إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَإِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} (117)

{ بَدِيعُ السموات والأرض } أي مُبدِعُهما ومخترِعُهما بلا مثال يَحتذيه ولا قانونٍ ينتحيه فإن البديعَ كما يُطلقُ على المبتدِع يُطلق على المبتدَع نصَّ عليه أساطينُ أهل اللغة وقد جاء : بَدَعَه كمنعه بمعنى أنشأه كابتدعه كما ذُكر في القاموس وغيره ، ونظيره السميع بمعنى المسمِع في قوله :

[ الوافر ]

أَمِنْ رَيْحانَةَ الدَّاعي السميعُ{[72]} *** [ يؤرقني وأصحابي هجوع ]

وقيل : هو من إضافة الصفةِ المشبّهةِ إلى فاعلها للتخفيف بعد نصبه على تشبيهها باسم الفاعِلِ كما هو المشهورُ أي بديعُ سمواتِه من بَدَع إذا كان على شكل فائقٍ وحُسْنٍ رائق ، وهو حجة أخرى لإبطال مقالتِهم الشنعاءِ تقريرُها أن الوالدَ عنصرُ الولدِ المنفصلِ بانفصال مادته عنه والله سبحانه مُبدعُ الأشياء كلِّها على الإطلاق منزَّه عن الانفصال فلا يكون والداً ، ورفعُه على أنه خبر لمبتدإٍ محذوف أي هو بديعُ الخ ، وقرئ بالنصبَ على المدح وبالجرِّ على أنه بدل من الضمير في ( له ) على رأي من يجوز الإبدالَ من الضمير المجرور كما في قوله : [ الطويل ]

[ على حالة لو أن في القوم حاتما ] *** على جُوده لضَنَّ بالماء حاتم{[73]}

{ وَإِذَا قضى أَمْرًا } أي أراد شيئاً كقوله : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً } [ يس ، الآية 86 ] وأصلُ القضاءِ الإحكامُ أُطلق على الإرادة الإلهية المتعلقة بوجود الشيء لإيجابها إياه اْلبتةَ وقيل : الأمر ، ومنه قولُه تعالى : { وقضى رَبُّكَ } [ الإسراء ، الآية 23 ] الخ { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } كلاهما من الكون التام أي أحْدَثَ وليس المرادُ به حقيقةَ الأمرِ والامتثال ، وإنما هو تمثيلٌ لسهولة تأتّي المقدورات بحسَب تعلّقِ مشيئتِه تعالى وتصويرٌ لسرعة حُدوثِها بما هو عَلَمٌ في الباب من طاعة المأمورِ المطيعِ للآمر القويِّ المطاعِ ، وفيه تقريرٌ لمعنى الإبداع وتلويحٌ لحجة أخرى لإبطال ما زعموه بأن اتخاذَ الولدِ شأنُ من يفتقرُ في تحصيل مرادِه إلى مبادئ يستدعي ترتيبُها مرورَ زمانٍ وتبدلَ أطوارٍ ، وفعلُه تعالى متعالٍ عن ذلك .


[72]:وهو لعمرو بن معدي كرب في ديوانه ص 140 ولسان العرب 8/164 (سمع) وبلا نسبة في لسان العرب 10/10 (أنق).
[73]:البيت للفرزدق في ديوانه 2/297، وفي لسان العرب 12/115 (حتم) وفي المقاصد النحوية 4/186 وبلا نسبة في شرح شذور الذهب ص 317 وفي شرح المفصل 3/69 واللمع ص 174، 266، ويروى في الديوان. على ساعة لو كان في القوم حاتم *** على جوده ضنت به نفس حاتم. كذلك يروى على ساعة لو أن في القوم حاتما *** على جوده ضنت به نفس حاتم.