مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَإِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} (117)

أما قوله تعالى : { بديع السموات والأرض } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : البديع والمبدع بمعنى واحد . قال القفال : وهو مثل أليم بمعنى مؤلم وحكيم بمعنى محكم ، غير أن في بديع مبالغة للعدول فيه وأنه يدل على استحقاق الصفة في غير حال الفعل على تقدير أن من شأنه الإبداع فهو في ذلك بمنزلة : سامع وسميع وقد يجيء بديع بمعنى مبدع ، والإبداع الإنشاء ونقيض الإبداع الاختراع على مثال ولهذا السبب فإن الناس يسمون من قال أو عمل ما لم يكن قبله مبتدعا .

المسألة الثانية : اعلم أن هذا من تمام الكلام الأول ، لأنه تعالى قال : { بل له ما في السموات والأرض } فبين بذلك كونه مالكا لما في السموات والأرض ثم بين بعده أنه المالك أيضا للسموات والأرض ، ثم أنه تعالى بين أنه كيف يبدع الشيء فقال : { وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قال بعض الأدباء : القضاء مصدر في الأصل سمي به ولهذا جمع على أقضية كغطاء وأغطية ، وفي معناه القضية ، وجمعها القضايا ووزنه فعال من تركيب «ق ض ى » وأصله «قضاي » إلا أن الياء لما وقعت طرفا بعد الألف الزائدة اعتلت فقلبت ألفا ، ثم لما لاقت هي ألف فعال قلبت همزة لامتناع التقاء الألفين لفظا ، ومن نظائره المضاء والإتاء ، من مضيت وأتيت والسقاء والشفاء ، من سقيت وشفيت ، والدليل على إصالة الياء دون الهمزة ثباتها في أكثر تصرفات الكلمة تقول : قضيت وقضينا ، وقضيت إلى قضيتن ، وقضيا وقضين ، وهما يقضيان ، وهي وأنت تقضي ، والمرأتان وأنتما تقضيان ، وهن يقضين ، وأما أنت تقضين ، فالياء فيه ضمير المخاطبة ، وأما معناه فالأصل الذي يدل تركيبه عليه هو معنى القطع ، من ذلك قولهم : قضى القاضي لفلان على فلان بكذا قضاء إذا حكم ، لأنه فصل للدعوى ، ولهذا قيل : حاكم فيصل إذا كان قاطعا للخصومات وحكى ابن الأنباري عن أهل اللغة أنهم قالوا : القاضي معناه القاطع للأمور المحكم لها ، وقولهم انقضى الشيء إذا تم وانقطع ، وقولهم : قضى حاجته ، معناه قطعها عن المحتاج ودفعها عنه وقضى دينه إذا أداه إليه كأنه قطع التقاضي والاقتضاء عن نفسه أو انقطع كل منهما عن صاحبه ، وقولهم : قضى الأمر ، إذا أتمه وأحكمه ، ومنه قوله تعالى : { فقضاهن سبع سموات } وهو من هذا لأن في إتمام العمل قطعا له وفراغا منه ، ومنه : درع قضاء من قضاها إذا أحكمها وأتم صنعها ، وأما قولهم : قضى المريض وقضى نحبه إذا مات ، وقضى عليه : قتله فمجاز مما ذكر والجامع بينهما ظاهر ، وأما تقضي البازي فليس من هذا التركيب ، ومما يعضد ذلك دلالة ما استعمل من تقليب ترتيب هذا التركيب عليه وهو القيض والضيق ، أما الأول فيقال : قاضه فانقاض ، أي شقه فانشق ، ومنه قيض البيض لما انفلق من قشره الأعلى ، وانقاض الحائط إذا انهدم من غير هدم ، والقطع والشق والفلق والهدم متقاربة ، وأما الضيق وما يشتق منه فدلالته على معنى القطع بينة ، وذلك أن الشيء إذا قطع ضاق أو على العكس ، ومما يؤكد ذلك أن ما يقرب من هذا التركيب يدل أيضا على معنى القطع ، ( فأولها ) : قضبه إذا قطعه ، ومنه القضبة المرطبة ، لأنها تقضب أي تقطع تسمية بالمصدر ، والقضيب : الغصن ، فعيل بمعنى مفعول ، والمقضب ما يقضب به كالمنجل . ( وثانيها ) القضم وهو الأكل بأطراف الأسنان ، لأن فيه قطعا للمأكول ، وسيف قضيم : في طرفه تكسر وتفلل . ( وثالثها ) : القضف وهو الدقة ، يقال رجل قضيف ، أي : نحيف ، لأن القلة من مسببات القطع . ( ورابعها ) : القضأة فعلة وهي الفساد ، يقال قضئت القربة إذا عفيت وفسدت وفي حسبه قضأة أي عيب ، وهذا كله من أسباب القطع أو مسبباته فهذا هو الكلام في مفهومه الأصلي بحسب اللغة .

