قوله تعالى : { فَاطِرُ السماوات والأرض جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير } .
قوله تعالى : «فاطر » العامة على رفعه خبراً «لذلكم » ، أو نعتاً «لربي » على محض إضافته و«عليه توكلت » معترض على هذا ، أو مبتدأ خبره «جعل لكم » أو خبر مبتدأ مضمر أي هو{[49091]} .
وقرأ زيد بن على «فاطِر » بالجر{[49092]} ، نعتاً للجلالة في قوله : «إلَى اللهِ » وما بينهما اعتراض أو بدل من الهاء في «عَلَيْهِ » أو «إلَيْهِ »{[49093]} .
وقال مكيُّ : وأجار الكسائي النصب على البدلِ{[49094]} ، وقال غيره : على المدح ويجوز في الكلام الخفض على البدل من{[49095]} الهاء كأنه لم يطلع على أنها قراءة زيد بن علي .
قوله : { جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً } قيل : معناه : جعل لكم من أنفسكم أزواجاً أي مثل خلقكم{[49096]} ، وأزواجاً أي حلائل ، وقيل معنى من أنفسكم أي خلق حوّاء من ضِلع آدم ، { وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً } أي أصنافاً ذكوراً وإناثاً{[49097]} .
قوله : { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } أي يكثركم . وقوله : «فيه » يجوز أن تكون «في » عَلَى بَابها ، والمعنى يكثركم في هذا التدبير ، وهو أن يجعل الناس والأنعام أزواجاً حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد . والضمير في «يذرأكم » للمخاطبين والأنعام ، إلا أنه غلب فيه العقلاء من وجهين :
أحدهما : أنه غلب فيه جانب العقلاء على غير العقلاء .
الثاني : أنه غلب جانب المخاطبين على الغائبين{[49098]} .
قال الزمخشري : وهي من الأحكام ذات العلَّتين{[49099]} . قال أبو حيان : وهو اصطلاح غريب{[49100]} يعني أن الخطاب يغلب على الغيبة إذا اجتمعا . ثم قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى يذرأكم في هذا التدبير وهلا قيل : يذرأكم به ؟ قلت : جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير ، ألا تراك تقول للحيوان في خلق الأزواج تكثير ، كما قال تعالى : { وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ } [ البقرة : 179 ] . وقيل : إنها للسببيّة كالباء أي يكثركم بسببه{[49101]} ، والضمير يعود على الجعل أو للمخلوق{[49102]} .
وقيل : يذرأكم فيه أي يخلقكم في الرحم . وقيل : في البطن .
قوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } في هذه الآية أوجه :
أشهرها : أن الكاف زائدة في خبر ليس ، و«شيء » اسمها ، والتقدير : ليس شيءٌ مثله . قالوا : ولولا ادعاء زيادتها للزم أن يكون له مثل ، وهو محال ؛ إذ يصير التقدير على أصالة الكاف : ليس ( مِثْلَ ){[49103]} مثله شيء فنفى المماثلة عن مثله ، فثبت أن له مثلاً لا مثل لذلك المثل ، وهذا محال تعالى الله عن ذلك{[49104]} .
وقال أبو البقاء : لو لم تكن زائدة ، لأفضى ذلك إلى المحال ؛ إذ كان ( يكون ){[49105]} المعنى أن له مثلاً وليس لمثله مثل ، وفي ذلك تناقض ؛ لأنه إذا كان له مثل فلمثله مثل وهو هو ، مع أن إثبات المثل لله تعالى محال{[49106]} .
وهذه طريقة حسنة في تقرير زيادة الكاف ، وفيها حسن صناعةٍ{[49107]} .
الثاني : أن «مثل » هي{[49108]} الزائدة كزيادتها في قوله تعالى : { بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ } [ البقرة : 137 ] قال الطبريُّ : كما زيدت الكاف في قوله :
4372 وَصَالِيَاتٍ كَكَمَا يُؤَثْفِينْ{[49109]} *** . . .
4373 فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُول{[49110]} *** . . .
وهذا ليس بجيد ، لأن زيادة الأسماء ليست{[49111]} بجائزة ، وأيضاً يصير التقدير : ليس كهو شيء . ودخول الكاف على الضمائر لا يجوز إلا في شعر .
الثالث : أن العرب تقول : «مِثْلُكَ لاَ يَفْعَلُ كَذَا » يعنون المخاطب نفسه ؛ لأنهم يريدون المبالغة في نفي الوصف عن المخاطب فينفونها في اللفظ عن مثله ، فثبت انتفاؤها عنه{[49112]} بدليلها ومنه قول الشاعر ( رحمة الله عليه ){[49113]} :
4374 عَلَى مِثْلِ لَيْلَى يَقْتُلُ المَرْءُ نَفْسَهُ *** وَإِنْ بَاتَ مِنْ لَيْلَى عَلَى النَّاسِ طَاوِيَا{[49114]}
4375 ولَيْسَ كَمِثْلِ الفَتَى زُهَيْر *** خَلْقٌ يُوَازِيهِ فِي الفَضَائِلِ{[49115]}
4376 وَقَتْلَى كَمِثْلِ جُذُوعِ النَّخِيلِ *** تَغَشَّاهُمُ مُسْبِلٌ مُنْهَمِرْ{[49116]}
4377 سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ إذَا أَبْصَرْتَ فَضْلَهُمُ *** فَمَا كَمِثْلِهِم في النَّاس مِنْ أَحَدِ{[49117]}
قال ابن قتيبة : العرب تٌقِيمُ المِثْلَ مُقَامِ النَّفْس فتقول : «مِثْلِي لاَ يُقَالُ لَهُ هَذَا » أي أنا لا يقال لي{[49118]} . قيل : ونسبة المثل إلى من لا مثل له قولك : فلانٌ يده مبسوطةٌ ، يريد : أنه جواد ، ولا نظير له في الحقيقة إلى اليد حتى تقول ذلك لمن لا يد له كقوله : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [ المائدة : 64 ] .
الرابع : أن يراد بالمثل الصفة ، وذلك أن المثل بمعنى المثل ، والمثل الصفة كقوله { مَّثَلُ الجنة } [ محمد : 15 ] ، فيكون المعنى ليس مثل صفته تعالى شيء من التي لغيره ( وهو مَحْمِلٌ سَهْلٌ ){[49119]} .
قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ){[49120]} معناه ليس له نظير{[49121]} «وهو السميع البصير » أي سامعاً للمسموعات بصيراً للمرئيات{[49122]} .
فإن قيل : قوله : { وهو السميع البصير } يفيد الحصر ، فما معنى هذا الحصر مع أن العباد أيضاً موصوفون بكونهم سميعين بصيرين ؟ ! .
فالجواب : «السمعي البصير » لفظان مشعران بحصول هاتين الصفتين على سبيل الكمال والكمال في كل الصفات وليس إلا الله ، فهذا هو المراد من هذا الحصر{[49123]} .