قوله تعالى : { يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس } الآية .
وجه التعلق ، لما نهى المؤمنين عما يكون سبباً للتباغُضِ والتنافر ، أمرهم الآن بما يصير سبباً لزيادة المحبَّة والمودة .
وقال القرطبي{[55706]} : لما بين أنَّ اليهود يحيوه بما لم يحيّه الله ، وذمّهم على ذلك وصل به الأمر بتحسين الأدب في مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يضيقوا عليه المجلس ، وأمر المسلمين بالتَّعاطف والتَّآلف حتى يفسح بعضهم لبعض حتى يتمكّنوا من الاستماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم والنظر إليه .
قال قتادة ومجاهد والضحاك رضي الله عنهم : كانوا يتنافسون في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يفسح بعضهم لبعض{[55707]} .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : المراد بذلك مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب{[55708]} .
وقال الحسن ويزيد بن أبي حبيب : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قاتل المشركين تشاح أصحابه - رضي الله عنهم - على الصف الأول فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال والشهادة ، فنزلت{[55709]} ، فيكون كقوله تعالى : { مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } [ آل عمران : 121 ] .
وقال مقاتل : كان النبي صلى الله عليه وسلم في «الصفة » وكان في المكان ضيق ، وكان يكرم أهل «بدر » من المهاجرين والأنصار ، فجاءنا أناس من أهل «بدر » وقد سبقوا إلى المجلس فقاموا قبالة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام ، وشقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال صلى الله عليه وسلم لمن حوله من غير أهل «بدر » : «قُمْ يا فُلانُ » بعدد القائمين من أهل «بدر » فشقّ ذلك على من قام ، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجوههم{[55710]} ، فقال المنافقون : والله ما عدل على هؤلاء أن قوماً أخذوا مجالسهم ، وأحبوا القرب منه ، فأقامهم وأجلس من أبْطَأ ، فنزلت الآية يوم الجمعة .
وروي عن ابن عبَّاس قال نزلت الآية في ثابت بن قيس بن شماس ، وذلك أنه دخل المسجد ، وقد أخذ القوم مجالسهم ، وكان يريد القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم للوَقْر الذي كان في أذنيه ، فوسعوا له حتى قرب من النبي صلى الله عليه وسلم ثم ضايقه بعضهم وجرى بينهم وبينه كلام ، ووصف الرسول صلى الله عليه وسلم محبته للقرب منه ليسمع كلامه ، وإن فلاناً لم يفسح له ، فنزلت هذه الآية{[55711]} .
قوله تعالى : { تَفَسَّحُواْ فِي المجالس } ، قرأ الحسن ، وداود{[55712]} بن أبي هند ، وعيسى ، وقتادة : «تَفَاسحُوا » ، والباقون : «تَفَسَّحوا » أي : توسعوا والفُسْحة : السَّعة ، وفسح له : أي وسع له ، ومنه قولهم : «بلد فسيحٌ » ولك في كذا فسحة ، وفسح يَفْسَحُ ، مثل : «مَنَعَ يَمْنَعُ » أي : وسع في المجلس ، و«فَسُحَ يَفْسُحُ فَسَاحَةً » مثل : «كَرُمَ يَكْرُمُ كرامة » أي : صار واسعاً ، ومنه مكان فسيح{[55713]} .
وقرأ عاصم : «في المجالس » جمعاً اعتباراً بأن لكلّ واحد منهم مجلساً .
والباقون{[55714]} : بالإفراد إذ المراد مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أحسن من كونه واحداً أريد به الجمع ، وقرئ{[55715]} : «في المَجْلَس » - بفتح اللام - وهو المصدر ، أي : تفسحوا في جلوسكم ، ولا تتضايقوا .
فصل في أن الآية عامة في كل مجلس خير :
قال القرطبي{[55716]} : الصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير ، والأجر ، سواء كان مجلس حَرْب أو ذكر ، أو مجلس يوم الجمعة ، وإن كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ سَبَقَ إلى مَا سَبَقَ إليْهِ فَهُوَ أحقُّ بِهِ ولكِنْ يُوسِّعُ لأخيهِ ما لم يتأذَّى بذلكَ فيُخْرجهُ الضَّيْقُ من موضعه »{[55717]} .