المسألة الثانية : في محامل لفظ القضاء في القرآن قالوا : أنه يستعمل على وجوه . ( أحدها ) : بمعنى الخلق ، قوله تعالى : { فقضاهن سبع سموات } يعني خلقهن . ( وثانيها ) : بمعنى الأمر قال تعالى : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } ( وثالثها ) : بمعنى الحكم ، ولهذا يقال للحاكم : القاضي . ( ورابعا ) : بمعنى الإخبار ، قال تعالى : { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب } أي أخبرناهم ، وهذا يأتي مقرونا بإلى . ( وخامسها ) : أن يأتي بمعنى الفراغ من الشيء قال تعالى : { فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين } يعني لما فرغ من ذلك ، وقال تعالى : { وقضي الأمر واستوت على الجودي } يعني فرغ من إهلاك الكفار وقال : { ليقضوا تفثهم } بمعنى ليفرغوا منه ، إذا عرفت هذا فنقول : قوله : { إذا قضى أمرا } قيل : إذا خلق شيئا ، وقيل : حكم بأنه يفعل شيئا ، وقيل : أحكم أمرا ، قال الشاعر :

وعليهما مسرودتان قضاهما *** داود أو صنع السوابغ تبع

المسألة الثالثة : اتفقوا على أن لفظ الأمر حقيقة في القول المخصوص ، وهل هو حقيقة في الفعل والشأن الحق ؟ نعم وهو المراد بالأمر ههنا ، وبسط القول فيه مذكور في أصول الفقه .

المسألة الرابعة : قرأ ابن عامر : { كن فيكون } بالنصب في كل القرآن إلا في موضعين : في أول آل عمران : { كن فيكون الحق } وفي الأنعام : { كن فيكون قوله الحق } فإنه رفعهما ، وعن الكسائي بالنصب في النحل ويس وبالرفع في سائر القرآن ، والباقون بالرفع في كل القرآن ، أما النصب فعلى جواب الأمر ، وقيل هو بعيد ، والرفع على الاستئناف أي فهو يكون .

المسألة الخامسة : اعلم أنه ليس المراد من قوله تعالى : { فإنما يقول له كن فيكون } هو أنه تعالى يقول له : { كن } فحينئذ يتكون ذلك الشيء فإن ذلك فاسد والذي يدل عليه وجوه . ( الأول ) : أن قوله : { كن فيكون } إما أن يكون قديما أو محدثا والقسمان فاسدان فبطل القول بتوقف حدوث الأشياء على { كن } إنما قلنا : إنه لا يجوز أن يكون قديما لوجوه . ( الأول ) : أن كلمة { كن } لفظة مركبة من الكاف والنون بشرط تقدم الكاف على النون ، فالنون لكونه مسبوقا بالكاف لابد وأن يكون محدثا ، والكاف لكونه متقدما على المحدث بزمان واحد يجب أن يكون محدثا . ( الثاني ) : أن كلمة { إذا } لا تدخل إلا على سبيل الاستقبال ، فذلك القضاء لابد وأن يكون محدثا لأنه دخل عليه حرف { إذا } وقوله { كن } مرتب على القضاء بفاء التعقيب لأنه تعالى قال : { فإنما يقول له كن } والمتأخر عن المحدث محدث ، فاستحال أن يكون : { كن } قديما . ( الثالث ) : أنه تعالى رتب تكون المخلوق على قوله : { كن } بفاء التعقيب فيكون قوله : { كن } مقدما على تكون المخلوق بزمان واحد والمتقدم على المحدث بزمان واحد لابد وأن يكون محدثا فقوله : { كن } لا يجوز أن يكون قديما ، ولا جائز أيضا أن يكون قوله : { كن } محدثا لأنه لو افتقر كل محدث إلى قوله : { كن } وقوله : { كن } أيضا محدث فيلزم افتقار : { كن } آخر ويلزم إما التسلسل وإما الدور وهما محالان ، فثبت بهذا الدليل أنه لا يجوز توقف إحداث الحوادث على قوله : { كن } .

