مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِن تَجۡتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنۡهَوۡنَ عَنۡهُ نُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَيِّـَٔاتِكُمۡ وَنُدۡخِلۡكُم مُّدۡخَلٗا كَرِيمٗا} (31)

قوله تعالى : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما }

اعلم أنه تعالى لما قدم ذكر الوعيد أتبعه بتفصيل ما يتعلق به فذكر هذه الآية ، وفيه مسائل :

المسألة الأولى : من الناس من قال : جميع الذنوب والمعاصي كبائر . روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : كل شيء عصى الله فيه فهو كبيرة ، فمن عمل شيئا منها فليستغفر الله ، فإن الله تعالى لا يخلد في النار من هذه الأمة إلا راجعا عن الإسلام ، أو جاحدا فريضة ، أو مكذبا بقدر . واعلم أن هذا القول ضعيف لوجوه :

الحجة الأولى : هذه الآية ، فإن الذنوب لو كانت بأسرها كبائر لم يصح الفصل بين ما يكفر باجتناب الكبائر وبين الكبائر .

الحجة الثانية : قوله تعالى : { وكل صغير وكبير مستطر } وقوله : { لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها } .

الحجة الثالثة : أن الرسول عليه الصلاة والسلام نص على ذنوب بأعيانها أنها كبائر ، كقوله : «الكبائر : الإشراك بالله واليمين الغموس وعقوق الوالدين وقتل النفس » وذلك يدل على أن منها ما ليس من الكبائر .

الحجة الرابعة : قوله تعالى : { وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } وهذا صريح في أن المنهيات أقسام ثلاثة : أولها : الكفر ، وثانيها : الفسوق . وثالثها : العصيان ، فلا بد من فرق بين الفسوق وبين العصيان ليصح العطف ، وما ذاك إلا لما ذكرنا من الفرق بين الصغائر وبين الكبائر ، فالكبائر هي الفسوق ، والصغائر هي العصيان . واحتج ابن عباس بوجهين : أحدهما : كثرة نعم من عصى . والثاني : إجلال من عصى ، فإن اعتبرنا الأول فنعم الله غير متناهية ، كما قال : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } وإن اعتبرنا الثاني فهو أجل الموجودات وأعظمها ، وعلى التقديرين وجب أن يكون عصيانه في غاية الكبر ، فثبت أن كل ذنب فهو كبيرة .

والجواب من وجهين : الأول : كما أنه تعالى أجل الموجودات وأشرفها ، فكذلك هو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين ، وأغنى الأغنياء عن طاعات المطيعين وعن ذنوب المذنبين ، وكل ذلك يوجب خفة الذنب . الثاني : هب أن الذنوب كلها كبيرة من حيث أنها ذنوب ، ولكن بعضها أكبر من بعض ، وذلك يوجب التفاوت . إذا ثبت أن الذنوب على قسمين بعضها صغائر وبعضها كبائر ، فالقائلون بذلك فريقان : منهم من قال : الكبيرة تتميز عن الصغيرة في نفسها وذاتها ، ومنهم من قال : هذا الامتياز إنما يحصل لا في ذواتها ، بل بحسب حال فاعليها ، ونحن نشرح كل واحد من هذين القولين .

أما القول الأول : فالذاهبون إليه والقائلون به اختلفوا اختلافا شديدا ، ونحن نشير إلى بعضها ، فالأول : قال ابن عباس : كل ما جاء في القرآن مقرونا بذكر الوعيد فهو كبيرة ، نحو قتل النفس المحرمة وقذف المحصنة والزنا والربا وأكل مال اليتيم والفرار من الزحف . الثاني : قال ابن مسعود : افتتحوا سورة النساء ، فكل شيء نهى الله عنه حتى ثلاث وثلاثين آية فهو كبيرة ، ثم قال : مصداق ذلك :

{ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } الثالث : قال قوم : كل عمد فهو كبيرة . واعلم أن هذه الأقوال ضعيفة .

أما الأول : فلأن كل ذنب لا بد وأن يكون متعلق الذم في العاجل والعقاب في الآجل ، فالقول بأن كل ما جاء في القرآن مقرونا بالوعيد فهو كبيرة يقتضي أن يكون كل ذنب كبيرة وقد أبطلناه .

