اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٍۖ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّۖ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لَا يُغۡنِي مِنَ ٱلۡحَقِّ شَيۡـٔٗا} (28)

قوله : { وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ } قال الزمخشري : الضمير في ( به ) يعود إلى ما كانوا يقولون{[53594]} . وقيل يعود إلى ما تقدم من عدم قَبُول الشفاعة .

وقيل : يعود إلى الله أي ما لهم بالله من علم فيُشْرِكُونَ{[53595]} . وقال مكي : الهاء تعود على الاسم لأن التسمية والاسم بمعنًى{[53596]} . وقرأ أبيّ : بِهَا{[53597]} أي بالآخرة أي ما لهم بالآخرة مِنْ علمٍ .

وقيل : بالملائكة . وقيل : بالتسمية . وهذا يقوِّي قول مَكِّيٍّ . فإن قلنا : ما لهم بالآخرة فهو جواب كما قلنا : إنهم وإن كانوا يقولون : إن الأصنام شفعاؤنا عند الله ، وكانوا يربطون الإبل على قبور الموتى ليركبوها لكن ما كانوا يقولون به عَنْ عِلْمٍ .

وإنْ قُلْنا بالتسمية ففيه إشكال ، وهو أن العلم بالتسمية حاصل لهم فإنهم يعلمون أنَّهم «لَيْسُوا{[53598]} في شكٍّ » .

والجواب : أن التسمية قد يكون واضعها الأول عالماً بأنه وضع ، وقد يكون استعمالاً معنوياً يتطرق إليه الصدق والكذب والعِلْم . فمثال الصدق مَنْ وَضَعَ أولاً اسم السماء لموضوعها وقال : هذا سماءٌ ، ومثال الكذب إذا قلنا بعد ذلك للماء والحَجَر : هذا سماء ، فإنه كذب ومن اعتقد فهو جَاهِل وكذلك قولهم في الملائكة : إنَّهم بنات الله لم تكن تسميةً وضعيةً ، وإنما أرادوا به أنهم موصوفون باسم يجب به استعمال لفظ البنات فيهم ، وذلك كذب ومعتَقده جاهلٌ ، فالمراد التسمية التي هي عن وصفٍ حقيقي لا التسمية الوضْعيَّة ؛ لأنهم عالمون بها فهذا هو المراد . قاله ابن الخطيب{[53599]} .

وقوله : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } تقدم الكلام عليه .

وقوله : { إِنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً } قيل : الحق بمعنى العلم أي لا يقوم الظنّ مَقَام العلم . وقيل : الحق بمعنى العذاب ، أي إنّ ظنهم لا يُنْقِذُهُمْ من الْعَذَابِ .

قال ابن الخطيب : المراد منه أن الظن لا يُغْني في الاعتقادات شيئاً وأما الأفعال العُرْفية أو الشرعية فإنه يتبع عند عدم الوصول إلى اليقين . ويحتمل أن يقال : المراد من الحق هو الله والمعنى أن الظن لا يفيد شيئاً من الله أي أن الأوصافَ الإلهيَّة لا تستخرج بالظنون بدليل قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الحق } .

فإن قيل : أليس الظن قد يصيب فكيف يحكم عليه بأنه لا يغني أصلاً ؟

فالجواب : أن المكلف لا يحتاج إلى مميز يُمَيّز الحقَّ من الباطل ؛ ليعتقد الحق ويميز الخير من الشر ليفعل الخير لكن في الحق ينبغي أن يكون جازماً لاعتقاد مُطَابَقَتِهِ ، والظَّانّ لا يكون جازماً وفي الخير ربما يعتبر الظن في مَواضِعَ .

فصل

اعلم أن الله تعالى منع من الظن في ثلاثة مواضع :

أحدها : قوله تعالى : { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَا أَنَزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } .

وثانيها : هذه الآية .

ثالثها : في الحجرات وهي قوله تعالى : { وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون } إلى قوله : { اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن } [ الحجرات : 12 ] فالأول : كان المنع عقيب التسمية ، والثاني : عقيب الدعاء بالألقاب وكل ذلك دليل على أن حفظ اللسان أولى من حفظ غيره من الأركان وأن الكذب أقبح من السيئات الظاهرة من الأيدي والأرجل . فهذه المواضع الثلاثة دلت على أن الظن فيها مذمومٌ أحدها : مدح ما لا يستحق المدح كاللاَّتِ والعُزَّى من العزة ، وثانيها : ذمّ من لا يستحق الذم وهم الملائكة الذين هم عِبَاد الرحمان يُسَمُّونَهُمْ تسمية الأنثى ، وثالثها : ذمّ من لم يعلم حاله ، وأما مدح من يُعْلَمُ حاله فلم يقَلْ فيه : لا يتبعون الظن بل الظن معتبر فيه والأخذ بظاهر حال العاقل واجب{[53600]} .


[53594]:الكشاف 4/32.
[53595]:الرازي 28/310.
[53596]:قال في المشكل: "الهاء تعود على الأسماء؛ لأن التسمية والأسماء بمعنى واحد". وانظر المشكل 2/331.
[53597]:شاذة غير متواترة انظر الرازي السابق والكشاف 4/32.
[53598]:زيادة من الرازي.
[53599]:بالمعنى 28/310.
[53600]:وانظر تفسير الإمام 28/310، 311.