الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَإِذَا قَضَىٰٓ أَمۡرٗا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} (117)

قوله تعالى : { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ } : المشهورُ رَفْعُه على أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي : هو بديعُ . وقُرىء بالجرِّ على أنه بدلٌ من الضميرِ في " له " وفيه الخلافُ المشهورُ . وقُرىء بالنصبِ على المَدْحِ ، وبديعُ السماواتِ من بابِ الصفةِ المشبهة أضيفَتْ إلى منصوبِها الذي كانَ فاعلاً في الأصلِ ، والأصل : بديعٌ سماواتُه ، أي بَدُعَتْ لمجيئِها على شكلٍ فائقٍ حسنٍ غريبٍ ، ثم شُبِّهَتْ هذه الصفةُ باسمِ الفاعلِ فَنَصَبَتْ ما كانَ فاعلاً ثم أُضِيفَتْ إليه تخفيفاً ، وهكذا كلُّ ما جاء من نظائرِه ، فالإِضافةُ لا بدَّ وأن تكونَ من نصب لئلاَّ يلزم إضافة الصفةِ إلى فاعلِها وهو لا يجوزُ ، كما لا يجوزُ في اسمِ الفاعلِ الذي هو الأصلُ . وقال الزمخشري : " وبديعُ السماواتِ " من باب إضافةِ الصفةِ المشبهةِ إلى فاعلِها " . وردَّ عليه الشيخُ بما تقدَّم ، ثم أجابَ عنه بأنه يُحتمل أَنْ يريدَ إلى فاعلِها في الأصلِ قبل أن يُشَبَّه . وأجاز الزمخشري فيه وجهاً ثانياً : وهو أن يكونَ " بديع " بمعنى مُبْدِع ، كما أنَّ سميعاً في قولِ عمرو بمعنى مُسْمِعِ نحو :

أمِنْ ريحانةَ الداعي السميعُ *** يُؤَرِّقُني وأصحابي هُجُوعِ

إلا أنه قال : " وفيه نظرٌ " . وهذا الوجهُ لم يذكر ابنُ عطية غيرَه ، وكأن النظرَ الي ذكر الزمخشري - والله أعلم - هو أنَّ فَعيلاً بمعنى مُفْعِل غيرُ مَقيسٍ ، وبيتُ عمروٍ مُتَأَوَّلٌ ، وعلى هذا القولِ يكونُ بديعُ السماواتِ من بابِ إضافةِ اسمِ الفاعلِ لمنصوبِه تقديراً . والمُبْدِعُ : المخترِعُ المُنْشِىءُ ، والبديع : الشيء الغريبُ الفائقُ غيرَه حُسْناً .

قوله : { وَإِذَا قَضَى أَمْراً } العاملُ في " إذا " محذوفٌ يَدُلُّ عليه الجوابُ من قولِه : " فإنما يقول " ، والتقديرُ : إذا قضى أمراً يكونُ ، فيكونُ هو الناصبُ له . و " قضى " له معانٍ كثيرةٌ ، قال الأزهري : " قضى " على وجوهٍ مَرْجِعُها إلى انقطاعِ الشيء وتمامِه قال أبو ذؤيب :

693 - وعليهما مَسْرودتان قَضَاهُما *** داودُ أو صَنَعُ السَّوابِغِ تُبَّعُ

وقال الشماخ :

694 - قَضَيْتَ أموراً ثم غادَرْتَ بعدَها *** بوائِقَ في أَكْمامِها لم تُفَتَّقِ

فيكونُ بمعنى خَلَق نحو : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } [ فصلت : 12 ] ، وبمعنى أَعْلَمَ : { وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الإسراء : 4 ] ، وبمعنى أَمَر :

{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإِسراء : 23 ] ، وبمعنى وفَّى : { فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ } [ القصص : 29 ] ، وبمعنى ألزم : قضى القاضي بكذا ، وبمعنى أراد : { وَإِذَا قَضَى أَمْراً } [ البقرة : 117 ] [ وبمعنى ] أَنْهى ، ويجيءُ بمعنى قَدَّر وأَمْضَى ، تقول : قَضَى يقضي قَضاءً قال :