وأما الثاني : فهو أيضا ضعيف ، لأن الله تعالى ذكر كثيرا من الكبائر في سائر السور ، ولا معنى لتخصيصها بهذه السورة .

وأما الثالث : فضعيف أيضا ، لأنه إن أراد بالعمد أنه ليس بساه عن فعله ، فما هذا حاله هو الذي نهى الله عنه ، فيجب على هذا أن يكون كل ذنب كبيرة وقد أبطلناه ، وإن أراد بالعمد أن يفعل المعصية مع العلم بأنها معصية ، فمعلوم أن اليهود والنصارى يكفرون بمحمد صلى الله عليه وسلم وهم لا يعلمون أنه معصية ، وهو مع ذلك كفر كبير ، فبطلت هذه الوجوه الثلاثة . وذكر الشيخ الغزالي رحمه الله في منتخبات كتاب إحياء علوم الدين فصلا طويلا في الفرق بين الكبائر والصغائر فقال : فهذا كله قول من قال : الكبائر تمتاز عن الصغائر بحسب ذواتها وأنفسها .

وأما القول الثاني : وهو قول من يقول : الكبائر تمتاز عن الصغائر بحسب اعتبار أحوال فاعليها ، فهؤلاء الذين يقولون : إن لكل طاعة قدرا من الثواب ، ولكل معصية قدرا من العقاب ، فإذا أتى الإنسان بطاعة واستحق بها ثوابا ، ثم أتى بمعصية واستحق بها عقابا ، فههنا الحال بين ثواب الطاعة وعقاب المعصية بحسب القسمة العقلية يقع على ثلاثة أوجه : أحدها : أن يتعادلا ويتساويا ، وهذا وإن كان محتملا بحسب التقسيم العقلي إلا أنه دل الدليل السمعي على أنه لا يوجد ، لأنه تعالى قال : { فريق في الجنة وفريق في السعير } ولو وجد مثل هذا المكلف وجب أن لا يكون في الجنة ولا في السعير .

والقسم الثاني : أن يكون ثواب طاعته أزيد من عقاب معصيته ، وحينئذ ينحبط ذلك العقاب بما يساويه من الثواب ، ويفضل من الثواب شيء ، ومثل هذه المعصية هي الصغيرة ، وهذا الانحباط هو المسمى بالتكفير .

والقسم الثالث : أن يكون عقاب معصيته أزيد من ثواب طاعته ، وحينئذ ينحبط ذلك الثواب بما يساويه من العقاب ، ويفضل من العقاب شيء ، ومثل هذه المعصية هي الكبيرة ، وهذا الانحباط هو المسمى بالإحباط ، وبهذا الكلام ظهر الفرق بين الكبيرة وبين الصغيرة . وهذا قول جمهور المعتزلة .