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «لا يُقِيمُ الرَّجلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيْه »{[55718]} .
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يقام الرجل من مجلسه ، ويجلس فيه آخر ، ولكن تفسّحوا وتوسّعوا{[55719]} .
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يكره أن يقيم الرجل من مجلسه ، ثم يجلس مكانه .
وروى أبو هريرة عن جابر - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «لا يُقِيمنَّ أحَدُكُمْ أخَاهُ يَوْمَ الجُمعَةِ ثُمَّ يُخَالفُ إلى مَقْعَدهِ ، فَيقْعُدَ فِيْهِ ، ولكِنْ يقُولُ : أفسحوا »{[55720]} .
إذا قام من مكانه ، فقعد غيرهُ نظرنا ، فإن كان الموضع الذي قام إليه مثل الأول في سماع كلام الإمام ، لم يكره له ذلك ، وإن كان أبعد من الإمام كره له ذلك ؛ لأن فيه تفويت حظه{[55721]} .
إذا أمر رجل إنساناً أن يبكر إلى الجامع ، فيأخذ له مكاناً يقعد فيه لا يكره ، فإذا جاء الآمر يقوم من الموضع ؛ لأن ابن سيرينَ كان يرسل غلامه إلى مجلس له في يوم الجمعة ، فيجلس فيه ، فإذا جاء قام له منه ، وعلى هذا من أرسل بساطاً أو سجَّادة ، فيبسط له في موضع من المسجد أنه لا يزعج منه .
وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إذَا قَامَ أحَدُكُمْ » - وفي حديث أبي عوانة : «مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلسهِ - ثُمَّ رَجَعَ إليْهِ فَهُوَ أحَقُّ بِهِ »{[55722]} ذكره القرطبي في «تفسيره »{[55723]} .
قوله : { يَفْسَحِ الله لَكُمْ } ، قال ابن الخطيب{[55724]} : هذا مطلق فيما يطلب النَّاس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر والجنة ، قال : ولا ينبغي للعاقل أن يقيد الآية بالتفسُّح في المجلس بل المراد منه إيصال الخير إلى المسلم وإدخال السرور في قلبه .
قوله : { وَإِذَا قِيلَ انشزوا فانشزوا } ، قرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو بكر{[55725]} بخلاف عنه بضم شين «انْشُزُوا » في الحرفين ، والباقون : بكسرهما ، وهما لغتان بمعنى واحد ، يقال : نشز أي : ارتفع ، يَنْشِزُ ويَنْشُزُ ك «عَرَشَ يَعْرِشُ ويَعْرُشُ ؛ وعَكَفَ يَعْكفُ ويَعْكُفُ » وتقدم الكلام على هذا في «المائدة » .
قال ابن عباس : معناه إذا قيل لكم : ارتفعوا فارتفعوا{[55726]} .
قال مجاهد والضحاك : إذا نودي للصَّلاة فقوموا إليها ، وذلك أن رجالاً تثاقلوا{[55727]} عن الصلاة{[55728]} ، فنزلت . وقال الحسن ومجاهد أيضاً : انهضوا إلى الحرب{[55729]} .
وقال ابن زيد والزَّجَّاج{[55730]} : هذا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم كان كل رجل منهم يحب أن يكون آخر عهده بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى :{ وَإِذَا قِيلَ انشُزوا } عن النبي صلى الله عليه وسلم «فانْشُزُوا » أي ارتفعوا عنه فإن له حوائج فلا تمكثوا{[55731]} .
وقال قتادة : معناه : أجيبوا إذا دعيتم إلى أمر بالمعروف{[55732]} .
قال القرطبي{[55733]} : «وهذا هو الصحيح لأنه يعم ، والنَّشْز : الارتفاع ، مأخوذ من نَشْزِ الأرض ، وهو ارتفاعها » .
قوله :{ يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ } بطاعاتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقيامهم في مجالسهم ، وتوسّعهم لإخوانهم .