سَأَغْسِلُ عني العارَ بالسيفِ جالِباً *** عليَّ قضاءُ الله ما كانَ جالِبا

قوله : { فَيَكُونُ } الجمهورُ على رفعه ، وفيه ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أن يكونَ مستأنفاً أي خَبَراً لمبتدأ محذوفٍ أي : فهو يكونُ ، ويُعزْى لسيبويه ، وبه قال الزجاج في أحدِ قولَيْه .

والثاني : أَنْ يكونَ معطوفاً على " يقولُ " وهو قول الزجاج والطبري . وردَّ ابن عطية هذا القولَ وجعله خطأً من جهةِ المعنى ؛ لأنَّه يَقْتضي أنَّ القولَ مع التكوينِ والوجودِ " انتهى . يعني أنَّ الأمرَ قديمٌ والتكوينَ حادثُ فكيف يُعْطَفُ عليه بما يقتضي تعقيبَه له ؟ وهذا الردُّ إنما يلزم إذا قيل بأنَّ الأمرَ حقيقةٌ ، أمَّا إذا قيل بأنَّه على سبيلِ التمثيل - وهو الأصحُّ - فلا ، ومثلُه قولُ أبي النجم :

إذا قالَتِ الأَنْسَاعُ للبَطْنِ الحَقي

الثالث : أن يكونَ معطوفاً على " كُنْ " من حيثُ المعنى ، وهو قولُ الفارسي ، وضَعَّفَ أن يكونَ عطفاً على " يقولُ " ، لأنَّ من المواضعِ ما ليس فيه " يقولُ " كالموضع الثاني في آل عمران ، وهو : { ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ] ، ولم يَرَ عطفَه على " قال " من حيث إنه مضارعٌ فلا يُعْطَف على ماضٍ فَأَوْرد على نفسه :

ولقد أَمُرُّ على اللئيمِ يَسُبُّني *** فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنِيني

فقال : " أَمُرُّ بمعنى مَرَرْت . قال بعضُهم : " ويكون في هذه الآيةِ - يعني في آيةِ آل عمران - بمعنى كان فَلْيَجُزْ عَطْفُه على " قال " .

وقَرأَ ابن عامر/ " فيكونَ " نصبأ هنا وفي الأول من آل عمران ، وهي :

{ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ } [ آل عمران : 47 ] ، تحرُّزاً من قوله : { كُن فَيَكُونُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } [ آل عمران : 59 ] وفي مريم : { كُن فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي } [ مريم : 35 ] ، وفي غافر : { كُن فيَكُونُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ } [ غافر : 68 ] ، ووافقه الكسائي على ما في النحل ويس وهي :

{ أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] . أمَّا آيتا النحلِ ويس فظاهِرتان لأنَّ قبلَ الفعل منصوباً يَصِحُّ عطفُه عليه وسيأتي .

وأمَّا ما انفرَدَ به ابنُ عامر في هذه المواضع الأربعة فقد اضطرب كلامُ الناس فيها وهي لعمري تحتاج إلى فضل نظر وتأمل ، ولذلك تجرَّأ بعض الناس على هذا الإِمام الكبيرِ ، فقال ابن مجاهد : " قرأ ابن عامر " فيكونَ " نصباً وهذا غيرُ جائز في العربية ؛ لأنه لا يكونُ الجواب هنا للأمر بالفاء إلا في يس والنحل ، فإنه نَسَقٌ لا جوابٌ " ، وقال في آل عمران : " قرأ ابن عامر وحدَه : " كن فيكونَ " بالنصب وهو وهمٌ " قال : " وقال هشام : كان أيوبُ بن تميم يقرأُ : فيكونُ نصباً ثم رَجَع فقرأ : فيكونُ رفعاً " ، وقال الزجاج : " كن فيكونُ : رفعٌ لا غيرُ " .

