مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلِكُلّٖ جَعَلۡنَا مَوَٰلِيَ مِمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَۚ وَٱلَّذِينَ عَقَدَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡ فَـَٔاتُوهُمۡ نَصِيبَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدًا} (33)

قوله تعالى : { ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدا } .

في الآية مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أنه يمكن تفسير الآية بحيث يكون الوالدان والأقربون وراثا ، ويمكن أيضا بحيث يكونان موروثا عنهما .

أما الأول : فهو أن قوله : { ولكل جعلنا موالى مما ترك } أي : ولكل واحد جعلنا ورثة في تركته ، ثم كأنه قيل : ومن هؤلاء الورثة ؟ فقيل : هم الوالدان والأقربون ، وعلى هذا الوجه لا بد من الوقف عند قوله : { مما ترك } .

وأما الثاني : ففيه وجهان : الأول : أن يكون الكلام على التقديم والتأخير ، والتقدير : ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا موالي ، أي : ورثة و{ جعلنا } في هذين الوجهين لا يتعدى إلى مفعولين ، لأن معنى { جعلنا } خلقنا . الثاني : أن يكون التقدير : ولكل قوم جعلناهم موالى نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ، فقوله : { موالى } على هذا القول يكون صفة ، والموصوف يكون محذوفا ، والراجع إلى قوله : { ولكل } محذوفا ، والخبر وهو قوله : { نصيب } محذوف أيضا ، وعلى هذا التقدير يكون { جعلنا } معتديا إلى مفعولين ، والوجهان الأولان أولى ، لكثرة الإضمار في هذا الوجه .

المسألة الثانية : لفظ مشترك بين معان : أحدها : المعتق ، لأنه ولى نعمته في عتقه ، ولذلك يسمى مولى النعمة . وثانيها : العبد المعتق ، لاتصال ولاية مولاه في إنعامه عليه ، وهذا كما يسمى الطالب غريما ، لأن له اللزوم والمطالبة بحقه ، ويسمى المطلوب غريما لكون الدين لازما له . وثالثها : الحليف لأن المحالف يلي أمره بعقد اليمين . ورابعها : ابن العم ، لأنه يليه بالنصرة للقرابة التي بينهما . وخامسها : المولى الولي لأنه يليه بالنصرة قال تعالى : { ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم } وسادسها : العصبة ، وهو المراد به في هذه الآية لأنه لا يليق بهذه الآية إلا هذا المعنى ، ويؤكده ما روى أبو صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنا أولى بالمؤمنين من مات وترك مالا فماله للموالي العصبة ومن ترك كلا فأنا وليه » وقال عليه الصلاة والسلام : «اقسموا هذا المال فما أبقت السهام فلأولي عصبة ذكر » .

ثم قال تعالى : { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قرأ عاصم وحمزة والكسائي : عقدت بغير ألف وبالتخفيف ، والباقون بالألف والتخفيف ، وعقدت : أضافت العقد إلى واحد ، والاختيار : عاقدت ، لدلالة المفاعلة على عقد الحلف من الفريقين .

المسألة الثانية : الأيمان . جمع يمين ، واليمين يحتمل أن يكون معناه اليد ، وأن يكون معناه القسم ، فإن كان المراد اليد ففيه مجاز من ثلاثة أوجه : أحدها : أن المعاقدة مسندة في ظاهر اللفظ إلى الأيدي ، وهي في الحقيقة مسندة إلى الحالفين ، والسبب في هذا المجاز أنهم كانوا يضربون صفقة البيع بأيمانهم ، ويأخذ بعضهم بيد بعض على الوفاء والتمسك بالعهد .

والوجه الثاني : في المجاز : وهو أن التقدير : والذين عاقدت بحلفهم أيمانكم ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، وحسن هذا الحذف لدلالة الكلام عليه . الثالث : أن التقدير : والذين عاقدتهم ، إلا أنه حذف الذكر العائد من الصلة إلى الموصول ، هذا كله إذا فسرنا اليمين باليد . أما إذا فسرناها بالقسم والحلف كانت المعاقدة في ظاهر اللفظ مضافة إلى القسم ، وإنما حسن ذلك لأن سبب المعاقدة لما كان هو اليمين حسنت هذه الإضافة ، والقول في بقية المجازات كما تقدم .

المسألة الثالثة : من الناس من قال : هذه الآية منسوخة ، ومنهم من قال : إنها غير منسوخة أما القائلون بالنسخ فهم الذين فسروا الآية بأحد هذه الوجوه التي نذكرها : فالأول : هو أن المراد بالذين عاقدت أيمانكم : الحلفاء في الجاهلية ، وذلك أن الرجل كان يعاقد غيره ويقول : دمي دمك وسلمي سلمك ، وحربي حربك ، وترثني وأرثك ، وتعقل عني وأعقل عنك ، فيكون لهذا الحليف السدس من الميراث ، فنسخ ذلك بقوله تعالى : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } وبقوله : { يوصيكم الله } الثاني : أن الواحد منهم كان يتخذ إنسانا أجنبيا ابنا له ، وهم المسمون بالأدعياء ، وكانوا يتوارثون بذلك السبب ثم نسخ . الثالث : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يثبت المؤاخاة بين كل رجلين من أصحابه ، وكانت تلك المؤاخاة سببا للتوارث . واعلم أن على كل هذه الوجوه الثلاثة كانت المعاقدة سببا للتوارث بقوله : { فآتوهم نصيبهم } ثم أن الله تعالى نسخ ذلك بالآيات التي تلوناها .

