إيصَال النَّصِيب والكَفِيل من الجَزَاءِ إلى الشَّافِع ؛ مثل ما يُوصِلُه إلى المَشْفُوع ، إن خيراً فَخَيْرٌ ، وإن شَرّاً فَشَرٌّ ، ولا ينتَقِص بسبَب{[9066]} ما يَصِل إلى الشَّافِع [ شيء ]{[9067]} من جَزاء المَشْفُوع ، وعلى الوَجْه الآخَر : أنَّه تعالى - حَافِظُ الأشْيَاء شَاهِدٌ عليها ، لا يَخْفَى عليه شَيْءٌ من أحْوَالِهَا ، فهو عَالِمٌ بأن الشَّافِع يَشْفَع في حَقِّ [ أو في ]{[9068]} بَاطِل ، حَفِيظٌ عليهم فَيُجَازِي كلاًّ بما عَلِمَهُ منه .

وقوله : { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً } وَلَمْ يقتيه بوقتٍ ، والحالُ{[9069]} يدلُّ على أن هذه الصِّفَةِ كانت ثَابِتَة له من الأزَلِ إلى الأبَدِ وليست مُحْدَثة .


[9031]:في أ: أرسل.
[9032]:سقط في أ.
[9033]:في ب: هذا الموضع.
[9034]:في ب: يرغبهم.
[9035]:سقط في ب.
[9036]:سقط في ب.
[9037]:سقط في ب.
[9038]:سقط في ب.
[9039]:هي لغة الضم، يقال: شفعت الشيء؛ ضممته إلى غيره.. ومناسبة هذا للمعنى الشرعي: أن الشريك يضم نصيب شريكه إلى نصيبه... وقيل: من الشفع ضد الوتر؛ لأن الشفيع يضم حصة شريكه إلى حصته، فيصيران شفعا، وقد كانت حصته وترا... وقيل: من الشفاعة؛ لأن الرجل في الجاهلية كان إذا أراد بيع داره، أتاه شريكه، فشفع إليه فيما باع، فشفعه وجعله أولى به من غيره، وهذا قول محمد بن قتيبة في "غريب الحديث".. وفي "المصباح": "شفعت الشيء شفعا من باب "نفع": ضممته إلى المفرد، وشفعت الركعة جعلتها ثنتين، ومن هنا اشتقت الشفعة وهي مثال غرفة؛ لأن صاحبها يشفع ماله بها، وهي اسم للملك المشفوع؛ مثل اللقمة اسم للشيء الملقوم، وتستعمل بمعنى "التملك" لذلك الملك؛ ومنه قولهم: "من ثبت له شفعة فأخر الطلب بغير عذر، بطلت شفعته" ففي هذا المثال جمع بين المعنيين؛ فإن الأولى للمال، والثانية للتملك". اهـ... وشرعا: "حق تملك قهري يثبت للشريك القديم على الحادث فيما ملك بعوض".. فأركانها ثلاثة: الأول: مشفوع: وهو الشقص. الثاني: ومشفوع منه؛ وهو الشريك الحادث. الثالث: وشفيع؛ وهو الشريك القديم. وأما الصيغة كتملكت بالشفعة ونحوه، فلا تجب إلا عند التملك، فهي شرط فيه، وليست ركنا من أركان الشفعة؛ لأن لاستحقاق يثبت بالبيع من غير لفظ. اصطلاحا: عرفها الحنفية بأنها: ضم ملك البائع إلى ملك الشفيع، وتثبت للشفيع بالثمن الذي بيع به رضي المتبايعان أو شرطا. عرفها الشافعية بأنها: حق تملك قهري، يثبت للشريك القديم على الشريك الحادث، فيما ملك بعوض. عرفها المالكية بأنها: استحقاق شريك أخذ مبيع شريكه بثمنه. عرفها الحنابلة بأنها: استحقاق انتزاع الإنسان حصة شريكه من مشتريها بمثل ثمنها. ينظر: الاختيار 2/56، حاشية ابن عابدين 5/137، فتح القدير: 9/368، المبسوط 14/90، حاشية البجيرمي 3/145، مغني المحتاج 2/296، منح الجليل 3/582، الإنصاف 6/250، الكافي 2/416 الصحاح 3/1238، المغرب 253، المصباح المنير 1/485.
[9040]:سقط في ب.
[9041]:في أ: بالفعل.
[9042]:ينظر: تفسير الرازي 10/165.
[9043]:سقط في ب.
[9044]:سقط في أ.
[9045]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/581 ـ 582) عن مجاهد والحسن وابن زيد. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/335) عن مجاهد وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. وذكره أيضا (2/335) عن الحسن وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم.
[9046]:ينظر: تفسير الرازي 10/165.
[9047]:البيت للزبير بن عبد المطلب: ينظر البحر 3/316. والدر المصون 2/405 وشواهد الكشاف 4/351.
[9048]:البيتان للسموأل بن عادياء ينظر ديوانه ص 12، والدرر 5/166، ولسان العرب (قوت)، والمقاصد النحوية 4/332 وشرح الأشموني 2/500، وإصلاح المنطق ص 277، وهمع الهوامع 2/79 ومجاز القرآن 1/135 والكشاف 1/543 والأصمعيات (86) والعيني 4/322 والقرطبي 5/191 والدر المصون 2/405، والطبري 5/119.
[9049]:في ب: تفزع.
[9050]:في ب: حفظة.
[9051]:ينظر: الرازي 10/166.
[9052]:سقط في ب.
[9053]:في أ: السلام.
[9054]:في ب: نفسه.
[9055]:في ب: عياله.
[9056]:ينظر: تفسير القرطبي 5/191.
[9057]:سقط في ب.
[9058]:تقدم قريبا.
[9059]:قط في أ.
[9060]:في ب: شاذا.
[9061]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/583) عن مجاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/336) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[9062]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/583) عن مجاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/336) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في "الأسماء والصفات".
[9063]:في ب: أو.
[9064]:في ب: المقوت.
[9065]:ينظر: تفسير الرازي 10/166.
[9066]:في ب: نصيب.
[9067]:سقط في أ.
[9068]:سقط في أ.
[9069]:في ب: ولا حال.