وأكثرُ ما أَجابوا بأنَّ هذا مِمَّا رُوعي فيه ظاهرُ اللفظ من غير نظر للمعنى ، يريدون أنه قد وُجِد في اللفظ صورةُ أمر فنَصَبْنا في جوابه بالفاء ، وأمّا إذا نظرنا إلى جانب المعنى فإن ذلك لا يَصِحُّ لوجهين ، أحدهما : أنَّ هذا وإن كان بلفظ الأمر فمعناه الخبرُ نحو : { فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ } [ مريم : 75 ] أي : فَيَمُدُّ ، وإذا كان معناه الخبرَ لم ينتصِبْ في جوابِه بالفاء إلا ضرورةً كقوله :

سَأَتْرُك منزلي لبني تميمٍ *** وأَلحَقُ بالحجازِ فأستريحا

وقول الآخر :

لنا هَضْبةٌ لا يَنْزِلُ الذلُّ وَسْطَها *** ويَأْوي إليها المُسْتجيرُ فَيُعْصَما

والثاني : أنَّ مِنْ شرطِ النصبِ بالفاءِ في جوابِ الأمرِ أَنْ يَنْعَقِدَ منهما شرطٌ وجزاءٌ نحو : " ائتني فأكرمك " تقديرُه : إنْ أتيتني أكرمتُك ، وههنا لا يَصِحُّ ذلك إذ يَصيرُ التقديرُ : إنْ تَكُنْ تَكُنْ ، فيتَّحِدُ فعلا الشرطِ والجزاءِ معنىً وفاعلاً ، وقد عَلِمْت أنه لا بُدَّ من تغايرِهما وإلاَّ يلزمْ أن يكونَ الشيءُ شرطاً لنفسه وهو مُحال . قالوا : والمعاملةُ اللفظية واردةُ في كلامهم نحو : { قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ } [ إبراهيم : 31 ] { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ } [ الجاثية : 14 ] وقال عمر ابن أبي ربيعة :

فَقُلْتُ لجَنَّادٍ خُذِ السيفَ واشتَمِلْ *** عليه برفقٍ وارْقُبِ الشمسِ تَغْرُبِ

وأَسْرِجْ لي الدَّهْماءَ واذهَبْ بمِمْطَري *** ولا يَعْلَمَنْ خلقٌ من الناسِ مَذْهَبي

فجعل " تَغْرُبِ " جواباً " ارقب " وهو غير مترتِّب عليه ، وكذلك لا يلزمُ من قوله [ تعالى ] أَنْ يفعلوا ، وإنما ذلك مراعاةً لجانبِ اللفظِ .

أمَّا ما ذكروه في بيتِ عمر فصحيحُ ، وأمَّا الآياتُ فلا نُسَلِّم أنه غيرُ مترتِّبٍ [ عليه ] ، لأنه أرادَ بالعبادِ الخُلَّصَ ، ولذلك أضافهم إليه ، أو تقولُ إن الجزمَ على حَذْفِ لأمِ الأمر وسيأتي تحقيقهُ في موضعه . وقال الشيخ جمال الدين بنُ مالك : " إنَّ " أَنْ " الناصبةَ قد تُضْمر بعد الحَصْر بإنما اختياراً وحكاه عن بعض الكوفيين ، قال : " وحَكَوْا عن العرب : " إنما هي ضربةٌ من الأسدِ فَتَحْطِمَ ظهرَه " بنصبِ " تَحْطِمَ " فعلى هذا يكون النصبُ في قراءة ابن عامر محمولاً على ذلك ، إلا أنَّ هذا الذي نَصَبوه دليلاً لا دليلَ فيه لاحتمالِ أَنْ يكونَ من بابِ العطفِ على الاسمِ ، تقديرُه : إنما هي ضربةٌ فَحَطْم ، كقوله :

لَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّ عيني *** أَحَبُّ إليَّ من لُبْسِ الشُّفُوفِ

وهذا نهايةُ القول في هذه الآية .