{ بديع } خبر مبتدأ محذوف أي هو بديع { السماوات والأرض } عم أولاً لأن الملكية والاختصاص لا يستلزم كون المالك موجداً للمملوك ، ثم خص ثانياً فقال بديع : بدع الشيء بالضم فهو بديع ، وأبدعته اخترعته لأعلى مثال ، وهذا من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها أي بديع سماواته وأرضه . وقيل : بمعنى المبدع كأليم بمعنى مؤلم وضعف ، ثم إنه تعالى بين كيفية إبداعه فقال : { وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } أصل التركيب من " ق ض ى " يدل على القطع . قضى القاضي بهذا إذا فصل الدعوى ، وانقضى الشيء انقطع ، وقضى حاجته قطعها عن المحتاج ، وقضى الأمر إذا أتمه وأحكمه ، لأن إتمام العمل قطع له ، وقضى دينه أداه لأنه انقطع كل منهما عن صاحبه وضاق الشيء لأنه كأنه مقطوع الأطراف ، والأمر الشأن ، والفعل ههنا ، ومعنى قضى أمراً أتمه أو حكم بأنه يفعله أو أحكمه قال :
وعليهما مسرودتان قضاهما *** داود أو صنع السوابغ تبع
ثم من قرأ { فيكون } بالرفع على تقدير فهو يكون فلا إشكال ، وأما من قرأ بالنصب على أنه جواب الأمر فأورد عليه أن جواب الأمر لابد أن يخالف الأمر في الفعل أو في الفاعل أو فيهما نحو : اذهب تنتفع ، أو اذهب يذهب زيد ، أو اذهب ينفعك زيد ، فإما أن يتفق الفعلان والفاعلان نحو : اذهب تذهب فغير جائز لأن الشيء لا يكون شرطاً لنفسه . قلت : لا استبعاد في هذا ، لأن الغرض الذي رتب على الأمر قد يكون شيئاً مغايراً لفعل الأمر وذلك أكثري ، وقد لا يكون الغرض إلا مجرد ذلك الفعل فيوقع في جواب نفسه ليعلم أن الغرض منه ليس شيئاً آخر مغايراً له . فقول القائل " اذهب تذهب أو فتذهب " معناه إعلام أن الغرض من الأمر هو نفس صدور الذهاب عنه لا شيء آخر ، كما أن المقصود في الآية من الأمر بالوجود هو نفس الوجود ، فأوقع " كان " التامة جواباً لمثلها لهذا الغرض ، على أنه يمكن أن يشبه الواقع بعد الأمر بجواب الأمر وإن لم يكن جواباً له من حيث المعنى . فإن قلت : إن قوله { فيكون } لما كان من تتمة المقول . فالصواب أن يكون بتاء الخطاب نحو " اذهب فتذهب " قلت : هذا الحادث قد ذكر مرتين بلفظ الغيبة في قوله { أمراً } وفي قوله { له } ومرة على سبيل الخطاب فغلب جانب الغيبة ، ويحتمل أن يكون من باب الالتفات تحقيراً لشأنه في سهولة تكونه ، ولأن أول الكلام مع المكلفين فروعي ذلك . وههنا بحث آخر وهو أنه لا يجوز أن يتوقف إيجاد الله تعالى لشيء على صدور لفظة " { كن } منه لوجوه : الأول أن قوله { كن } إما أن يكون قديماً أو محدثاً لا جائز أن يكون قديماً ، لأن النون لكونه مسبوقاً بالكاف يكون محدثاً لا محالة ، والكاف لكونه متقدماً على المحدث بزمان مقدر يكون محدثاً أيضاً ، ولأن { إذا } للاستقبال فالقضاء محدث ، وقوله { كن } مرتب عليه بفاء التعقيب ، والمتأخر عن المحدث محدث ، ولأن تكون المخلوق مرتب على قوله { كن } بالفاء والمتقدم على المحدث بزمان محصور محدث أيضاً ، ولا جائز أن يكون { كن } محدثاً وإلا احتاج إلى مثله ويلزم إما الدور وإما التسلسل وإذا بطل القسمان بطل توقف الأشياء على { كن } ( الثاني ) إما أن يخاطب المخلوق ب { كن } قبل دخوله في الوجود وخطاب المعدوم سفه ، وإما بعد دخوله في الوجود لا فائدة فيه . ( الثالث ) المخلوق قد يكون جماداً وتكليف الجماد لا يليق بالحكمة . ( الرابع ) إذا فرضنا القادر المريد منفكاً عن قوله { كن } فإن تمكن من الإيجاد فلا حاجة إلى { كن } ، وإن لم يتمكن فلا يكون القادر قادراً على الفعل إلا عند تكلمه ب { كن } فيلزم عجز القادر بالنظر إلى ذاته ، أو يرجع الحاصل إلى تسمية القدرة ب { كن } ولا نزاع في اللفظ . ( الخامس ) أنا نعلم بالضرورة أنه لا تأثير لهذه الكلمة إذا تكلمنا بها وكذا إذا تكلم بها غيرنا . ( السادس ) المؤثر إما مجموع الكاف والنون ولا وجود لهما مجموعين ، فعند مجيء الثاني ينقضي الأول ، وإما أحدهما وهذا خلاف المفروض فثبت بهذه الوجوه أن حمل الآية على الظاهر غير جائز فلابد من تأويل ، وأصحه أن يقال : المراد أن ما قضاه من الأمور وأراد كونه فإنما يتكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف ، فشبه حال هذا المتكون بحال المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل لا يتوقف ولا يمتنع ولا يأبى ، وفيه تأكيد لاستبعاد الولادة لأن من كان بهذه الصفة من القدرة كانت حاله مباينة لأحوال الأجسام في توالدها وقيل : إنه علامة وضعها الله تعالى للملائكة إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمراً ، عن أبي الهزيل . وقيل إنه خاص بالموجودين الذين قال لهم كونوا قردة ومن يجري مجراهم من الأمم . وقيل : أمر للأحياء بالموت وللموتى بالحياة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.