وقوله تعالى :{ والذين أُوتُواْ العلم } يجوز أن يكون معطوفاً على «الَّذين آمنوا » ، فهو من عطف الخاص على العام ؛ لأن الذين أوتوا العلم بعض المؤمنين منهم ، ويجوز أن يكون «الذين أوتوا » من عَطْف الصفات ، أي :تكون الصفتان لذات واحدة ، كأنه قيل :يرفع الله المؤمنين العلماء ، و«درجات » مفعول ثان ، وقد تقدم الكلام على نحو ذلك في «الأنعام »{[55734]} .
وقال ابن عباس رضي الله عنه : تم الكلام عند قوله تعالى : «منكم » ، وينصب «الذين أوتوا » بفعل مضمر ، أي : ويخصّ الذين أوتوا العلم بدرجات ، أو يرفعهم درجات .
قال المفسرون{[55735]} في هذه الآية : إن الله - تعالى - رفع المؤمن على من ليس بمؤمن ، والعالم على من ليس بعالم .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : مدح الله العلماء في هذه الآية{[55736]} والمعنى : أن الله - تعالى - يرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات في دينهم إذا فعلوا ما أمروا به .
وقيل : كان أهل الغنى يكرهون أن يزاحمهم من يلبس الصوف ، فيسبقون إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فالخطاب لهم .
ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجُلاً من الأغنياء يقبض ثوبه نفوراً من بعض الفقراء أراد أن يجلس إليه ، فقال :«يا فُلاَنُ أخَشِيْتَ أنْ يتعدَّى غِناكَ إليْهِ أوْ فَقْرُه إلَيْكَ »{[55737]} .
وبيّن في هذه الآية أن الرِّفعة عند الله - تعالى - بالعلم والإيمان لا بالسَّبْق إلى صدور المجالس ، وقيل : أراد بالذين أوتوا العلم الذين قرأوا القرآن ، وروى يحيى بن يحيى عن مالك - رضي الله عنه - { يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ } الصحابة ، { والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ } يرفع الله - تعالى - بها العالم والطالب .
قال القرطبي{[55738]} : ثبت في الصحيح أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يقدم عبد الله بن عباس على الصحابة فكلموه في ذلك ، فدعاهم ودعاه ، وسألهم عن تفسير : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله والفتح }[ النصر : 1 ] فسكتوا فقال ابن عباس : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله إيَّاه ، فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تعلم{[55739]} .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بَيْنَ العَالمِ والعَابدِ مائَةُ دَرَجَةٍ ، بَيْنَ كُلِّ دَرَجتيْنِ حَضْر الجَوادِ المُضمَّرِ سَبْعِينَ سَنَة »{[55740]} .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فَضْلُ العَالمِ عَلى العَابِدِ كَفضْلِ القَمَرِ ليْلَةَ البَدْرِ عَلى سَائِرِ الكَواكِبِ »{[55741]} .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يَشْفَعُ يَوْمَ القِيامَةِ ثلاثةٌ : الأنْبِيَاءُ ثُمَّ العلماءُ ثُمَّ الشُّهداءُ »{[55742]} .
فأعظم بمنزلة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعن ابن عباس رضي الله عنه : «خُيِّرَ سليمان - صلوات الله وسلامه عليه - بين العلم والمال والملك ، فاختار العلم فأعطي المال والملك معه »{[55743]} .
ومر النبي صلى الله عليه وسلم بمجلسين في مسجده ، أحد المجلسين يدعون الله عز وجل ويرغبون إليه ، والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كِلاَ المَجْلِسيْنِ عَلَى خَيْرٍ ، وأحَدُهُمَا أفْضَلُ مِنْ صَاحبهِ ، أمَّا هؤلاءِ فَيَدْعُونَ اللَّهَ - عزَ وجلَّ - ويرغبُون إليه ، وأمَّا هؤلاءِ فيتعلَّمونَ الفقهَ ويُعَلّمُونَ الجاهلَ ، فهؤلاءِ أفضلُ ، وإنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّماً » ثم جلس فيهم{[55744]} .