القول الثاني : قول من قال : الآية غير منسوخة ، والقائلون بذلك ذكروا في تأويل الآية وجوها : الأول : تقدير الآية : ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم موالي ورثة فآتوهم نصيبهم ، أي فآتوا الموالي والورثة نصيبهم ، فقوله : { والذين عقدت أيمانكم } معطوف على قوله : { الوالدان والأقربون } والمعنى : أن ما ترك الذين عاقدت أيمانكم فله وارث هو أولى به ، وسمى الله تعالى الوارث مولى . والمعنى لا تدفعوا المال إلى الحليف ، بل إلى المولى والوارث ، وعلى هذا التقدير فلا نسخ في الآية ، وهذا تأويل أبي علي الجبائي . الثاني : المراد بالذين عاقدت أيمانكم : الزوج والزوجة ، والنكاح يسمى عقدا قال تعالى : { ولا تعزموا عقدة النكاح } فذكر تعالى الوالدين والأقربين ، وذكر معهم الزوج والزوجة ، ونظيره آية المواريث في أنه لما بين ميراث الولد والوالدين ذكر معهم ميراث الزوج والزوجة ، وعلى هذا فلا نسخ في الآية أيضا ، وهو قول أبي مسلم الأصفهاني . الثالث : أن يكون المراد بقوله : { والذين عقدت أيمانكم } الميراث الحاصل بسبب الولاء ، وعلى هذا التقدير فلا نسخ أيضا . الرابع : أن يكون المراد من { الذين عقدت أيمانكم } الحلفاء ، والمراد بقوله : { فآتوهم نصيبهم } النصرة والنصيحة والمصافاة في العشرة ، والمخالصة في المخالطة ، فلا يكون المراد التوارث ، وعلى هذا التقدير فلا نسخ أيضا . الخامس : نقل أن الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفي ابنه عبد الرحمن ، وذلك أنه رضي الله عنه حلف أن لا ينفق عليه ولا يورثه شيئا من ماله ، فلما أسلم عبد الرحمن أمره الله أن يؤتيه نصيبه ، وعلى هذا التقدير فلا نسخ أيضا . السادس : قال الأصم : إنه نصيب على سبيل التحفة والهدية بالشيء القليل ، كما أمر تعالى لمن حضر القسمة أن يجعل له نصيب على ما تقدم ذكره ، وكل هذه الوجوه حسنة محتملة والله أعلم بمراده .

المسألة الرابعة : القائلون بأن قوله : { والذين عقدت أيمانكم } مبتدأ ، وخبره قوله : { فآتوهم نصيبهم } قالوا : إنما جاء خبره مع الفاء لتضمن «الذي » معنى الشرط فلا جرم وقع خبره مع الفاء وهو قوله : { فآتوهم نصيبهم } ويجوز أن يكون منصوبا على قولك : زيدا فاضربه .

المسألة الخامسة : قال جمهور الفقهاء : لا يرث المولى الأسفل من الأعلى . وحكى الطحاوي عن الحسن بن زياد أنه قال : يرث ، لما روى ابن عباس أن رجلا أعتق عبدا له ، فمات المعتق ولم يترك إلا المعتق ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثه للغلام المعتق ، ولأنه داخل في قوله تعالى : { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } .

والجواب عن التمسك بالحديث : أنه لعل ذلك المال لما صار لبيت المال دفعه النبي عليه الصلاة والسلام إلى ذلك الغلام لحاجته وفقره ، لأنه كان مالا لا وارث له ، فسبيله أن يصرف إلى الفقراء .

المسألة السادسة : قال الشافعي ومالك رضي الله عنهما : من أسلم على يد رجل ووالاه وعاقده ثم مات ولا وارث له غيره ، أنه لا يرثه بل ميراثه للمسلمين . وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : يرثه حجة الشافعي : أنا بينا أن معنى هذه الآية ولكل شيء مما تركه الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم ، فقد جعلنا له موالي وهم العصبة ، ثم هؤلاء العصبة إما الخاصة وهم الورثة ، وإما العامة وهم جماعة المسلمين ، فوجب صرف هذا المال إلى العصبة العامة ما لم توجد العصبة الخاصة ، واحتج أبو بكر الرازي لقوله بأن الآية توجب الميراث للذي والاه وعاقده ، ثم إنه تعالى نسخه بقوله : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } فهذا النسخ إنما يحصل إذا وجد أولو الأرحام فإذا لم يوجدوا لزم بقاء الحكم كما كان .

والجواب : أنا بينا أنه لا دلالة في الآية على أن الحليف يرث ، بل بينا أن الآية دالة على أنه لا يرث ، وبينا أن القول بهذا النسخ باطل .

ثم قال تعالى : { إن الله كان على كل شيء شهيدا } وهو كلمة وعد للمطيعين ، وكلمة وعيد للعصاة والشهيد الشاهد والمشاهد ، والمراد منه إما علمه تعالى بجميع الجزئيات والكليات ، وإما شهادته على الخلق يوم القيامة بكل ما عملوه . وعلى التقدير الأول : الشهيد هو العالم ، وعلى التقدير الثاني : هو المخبر .