اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ مَعَكُمۡ فَأُوْلَـٰٓئِكَ مِنكُمۡۚ وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ} (75)

قوله تعالى : { والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ } .

هؤلاء هم القسم الرابع من مؤمني زمان محمد عليه الصلاة والسلام ، الذين لم يوافقوا الرسول في الهجرة ، إلاَّ أنهم بعد ذلك هاجروا إليه وجاهدوا معه .

واختلفوا في قوله " مِنْ بعْدُ " فقال الواحدي ، عن ابن عبَّاسٍ " بعد الحديبية وهي الهجرة الثانية " {[17528]} .

وقيل : بعد نزول هذه الآية ، وقيل : بعد يوم بدر ، والأصحُّ أنَّ المراد : والذين هاجروا بعد الهجرة الأولى ، وهؤلاء هم التابعون بإحسان ، كما قال : { والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ } [ التوبة : 100 ] والصحيح : أنَّ الهجرة انقطعت بفتح مكَّة ، لأنَّ مكة صارت بلد الإسلام .

وقال الحسن : " الهجرة غير منقطعة أبداً {[17529]} " . وأما قوله عليه الصلاة والسلام " لا هجْرةَ بعْدَ الفَتْحِ {[17530]} " فالمراد الهجرة المخصوصة ، فإنَّها انقطعت بالفتح وبقوة الإسلام ، أما لو اتفق في بعض الأمان كون المؤمنين في بلد ، وهم قليلون ، وللكافرين معهم شوكة ، وإن هاجروا المسلمون من تلك البلدة إلى بلد آخر ضعفت شوكة الكفار فهاهنا تلزمهم الهجرة على ما قاله الحسن ؛ لأنَّ العلة في الهجرة من مكة إلى المدينة قد حصلت فيهم .

قوله { فأولئك مِنكُمْ } أي : معكم ، يريد : أنتم منهم وهو منكم .

ثم قال : { وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله } .

قالوا : المراد بالولاية ولاية الميراث ، قالوا هذه الآية ناسخة ؛ لأنَّهُ تعالى بيَّن أنَّ الإرث كان بسبب الهجرة والنصرة ، والآن بعد نسخ ذلك فلا يحصل الإرث إلاَّ بسبب القرابة .

وقوله : { فِي كِتَابِ الله } أي : السهام المذكورة في سورة النّساء ، وأمَّا الذين فسَّروا الولاية بالنَّصرة والتَّعظيم قالوا " : إنَّ تلك الولاية لمَّا كانت محتملة للولاية بسبب الميراث بين الله تعالى في هذه الآية أنَّ ولاية الإرث إنَّما تحصل بسبب القرابة ، إلاَّ ما خصَّ الدليل ، فيكون المقصود من هذا الكلام إزالة هذا الوهم .

فصل

تمسَّك أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية في توريث ذوي الأرحام ، وأجيبوا بأن قوله : { وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } مجمل في الشيء الذي حصلت فيه هذه الأولوية .

فلما قال : { فِي كِتَابِ الله } كان معناه في الحكم الذي بيَّنه اللَّهُ في كتابه فصارت هذه الأولوية مقيَّدة بالأحكام التي بيَّنها اللَّهُ في كتابه وتلك الأحكام ليست إلاَّ ميراث العصبات ، فيكونُ المرادُ من هذا المجمل هو ذلك فقط ، فلا يتعدَّى إلى توريث ذوي الأرحام .

فإن قيل تمسكوا بهذه الآية في أن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو علي بن أبي طالب ، لقوله : { وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } [ الأنفال : 75 ] فدل على ثبوت الأولوية ، وليس في الآية شيء معين في ثبوت هذه الأولوية ؛ فوجب حمله على الكل ، إلاَّ ما خصّه الدَّليل ، فيندرج فيه الإمامة ، ولا يجوزُ أن يقال : إنَّ أبا بكر من أولي الأرحام ، لما نقل أنَّهُ عليه الصلاة والسلام أعطاه سورة براءة ليبلغها إلى القوم ثم بعت علياً خلفه وأمر أن يكون المبلغ هو علي ، وقال : " لا يُؤدِّيها إلاَّ رجلٌ مِنِّي " وذلك يدلُّ على أنَّ أبا بكر ما كان منه .

والجوابُ : إن صحَّت هذه الدلالة كان العباس أولى بالإمامةِ ؛ لأنَّهُ كان أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ عليٍّ .

قوله : { فِي كِتَابِ الله } يجوزُ أن يتعلَّق بنصّ أولها أي : أحق في حكم الله أو في القرن ، أو في اللوح المحفوظ ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : هذا الحكمُ المذكور في كتاب الله .

ثم قال : { إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي : أنَّ هذه الأحكام التي ذكرتها وفصلتها كلها حكمة وصواب ، وليس فيها شيء من العبث ؛ لأنَّ العالم بجميع المعلومات لا يحكم إلاَّ بالصَّواب .

ختام السورة:

روى أنس قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَرَأ سُورة الأنفال وبراءة فأنَّا شَفِيعٌ لَهُ يوم القيامة ، وشاهد أنَّه بريءٌ منَ النِّفاق وأعطي من الأجْرِ بعددِ كُلِّ مُنافقٍ ومُنافِقَةٍ في دارِ الدُّنْيَا عشر حسناتٍ ، ومُحِيَ عنه عشرُ سيئاتِ ، ورفع لهُ عشرُ درجاتٍ ، وكان العَرْشَ وحملته يُصَلُّون عليه أيَّام حياتِهِ في الدنيا " {[1]}


[1]:في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام 28/117.
[17528]:ذكره الواحدي في "الوسيط" (2/474) البغوي (2/264) والقرطبي (8/38) وأبو حيان في البحر المحيط 4/523) والرازي 15/169.
[17529]:ذكره الرازي في تفسيره (15/169).
[17530]:أخرجه البخاري رقم (1834) ومسلم (1353) والترمذي (1638) والنسائي (7/145-146) وأبو داود (2463) وابن الجارود (1030) وعبد الرزاق (9711، 9713) من حديث ابن عباس. وأخرجه مسلم (3/488) كتاب الإمارة: باب بيان معنى لا هجرة بعد الفتح حديث (16/1468) من حديث عائشة. وأخرجه أحمد (3/401، 6/465-466) والنسائي (7/145-146) من حديث صفوان بن أمية. وأخرجه البخاري رقم (3078، 3079) من حديث مجاشع بن مسعود وأخرجه الطيالسي (1989) وأحمد (3/22-5/187) والطبراني في "الكبير" (4444، 4786) والحاكم (2/257) والبيهقي في دلائل النبوة (5/109) من حديث أبي سعيد الخدري.