اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (11)

قوله تعالى : { فَاطِرُ السماوات والأرض جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير } .

قوله تعالى : «فاطر » العامة على رفعه خبراً «لذلكم » ، أو نعتاً «لربي » على محض إضافته و«عليه توكلت » معترض على هذا ، أو مبتدأ خبره «جعل لكم » أو خبر مبتدأ مضمر أي هو{[49091]} .

وقرأ زيد بن على «فاطِر » بالجر{[49092]} ، نعتاً للجلالة في قوله : «إلَى اللهِ » وما بينهما اعتراض أو بدل من الهاء في «عَلَيْهِ » أو «إلَيْهِ »{[49093]} .

وقال مكيُّ : وأجار الكسائي النصب على البدلِ{[49094]} ، وقال غيره : على المدح ويجوز في الكلام الخفض على البدل من{[49095]} الهاء كأنه لم يطلع على أنها قراءة زيد بن علي .

قوله : { جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً } قيل : معناه : جعل لكم من أنفسكم أزواجاً أي مثل خلقكم{[49096]} ، وأزواجاً أي حلائل ، وقيل معنى من أنفسكم أي خلق حوّاء من ضِلع آدم ، { وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً } أي أصنافاً ذكوراً وإناثاً{[49097]} .

قوله : { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } أي يكثركم . وقوله : «فيه » يجوز أن تكون «في » عَلَى بَابها ، والمعنى يكثركم في هذا التدبير ، وهو أن يجعل الناس والأنعام أزواجاً حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد . والضمير في «يذرأكم » للمخاطبين والأنعام ، إلا أنه غلب فيه العقلاء من وجهين :

أحدهما : أنه غلب فيه جانب العقلاء على غير العقلاء .

الثاني : أنه غلب جانب المخاطبين على الغائبين{[49098]} .

قال الزمخشري : وهي من الأحكام ذات العلَّتين{[49099]} . قال أبو حيان : وهو اصطلاح غريب{[49100]} يعني أن الخطاب يغلب على الغيبة إذا اجتمعا . ثم قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى يذرأكم في هذا التدبير وهلا قيل : يذرأكم به ؟ قلت : جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير ، ألا تراك تقول للحيوان في خلق الأزواج تكثير ، كما قال تعالى : { وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ } [ البقرة : 179 ] . وقيل : إنها للسببيّة كالباء أي يكثركم بسببه{[49101]} ، والضمير يعود على الجعل أو للمخلوق{[49102]} .

وقيل : يذرأكم فيه أي يخلقكم في الرحم . وقيل : في البطن .

قوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } في هذه الآية أوجه :

أشهرها : أن الكاف زائدة في خبر ليس ، و«شيء » اسمها ، والتقدير : ليس شيءٌ مثله . قالوا : ولولا ادعاء زيادتها للزم أن يكون له مثل ، وهو محال ؛ إذ يصير التقدير على أصالة الكاف : ليس ( مِثْلَ ){[49103]} مثله شيء فنفى المماثلة عن مثله ، فثبت أن له مثلاً لا مثل لذلك المثل ، وهذا محال تعالى الله عن ذلك{[49104]} .

وقال أبو البقاء : لو لم تكن زائدة ، لأفضى ذلك إلى المحال ؛ إذ كان ( يكون ){[49105]} المعنى أن له مثلاً وليس لمثله مثل ، وفي ذلك تناقض ؛ لأنه إذا كان له مثل فلمثله مثل وهو هو ، مع أن إثبات المثل لله تعالى محال{[49106]} .

وهذه طريقة حسنة في تقرير زيادة الكاف ، وفيها حسن صناعةٍ{[49107]} .

الثاني : أن «مثل » هي{[49108]} الزائدة كزيادتها في قوله تعالى : { بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ } [ البقرة : 137 ] قال الطبريُّ : كما زيدت الكاف في قوله :

4372 وَصَالِيَاتٍ كَكَمَا يُؤَثْفِينْ{[49109]} *** . . .

وفي قوله :

4373 فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُول{[49110]} *** . . .

وهذا ليس بجيد ، لأن زيادة الأسماء ليست{[49111]} بجائزة ، وأيضاً يصير التقدير : ليس كهو شيء . ودخول الكاف على الضمائر لا يجوز إلا في شعر .

