المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَإِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} (117)

{ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }( 117 )

و { بديع } مصروف( {[1172]} ) من مبدع كبصير من مبصر ، ومثله قول عمرو بن معديكرب : [ الوافر ] :

أَمِنْ ريحانة الداعي السميعِ( {[1173]} ) *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

يريد المسمع ، والمبدع المخترع المنشيء ، ومنه أصحاب البدع( {[1174]} ) ، ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صلاة رمضان : «نعمت البدعة هذه » .

وخص { السماوات والأرض } بالذكر لأنها أعظم ما نرى من مخلوقاته جل وعلا ، و { قضى } ، معناه قدر ، وقد يجيء بمعنى أمضى ، ويتجه في هذه الآية المعنيان ، فعلى مذهب أهل السنة قدر في الأزل وأمضى فيه ، وعلى مذهب المعتزلة أمضى عند الخلق والإيجاد .

والأمر واحد الأمور ، وليس هنا بمصدر أمر يأمر ، ويكون رفع على الاستئناف ، قال سيبويه : «معناه فهو يكون » ، قال غيره : «يكون » عطف على «يقول » ، واختاره الطبري وقرره( {[1175]} ) ، وهو خطأ من جهة المعنى ، لأنه يقتضي أن القول مع التكوين والوجود( {[1176]} ) ، وتكلم أبو علي الفارسي في هذه المسألة بما هو فاسد من جملة الاعتزال لا من جهة العربية .

وقرأ ابن عامر «فيكونَ » بالنصب ، وضعفه أبو علي ، ووجهه مع ضعفه على أن يشفع له شبه اللفظ( {[1177]} ) ، وقال أحمد بن موسى في قراءة ابن عامر : «هذا لحن »( {[1178]} ) .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : لأن الفاء لا تعمل في جواب الأمر إلا إذا كانا فعلين يطرد فيها معنى الشرط ، تقول أكرم زيداً فيكرمك ، والمعنى إن تكرم زيداً يكرمك ، وفي هذه الآية لا يتجه هذا ، لأنه يجيء تقديره : إن تكن يكن ، ولا معنى لهذا( {[1179]} ) ، والذي يطرد فيه معنى الشرط هو أن يختلف الفاعلان أو الفعلان( {[1180]} ) فالأول أكرم زيداً فيكرمك والثاني أكرم زيداً فتسود .

وتلخيص المعتقد في هذه الآية ، أن الله عز وجل لم يزل آمراً للمعدومات بشرط وجودها ، قادراً مع تأخر المقدورات ، عالماً مع تأخر وقوع المعلومات ، فكل ما في الآية مما يقتضي الاستقبال ، فهو بحسب المأمورات ، إذ المحدثات تجيء بعد أن لم تكن ، وكل ما يستند إلى الله تعالى من قدرة وعلم وأمر فهو قديم لم يزل ، ومن جعل من المفسرين { قضى } بمعنى أمضى عند الخلق والإيجاد ، فكأن إظهار المخترعات في أوقاتها المؤجلة قول لها { كن }( {[1181]} ) ، إذ التأمل يقتضي ذلك ، على نحو قول الشاعر [ أبو النجم العجلي ] : [ الرجز ]

وقالتِ الأقرابُ للبطن الحق( {[1182]} ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله يجري مع قول المعتزلة ، والمعنى الذي تقتضيه عبارة { كن } هو قديم قائم بالذات( {[1183]} ) ، والوضوح التام في هذه المسألة يحتاج أكثر من هذا البسط .