الحجة الثانية : أنه تعالى إما أن يخاطب المخلوق بكن قبل دخوله في الوجود أو حال دخوله في الوجود ، ( والأول ) : باطل لأن خطاب المعدوم حال عدمه سفه ، ( والثاني ) : أيضا باطل لأنه يرجع حاصله إلى أنه تعالى أمر الموجود بأن يصير موجودا وذلك أيضا لا فائدة فيه .

الحجة الثالثة : أن المخلوق قد يكون جمادا ، وتكليف الجماد عبث ولا يليق بالحكيم .

الحجة الرابعة : أن القادر هو الذي يصح منه الفعل وتركه بحسب الإرادات ، فإذا فرضنا القادر المريد منفكا عن قوله : { كن } فإما أن يتمكن من الإيجاد والإحداث أو لا يتمكن ، فإن تمكن لم يكن الإيجاد موقوفا على قوله : { كن } وإن لم يتمكن فحينئذ يلزم أن لا يكون القادر قادرا على الفعل إلا عند تكلمه بكن فيرجع حاصل الأمر إلى أنكم سمعتم القدرة بكن وذلك نزاع في اللفظ .

الحجة الخامسة : أن { كن } لو كان له أثر في التكوين لكنا إذا تكلمنا بهذه الكلمة وجب أن يكون لها ذلك التأثير ، ولما علمنا بالضرورة فساد ذلك علمنا أنه لا تأثير لهذه الكلمة .

الحجة السادسة : أن { كن } كلمة مركبة من الكاف والنون ، بشرط كون الكاف متقدما على النون ، فالمؤثر إما أن يكون هو أحد هذين الحرفين أو مجموعهما ، فإن كان الأول لم يكن لكلمة { كن } أثر البتة ، بل التأثير لأحد هذين الحرفين ، وإن كان الثاني فهو محال ، لأنه لا وجود لهذا المجموع البتة لأنه حين حصل الحرف الأول لم يكن الثاني حاصلا ، وحين جاء الثاني فقد فات الأول ، وإن لم يكن للمجموع وجود البتة استحال أن يكون للمجموع أثر البتة .

الحجة السابعة : قوله تعالى : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } بين أن قوله : { كن } متأخر عن خلقه إذ المتأخر عن الشيء لا يكون مؤثرا في المتقدم عليه ، فعلمنا أنه لا تأثير لقوله : { كن } في وجود الشيء فظهر بهذه الوجوه فساد هذا المذهب ، وإذا ثبت هذا فنقول لابد من التأويل وهو من وجوه :

( الأول ) : وهو الأقوى أن المراد من هذه الكلمة سرعة نفاذ قدرة الله في تكوين الأشياء ، وأنه تعالى يخلق الأشياء لا بفكرة ومعاناة وتجربة ونظيره قوله تعالى عند وصف خلق السموات والأرض : { فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } من غير قول كان منهما لكن على سبيل سرعة نفاذ قدرته في تكوينهما من غير ممانعة ومدافعة ونظيره قول العرب : قال الجدار للوتد لم تشقني ؟ قال : سل من يدقني فإن الذي ورائي ما خلاني ورائي ونظيره قوله تعالى : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم } ( الثاني ) : أنه علامة يفعلها الله تعالى للملائكة إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمرا يحكى ذلك عن أبي الهذيل . ( الثالث ) : أنه خاص بالموجودين الذين قال لهم { كونوا قردة خاسئين } ومن جرى مجراهم وهو قول الأصم . ( الرابع ) : أنه أمر للأحياء بالموت وللموتى بالحياة والكل ضعيف والقوي هو الأول .