الثالث : أن العرب تقول : «مِثْلُكَ لاَ يَفْعَلُ كَذَا » يعنون المخاطب نفسه ؛ لأنهم يريدون المبالغة في نفي الوصف عن المخاطب فينفونها في اللفظ عن مثله ، فثبت انتفاؤها عنه{[49112]} بدليلها ومنه قول الشاعر ( رحمة الله عليه ){[49113]} :

4374 عَلَى مِثْلِ لَيْلَى يَقْتُلُ المَرْءُ نَفْسَهُ *** وَإِنْ بَاتَ مِنْ لَيْلَى عَلَى النَّاسِ طَاوِيَا{[49114]}

وقال أوس بن حجر :

4375 ولَيْسَ كَمِثْلِ الفَتَى زُهَيْر *** خَلْقٌ يُوَازِيهِ فِي الفَضَائِلِ{[49115]}

وقال آخر :

4376 وَقَتْلَى كَمِثْلِ جُذُوعِ النَّخِيلِ *** تَغَشَّاهُمُ مُسْبِلٌ مُنْهَمِرْ{[49116]}

وقال آخر :

4377 سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ إذَا أَبْصَرْتَ فَضْلَهُمُ *** فَمَا كَمِثْلِهِم في النَّاس مِنْ أَحَدِ{[49117]}

قال ابن قتيبة : العرب تٌقِيمُ المِثْلَ مُقَامِ النَّفْس فتقول : «مِثْلِي لاَ يُقَالُ لَهُ هَذَا » أي أنا لا يقال لي{[49118]} . قيل : ونسبة المثل إلى من لا مثل له قولك : فلانٌ يده مبسوطةٌ ، يريد : أنه جواد ، ولا نظير له في الحقيقة إلى اليد حتى تقول ذلك لمن لا يد له كقوله : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [ المائدة : 64 ] .

الرابع : أن يراد بالمثل الصفة ، وذلك أن المثل بمعنى المثل ، والمثل الصفة كقوله { مَّثَلُ الجنة } [ محمد : 15 ] ، فيكون المعنى ليس مثل صفته تعالى شيء من التي لغيره ( وهو مَحْمِلٌ سَهْلٌ ){[49119]} .

فصل

قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ){[49120]} معناه ليس له نظير{[49121]} «وهو السميع البصير » أي سامعاً للمسموعات بصيراً للمرئيات{[49122]} .

فإن قيل : قوله : { وهو السميع البصير } يفيد الحصر ، فما معنى هذا الحصر مع أن العباد أيضاً موصوفون بكونهم سميعين بصيرين ؟ ! .

فالجواب : «السمعي البصير » لفظان مشعران بحصول هاتين الصفتين على سبيل الكمال والكمال في كل الصفات وليس إلا الله ، فهذا هو المراد من هذا الحصر{[49123]} .