[1172]:- أي صرف (مُفْعِل) إلى (فَعيل)، والمراد أنه بمعناه أنه توجد المبالغة في بديع دون مبدع.
[1173]:- تمامه: .................. يؤرقني وأصحابي هجوع.
[1174]:- فكل من أحدث شيئا فقد أبدعه.
[1175]:- قال الطبري: "أمره للشيء بكن لا يتقدم الوجود ولا يتأخر عنه، فلا يكون الشيء مأمورا بالوجود إلا وهو موجود بالأمر، ولا موجودا بالأمر إلا وهو مأمور بالوجود". انتهى. فعلى ما قال سيبويه يكون فعل الأمر وإن كان معدوما فهو يمنزلة الموجود إذ هو عنده معلوم، وعلى ما قاله الطبري يكون مع الأمر إذ أمره للشيء بكن لا يتقدم الوجود ولا يتأخر عنه، فلا يكون الشيء مأمورا بالوجود إلا وهو موجود بالأمر ولا موجودا بالأمر إلا وهو مأمور بالوجود. راحع البحر المحيط 1/364.
[1176]:- قال (ح) رحمه الله: "ومعنى رده أن الأمر عنده قديم التكوين حادث، وقد نسق عليه بالفاء فهو معه أي يعتقبه فلا يصح ذلك لأن القديم لا يعتقبه الحادث". انتهى. وقد يقال: إن التعقيب غير المعية، والتعقيب في كل شيء بحسبه، ثم إن رد ابن عطية رحمه الله إنما يتم إذا كان هناك قول وأمر حقيقيان، أما إذا كان ذلك على جهة المجاز ومن باب التمثيل لسرعة الأمر ونفاذه فيجوز العطف على (يقول)، والله أعلم.
[1177]:- يعني أن وجه النصب أنه جواب على لفظ (كن) لأنه جاء بلفظ الأمر فهو شبه بالأمر الحقيقي، وهذا التوجيه من أبي علي الفارسي مع أنه هو الذي ضعف القراءة.
[1178]:- لم يقبل أبو حيان كلام أحمد بن موسى، وقال: هذا قول خطأ، لأن هذه القراءة في السبعة فهي متواترة، وابن عامر رجل عربي لم يكن ليلحن. اهـ. البحر المحيط1/366 – وأحمد بن موسى هذا هو أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد البغدادي المتوفي سنة 324هـ.
[1179]:- من شرط نصب جواب الأمر أن ينعقد منهما شرط وجزاء، نحو ائتني فأكرمك، تقديره: إن تأتني أكرمك، وهنا لا يصح إن يكن يكن، وإلا لزم كون الشيء سببا لنفسه، ويمكن الجواب بأن المراد إن يكن في علم الله وإرادته يكن في الخارج فهو على حد: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله إلخ. وقول القاضي رحمه الله: وفي هذه الآية لا يتجه هذا، يقال عليه: قد يتجه على أن يكون التقدير: إن قال له: كن يكون، لأن كن محكي بالقول، وليس مستقلا بنفسه حتى يقدر منه فعل الشرط فقط، والله أعلم.
[1180]:- أو متعلقات الفعلين.
[1181]:- يعني أن إظهار الأشياء من العدم إلى الوجود عبر عنه بالقول وإن لم يكن هناك قول. كقول أبي النجم العجلي: (وقالت الأقراب للبطن الحق) ولا قول هناك، وإنما أراد أن الظهر قد لحق بالبطن. والمراد أن الله سبحانه وتعالى عبر بالقول عما يريد خلقه وإيجاده وليس ثم قول، وهذا لا يتمشى مع قول المعتزلة الذين يقولون: أمضى عند الخلق والإيجاد.
[1182]:- هذا صدر بيت للشاعر أبي النجم العجلي، وتمامه: .......................... قدما فآضت كالفنيق المحنق والأقراب جمع قرب (بضم الراء وبسكونها)، والقرب: الخاصرة. قال في اللسان: فرس لاحق الأقراب- يجمعونه، وإنما له قربان لسعته- والْحَقِ: أمر، أي الصق يا بطن بالظهر وانضمر، وآضت: أي صارت كالفنيق- أي صارت الناقة كالفنيق- وهو الفحل المنعم المكرم يقال: أفنقه إذا نعمه، وجارية فنقة: أي ناعمة. والمحنق: المغيظ من الحنق وهو الغيظ والحقد، والخطاب هنا من باب التمثيل- لأن الأقراب لم تتكلم.
[1183]:- وأما لفظة (كن) فهي محدثة، ومن يعقل مدلول اللفظ وكونه يسبق بعض حروفه بعضا لم يدخله شك في حدوثه، وإذا كان الأمر كذلك فلا قول ولا خطاب لفظيا، وإنما ذلك عبارة عن سرعة الإيجاد، فهو من مجاز التمثيل حتى كأن المعدوم موجود يقبل الأمر ويمتثله بسرعة.