التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَإِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} (117)

قوله : { بديع السماوات والأرض } وهذا المعنى الكريم وثيق الصلة بما سبقه من معنى . والمقصود من ذلك : نفي ما نسب إلى الله من اتخاذ الولد ، فإنه سبحانه غني عن أن يكون له ولد ، فهو مالك الأرض والسماوات التي يقنت لجلالة كل ما فيهن من خلائق ، وهو كذلك بديع السماوات والأرض ، أي مبدعهما ومنشؤهما على غير مثال سبق . وبديع على وزن فعيل وهو على صيغة مبالغة من الإبداع ومنه المبدع وهو اسم الفاعل . فالله عز وعلا سابق الحياة والأحياء والوجود جميعا ، فإنه ليس قبله شيء ؛ فهو وحده الذي أبدع السماوات والأرض وأنشأهما إنشاء من غير أن يكون لهن قبل ذلك سابق إنشاء أو وجود .

ومن البديع يرد مفهوم البدعة وهي نوعان : بدعة حسنة مشروعة وأخرى سيئة ممنوعة . أما البدعة الحسنة المشروعة فهي ما كانت موافقة لشرع الله من كتاب أو سنة أو عمل الصحابة ، فهي بذلك ليست مخالفة لأمر من أمور الشرع أدنى مخالفة ، لا صريحة ولا ضمنية تؤول إلى المحظور في النهاية .

ومثال ذلك ما رآه عمر بن الخطاب في البدعة الحسنة ، إذ جمع الناس على صلاة التراويح في جماعة بعد أن كان الناس يصلونها فرادى زمن النبوة الكريمة وفي زمن الصديق الخليفة الراشد الأول- رضي الله عنه- وقال عمر في ذلك : " نعمت البدعة هذه " .

أما البدعة السيئة الممنوعة فهي ما كانت مخالفة لشرع الله من كتاب أو سنة أو عمل الصحابة ، ويتضمن ذلك كل قول أو عمل لا يقوم على أساس من الشرع معتمد أو جاء على غير مثال سابق من أعمال الصحابة أو أقوالهم فهو بذلك ممنوع شرعا يجب النهي عنه ودفعه .

والبدع السيئة في هذا الزمان كثيرة يصعب التحدث عنها في هذا المجال الذي نعرض فيه لهذه المسألة مرورا سريعا . ومثال البدع السيئة زيارة القبور في أيام العيد من قبل الرجال ، فقد اعتاد كثير من المسلمين من خلال أعراف ضالة زيارة القبور في مناسبات معلومة كالعيدين وهما الفطر والأضحى . فهم يذهبون إلى القبور حيث يزور بعضهم بعضا ؛ ليتبادلوا هناك المعايدات أو يعاودون عبارات التعازي من جديد ثم يحتسون القهوة وبعدها ينصرفون .

وكذلك الأساليب التي يمارسها بعض المتصوفين وأصحاب الطرق وأخص منها بالذات " الدروشة " وهي حركة يمارسها المتصوف الدرويش في حالة من الهوس المخبول الذي يجد الدرويش فيها نفسه غير ذي وعي أو ضبط . ومعلوم أن الإسلام ينشر في المرء كل أسباب الوعي والإدراك والضبط ، ليكون على بصيرة من أمره ، فيعبد الله على علم ، وليؤدي رسالته في الناس فاهما حاذقا بصيرا . أما الأساليب البلهاء التي يمارسها الدراويش في حركات مخبولة غير واعية ، والتي يفتقد فيها الإنسان كل توازن فهي ليست من الدين في شيء . وكذلك الأذكار المضافة التي يرددها المؤذن بعد عبارات الأذان المشروع ، فإنها زيادة عما هو مشروع مما بلغنا عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والصحابة ، إلى غير ذلك من ألوان البدع الكثيرة . والله سبحانه أعلم .

وقوله : { وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } قضى بمعنى حكم وقدر أو أراد ، إذا أراد الله إمضاء أمر من الأمور أو إنقاذ شيء قرره من قبل ، فإنه يحقق ذلك فعلا بقوله : { كن } وهي فعل تام . بمعنى أحدث . فقوله : { كن فيكون } أي أحد فيحدث . والمراد هو حصول ما تعلقت به إرادة الله بلا مهلة ، وذلك بطاعة المأمور المطيع بلا توقف . وقيل : الكلمة { كن } تجري على الأمور كلها . فلزم بذلك أن تأتي الكلمة على الجمع ؛ لأنه إذا قال لكل أمر كن ولكل شيء كن فهن كلمات على الجمع ، لا المفرد . وهو المراد بقوله عليه السلام : " أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق " وبهذه الكلمة أوجد الله عز وجل عيسى عليه السلام من غير أب . قال سبحانه : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } .

وبهذه الكلمة كذلك أوجد الله من خلق منذ القديم ، ويوجد أيضا من يخلق حتى يرث الأرض والسماوات ومن فيهن . وهي كلمة الله التامة التي يحقق بها ما يريد من إبداع الخلق أو فعل أو أمر . وهو سبحانه بعد ذلك له ملكوت كل شيء ، ولا تملك الأشياء والكائنات حيال قوله : { كن } إلا الإذعان المستسلم الكامل ، والتنجيز المحقق الفوري استجابة للأمر الأكبر من رب العالمين{[122]} .


[122]:- تفسير القرطبي جـ 2 ص 86- 89 والكشاف جـ 1 ص 307 وتفسير النسفي جـ 1 ص 71.