[49091]:قال بهذه الأوجه ابن الأنباري في البيان 2/345 والسمين في الدر 4/746 وانظر الكشاف 3/462 والبحر المحيط 7/509 والتبيان 1131.
[49092]:ذكرها أبو حيان في البحر 7/509 كما ذكرها صاحب شواذ القرآن 215 والكشاف 3/462 والقرطبي 16/7، ومشكل الإعراب 2/276.
[49093]:التبيان والسمين المرجعين السابقين.
[49094]:مشكل إعراب القرآن لمكي 2/276.
[49095]:السابق، وقد نقل القرطبي الرأيين النصب والجر. انظر الجامع 16/7. وقد قال السمين: وأما النصب فلم أحفظ له قراءة انظر الدر المصون 4/746.
[49096]:قاله البغوي في معالم التنزيل 6/118.
[49097]:الرازي 27/149.
[49098]:السابق.
[49099]:الكشاف 3/624.
[49100]:البحر المحيط 7/510.
[49101]:قال الفراء: معني فيه أي به.
[49102]:نقله أبو حيان عن ابن عطية في البحر المحيط 7/510.
[49103]:سقطت كلمة مثل من ب.
[49104]:ممن قال بزيادتها أبو إسحاق الزجاج في: معاني القرآن وإعرابه 4/395، وابن قتيبة في: تأويل مشكل القرآن 195 بينما صرح في غريب القرآن بالأصالة 391، والقرطبي في الجامع 16/8، وأبو البقاء في التبيان 1131، وأحد قولين قال بهما ابن الأنباري في البيان 2/345.
[49105]:سقط من ب.
[49106]:التبيان له 1131.
[49107]:أخذ المؤلف هذه العبارة من كلام السمين قال: وهي طريقة غريبة في تقرير الزيادة وهي طريقة حسنة الصناعة الدر المصون 4/747.
[49108]:قال بذلك القرطبي: في الجامع 16/8، والتبيان: 1331، والطبري في: جامع البيان 25/9 والزمخشري في الكشاف 3/463.
[49109]:البيت من مشطور السريع وهو لخطام بن نصر المجاشعي ونسب إلى هميان بن قحافة وهو يصف منزلا قد خلا أهله وبقيت فيه آثارهم ومنها صاليات وهي الأحجار التي يوضع عليها القدر. والشاهد: ككما، فإن الكاف الأولى زائدة، دخلت على الثانية التي بمعنى مثل فكأنه قال: كمثل ما يؤثفين كما استشهد بالبيت أيضا على مجيء المضارع من الماضي المبدوء بهمزة قطع (أثفى) زائدة على الأصل كما في يؤكرم، وكما قال الشاعر: فإنه أهل لأن يؤكرما فالكثير: يكرما، ويثفين، والنون نون التوكيد الخفيفة فالفعل فعل مضارع مبني عل السكون لاتصال نون النسوة بت كقولنا: الفاطمات يذاكرن، سكنت النون للشعر. وانظر شرح شواهد الشافية 59، والمحتسب 1/186، وسر صناعة 1/300 والمقتضب 2/95 و4/140 و350، والكتاب 1/32 و48 و4/279، والاقتضاب 3/335 والخصائص 2/318 والرضي على الكافية 1/331، 332 والمغني 181 والدر المصون 4/747 والكشاف 3/463 والقرطبي 16/8 وجامع البيان للطبري 25/9 وبقية هذا الشعر: لم يبق من آي بها يحلين غير رماد وخطام كنفين وغير ود جازل أو دين ...........................
[49110]:من الرجز، ونسب في الكتاب لحميد الأرقط، ونسب إلى رؤبة أيضا وهو في زيادات ديوانه 181 وهو يصف قوما هلكوا ثم شبههم بالعصف، وشاهده كسابقه من زيادة الكاف وزيادة الكاف للتأكيد تأكيد التشبيه وقبله: ولعبت طير بهم أبابيل وانظر الكشاف 3/463، والمغني 180، والكتاب 1/408 وانظر الدر المصون 4/747 والمقتضب 4/141، 350 وسر صناعة 1/296.
[49111]:حتى قال ابن هشام في المغني 180 بل زيادة الاسم لم تثبت.
[49112]:وانظر البيان 2/345 وغريب القرآن لابن قتيبة 391.
[49113]:زيادة من أ.
[49114]:البيت من بحر الطويل ولم أعرف قائله. وشاهده: إقامة المثل مكان الذات مبالغة وانظر البيت في الدر المصون 4/748 وفتح القدير للشوكاني 4/528.
[49115]:من مخلع البسيط ونسبه أبو حيان ومن بعد السمين إلى أوس وليس في ديوانه ومعناه واضح. وشاهده كسابقه من حيث انتفاء الشيء أو إثباته عن المثل ويقصد بها المخاطب فإذا انتفى أو ثبت الشيء عن المثل فالمخاطب ثبتت أو تنتفي له وعنه الأشياء وانظر البحر المحيط 7/510 والدر المصون 4/748.
[49116]:أتى بت المؤلف شاهدا كسابقيه وإن كان المعنى بعيدا فدخول الكاف الزائدة تأكيدا على "مثل" يجعلنا نقر بأن ذلك شاهد أرجح ونسب هذا البيت في الطبري إلى أوس بن حجر من المتقارب، وانظر ديوانه 30 والبحر المحيط 7/510 والدر المصون 4/748، والطبري 25/9، ومجمع البيان للطبرسي 9/36 وفتح القدير 4/528 والجذوع ساق النخيل، والمسبل: المطر، والسيل المطر النازل من السماء قبل أن ينزل الأرض.
[49117]:من البسيط ولم أعرف قائله، وشاهده: كمثلهم، حيث تسلط النفي على معنى نفي مماثلة غيرهم لهم، فقد أقيم المثل مقام الذات مبالغة كما قال بذلك ابن قتيبة في غريب القرآن، وانظر البحر 7/510، والدر المصون 4/748، وفتح القدير 4/528، والطبري 25/9 ومجمع البيان 9/37.
[49118]:غريب القرآن 391.
[49119]:زيادة من البحر 7/510.
[49120]:زيادة من أ.
[49121]:قاله البغوي 6/118.
[49122]:الرازي 27/153.
[49123]:نقله الرازي وهو رأيه انظر السابق.