ثم{[4620]} علل ذلك بما هو أعظم منه فقال : { بديع السماوات والأرض } أي خالقهما على غير مثال سبق ، وما أبدع كلية أمر كان أحرى{[4621]} أن يكون ما في طيه وإحاطته وإقامته من الأشياء المقامة به من مبدعه فكيف يجعل له شبيه{[4622]} منه ؟ لأن الولد مستخرج شبيه بما استخرج من عينه - ذكره الحرالي . { وإذا قضى } {[4623]}أي أراد { أمراً } منهما أو من غيرهما{[4624]} ، والقضاء إنفاذ{[4625]} المقدر . والمقدر ما حدّ من مطلق المعلوم - قاله الحرالي . { فإنما يقول له كن } من الكون وهو{[4626]} كمال البادي{[4627]} في ظاهره وباطنه { فيكون } {[4628]}فهو منزه عن حاجة التوالد وكل حاجة ، وسر التعبير بالمضارع يذكر إن شاء الله تعالى في آل عمران . {[4629]}قال الحرالي : وصيغته تمادي الكائن في أطوار وأوقات وأسنان يمتد توالها في المكون إلى {[4630]}غاية الكمال{[4631]} - انتهى . قالوا : ورفع " يكون " للاستئناف أي فهو يكون ، أو العطف على { يقول } إيذاناً بسرعة التكوين على جهة التمثيل ، ومن قال بالأول منع العطف على { يقول } {[4632]}لاقتضاء الفاء أن القول مع التكوين فيلزم قدم التكوين ، وقال الإمام أبو علي الفارسي في كتاب الحجة : إن ذلك لا يطرد في مثل ثاني حرفي آل عمران وهو قوله : { ثم قال له كن فيكون{[4633]} }[ آل عمران : 59 ] لأنه لا يحسن تخالف الفعلين{[4634]} المتعاطفين بالمضي وغيره ، وأول قوله :
ولقد أمر على اللئيم يسبني *** فمضيت ثم أقول لا يعنيني
بأن معناه : مررت ماضياً ، وطعن فيه أبو شامة بأن يكون في الآية ماض مثله وقد صرح أبو علي والحق معه بأنه على بابه يعني ؛ وفائدة التعبير به مضارعاً{[4635]} ، تصوير الحال والإرشاد إلى أن التقدير : كن فكان ، لأنه متى قضى شيئاً قال له : كن ، فيكون ، وجعل الأحسن عطفه على { كن } لأنه وإن كان بلفظ الأمر فمعناه الخبر{[4636]} أي يكون ؛ وقال : إن ذلك أكثر اطراداً لانتظامه لمثل قوله :
{ ثم قال له كن{[4637]} فيكون{[4638]} }[ آل عمران : 59 ] . وهذا الموضع مجمع على رفعه ، وكذا قوله تعالى في الأنعام :
{ ويوم يقول{[4639]} كن فيكون }[ الأنعام : 73 ] . وإنما الخلاف في ستة مواضع اختص ابن عامر منها بأربعة : وهي هذا الموضع ، وقوله تعالى في آل عمران :
{ إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون{[4640]} }[ آل عمران : 47 ] ، وفي مريم مثله سواء ، وفي غافر :{ فإذا قضى أمراً فإنما يقول له{[4641]} كن فيكون{[4642]} }[ غافر : 68 ] ؛ ووافقه الكسائي {[4643]}في حرفين{[4644]} في النحل :{ إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له{[4645]} كن فيكون{[4646]} }[ النحل : 40 ] وفي يس :{ إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون{[4647]} }[ يس : 82 ] فجعلوا النصب في هذين عطفاً على { يقول } وفي الأربعة الأولى جواباً للأمر في قوله : { كن } اعتباراً بصورة اللفظ وإن{[4648]} لم يكن المعنى على الأمر فالتقدير{[4649]} : يقول له يكون فيكون ، أي فيطاوع ، فطاح قول من ضعفه بأن المعنى على الخبر وأنه لا يصح النصب إلا إذا تخالف الأمر وجوابه ، وهذا ليس كذلك بل يلزم فيه أن يكون الشيء شرطاً لنفسه ، لأن التقدير : إن يكن يكن ؛ وصرح ابن مجاهد بوهم ابن عامر وأن هذا غير جائز في العربية ، كما نقله عنه الإمام أبو شامة في شرح الشاطبية ؛ فأمعنت النظر في ذلك لوقوع القطع بصحة قراءة ابن عامر لتواترها نقلاً عمن أنزل عليه القرآن ، فلما رأيته لم ينصب إلا ما في حيز { إذا } علمت أن ذلك لأجلها لما فيها من معنى الشرط ، فيكون مثل قوله تعالى في الشورى :ويعلم الذين يجادلون في آياتنا{[4650]} }[ الشورى : 35 ] بنصب " يعلم " في قراءة غير نافع وابن عامر على بعض التوجيهات ، وذلك ماش على نهج السداد من غير كلفة ولا استبعاد إذا تؤمل الكلام على " إذا " قال الرضي وهو العلامة نجم الدين محمد{[4651]} بن حسن الإستراباذي في الظرف{[4652]} من شرحه لقول العلامة أبي عمرو عثمان بن الحاجب في كافيته : ومنها " إذا " وهي للمستقبل وفيها معنى الشرط ، فلذلك اختير بعدها الفعل ، والأصل في استعمال " إذا " أن تكون لزمان من أزمنة المستقبل مختص من بينها بوقوع حدث فيه{[4653]} مقطوع به ، ثم قال : وكلمة الشرط ما يطلب جملتين يلزم من وجود مضمون أولاهما فرضاً حصول مضمون الثانية ، فالمضمون الأول مفروض ملزوم ، والثاني لازمه ؛ ثم قال : و " إن " موضوعة لشرط مفروض وجوده{[4654]} في المستقبل مع عدم قطع المتكلم لا بوقوعه ولا بعدم وقوعه ، وذلك لعدم القطع في الجزاء لا بالوجود ولا بالعدم ، سواء شك في وقوعه كما في حقنا ، أو لم يشك كان الواقعة في كلامه تعالى ؛ وقال : ولا يكون الشرط في اسم إلا بتضمن معناها ؛ ثم قال : فنقول{[4655]} : لما كان " إذا " للأمر{[4656]} المقطوع بوجوده في اعتقاد المتكلم في المستقبل لم يكن لمفروض وجوده ، لتنافي{[4657]} القطع والفرض في الظاهر ، فلم يكن فيه معنى " إن " الشرطية ، لأن الشرط كما بينا هو المفروض وجوده ، لكنه لما كان ينكشف لنا الحال كثيراً في الأمور التي نتوقعها قاطعين بوقوعها عن خلاف ما نتوقعه{[4658]} جوّزوا تضمين " إذا " معنى " إن " كما في " متى " وسائر الأسماء الجوازم ، فيقول القائل : إذا جئتني فأنت مكرم - شاكاً في مجيء المخاطب غير مرجح وجوده على عدمه بمعنى متى جئتني سواء ؛ ثم قال : ولما كثر دخول معنى الشرط في " إذا " وخروجه عن أصله من الوقت المعين جاز استعماله وإن لم يكن فيه معنى " إن " الشرطية ، وذلك في الأمور القطعية استعمال " إذا " المتضمنة لمعنى " إن " ، وذلك لمجيء جملتين بعده على طرز الشرط والجزاء وإن لم يكونا شرطاً وجزاء ، ثم قال في الكلام على الفاء في نواصب الفعل ، وقد تضمر " أن " بعد الفاء والواو الواقعتين بعد الشرط{[4659]} قبل الجزاء ، نحو إن تأتيني فتكرمني - أو لو . تكرمني - آتك ، أو بعد الشرط والجزاء ، نحو إن تأتني آتك فأكرمك - أو : وأكرمك - وذلك لمشابهة الشرط في الأول والجزاء في الثاني المنفي ، إذ{[4660]} الجزاء مشروط وجوده بوجود الشرط ، ووجود الشرط مفروض ، فكلاهما غير موصوفين بالوجود حقيقة ، وعليه حمل قوله تعالى : { إن يشأ يسكن الريح فيظللن } - إلى قوله :{ ويعلم الذين يجادلون{[4661]} }[ الشورى : 35 ] على {[4662]}قراءة النصب ؛ ثم قال : وإنما صرفوا ما بعد فاء السببية من الرفع إلى النصب لأنهم قصدوا التنصيص على كونها سببية والمضارع المرتفع بلا قرينة مخلصة للحال والاستقبال ظاهر في معنى الحال ، كما تقدم في باب المضارع ، فلو أبقوه مرفوعاً لسبق إلى الذهن أن الفاء لعطف{[4663]} جملة حالية الفعل على الجملة التي قبل الفاء ، يعني{[4664]} فكان يلزم أن يكون الكون قديماً كالقول ، فصرفه إلى النصب منبه في الظاهر على أنه ليس معطوفاً ، إذ المضارع المنصوب بأن مفرد ، وقبل الفاء المذكورة جملة ، ويتخلص المضارع للاستقبال اللائق بالجزائية كما ذكرنا في المنصوب بعد إذن ، فكان فيه شيئان : رفع جانب كون الفاء للعطف . وتقوية{[4665]} كونه للجزاء ؛ فيكون إذن ما بعد الفاء مبتدأ محذوف الخبر وجوباً - انتهى . فالتقدير هنا والله أعلم : فكونه واقع حق ليس بخيال كالسحر والتمويهات ، فعلى هذا قراءة النصب أبلغ لظهورها{[4666]} في{[4667]} الصرف عن الحال إلى الاستقبال مع ما دلت عليه من سرعة{[4668]} الكون وأنه حق ، ثم رأيت البرهان بن{[4669]} إبراهيم بن محمد السفاقُسي حكى{[4670]} في إعرابه ما خرجته عن ابن الضائع{[4671]} - يعني بالضاد المعجمة والعين المهملة - وهو الأستاذ أبو الحسن علي بن محمد بن يوسف الكُتامي{[4672]} شيخ أبي حيان فقال ما نصه : زاد ابن الضائع في نصب { فيكون } وجهاً حسناً وهو نصبه في جواب الشرط وهو إذا ، وكان مراده التسبيب عن الجواب كما ذكرت ، قال السفاقسي : ويصح فيه وجه ثالث على مذهب الكوفيين وهو نصبه في جواب الحصر بإنما ، لأنهم أجازوا : إنما هي ضربة أسد فيتحطم{[4673]} ظهره .