واعلم أن هذا الكلام مبني على أصول كلها باطلة عندنا . أولها : أن هذا مبني على أن الطاعة توجب ثوابا والمعصية توجب عقابا ، وذلك باطل لأنا بينا في كثير من مواضع هذا الكتاب أن صدور الفعل عن العبد لا يمكن إلا إذا خلق الله فيه داعية توجب ذلك الفعل ، ومتى كان كذلك امتنع كون الطاعة موجبة للثواب ، وكون المعصية موجبة للعقاب ، وثانيها : أن بتقدير أن يكون الأمر كذلك ، إلا أنا نعلم ببديهة العقل أن من اشتغل بتوحيد الله وتقديسه وخدمته وطاعته سبعين سنة ، فإن ثواب مجموع هذه الطاعات الكثيرة في هذه المدة الطويلة أكثر بكثير من عقاب شرب قطرة واحدة من الخمر ، مع أن الأمة مجمعة على أن شرب هذه القطرة من الكبائر ، فإن أصروا وقالوا : بل عقاب شرب هذه القطرة أزيد من ثواب التوحيد وجميع الطاعات سبعين سنة فقد أبطلوا على أنفسهم أصلهم ، فإنهم يبنون هذه المسائل على قاعدة الحسن والقبح العقليين ، ومن الأمور المتقررة في العقول أن من جعل عقاب هذا القدر من الجناية أزيد من ثواب تلك الطاعات العظيمة فهو ظالم ، فإن دفعوا حكم العقل في هذا الموضع فقد أبطلوا على أنفسهم القول بتحسين العقل وتقبيحه ، وحينئذ يبطل عليهم كل هذه القواعد ، وثالثها : أن نعم الله تعالى كثيرة وسابقة على طاعات العبيد ، وتلك النعم السابقة موجبة لهذه الطاعات ، فكان أداء الطاعات أداء لما وجب بسبب النعم السابقة ، ومثل هذا لا يوجب في المستقبل شيئا آخر ، وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون شيء من الطاعات موجبا للثواب أصلا ، وإذا كان كذلك فكل معصية يؤتى بها فإن عقابها يكون أزيد من ثواب فاعلها ، فوجب أن يكون جميع المعاصي كبائر ، وذلك أيضا باطل . ورابعها : أن هذا الكلام مبني على القول بالإحباط ، وقد ذكرنا الوجوه الكثيرة في إبطال القول بالإحباط في سورة البقرة ، فثبت أن هذا الذي ذهبت المعتزلة إليه في الفرق بين الصغيرة والكبيرة قول باطل وبالله التوفيق .

المسألة الثانية : اختلف الناس في أن الله تعالى هل ميز جملة الكبائر عن جملة الصغائر أم لا ؟ فالأكثرون قالوا : إنه تعالى لم يميز جملة الكبائر عن جملة الصغائر ، لأنه تعالى لما بين في هذه الآية أن الاجتناب عن الكبائر يوجب تكفير الصغائر ، فإذا عرف العبد أن الكبائر ليست إلا هذه الأصناف المخصوصة ، عرف أنه متى احترز عنها صارت صغائره مكفرة فكان ذلك إغراء له بالإقدام على تلك الصغائر ، والإغراء بالقبيح لا يليق بالجملة ، أما إذا لم يميز الله تعالى كل الكبائر عن كل الصغائر ، ولم يعرف في شيء من الذنوب أنه صغيرة ، ولا ذنب يقدم عليه إلا ويجوز كونه كبيرة فيكون ذلك زاجرا له عن الإقدام عليه . قالوا : ونظير هذا في الشريعة إخفاء الصلاة الوسطى في الصلوات وليلة القدر في ليالي رمضان ، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة ، ووقت الموت في جميع الأوقات . والحاصل أن هذه القاعدة تقتضي أن لا يبين الله تعالى في شيء من الذنوب أنه صغيرة ، وأن لا يبين أن الكبائر ليست إلا كذا وكذا ، فإنه لو بين ذلك لكان ما عداها صغيرة ، فحينئذ تصير الصغيرة معلومة ، ولكن يجوز أن يبين في بعض الذنوب أنه كبيرة . روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :

" ما تعدون الكبائر " فقالوا : الله ورسوله أعلم ، فقال : " الإشراك بالله وقتل النفس المحرمة وعقوق الوالدين والفرار من الزحف والسحر وأكل مال اليتيم وقول الزور وأكل الربا وقذف المحصنات الغافلات " وعن عبد الله بن عمر أنه ذكرها وزاد فيها : استحلال آمين البيت الحرام ، وشرب الخمر ، وعن ابن مسعود أنه زاد فيها : القنوط من رحمة الله واليأس من رحمة الله ، والأمن من مكر الله . وذكر عن ابن عباس أنها سبعة ، ثم قال : هي إلى السبعين أقرب . وفي رواية أخرى إلى السبعمائة أقرب ، والله أعلم .

المسألة الثالثة : احتج أبو القاسم الكعبي بهذه الآية على القطع بوعيد أصحاب الكبائر فقال : قد كشف الله بهذه الآية الشبهة في الوعيد ، لأنه تعالى بعد أن قدم ذكر الكبائر ، بين أن من اجتنبها يكفر عن سيآته ، وهذا يدل على أنهم إذا لم يجتنبوها فلا تكفر ، ولو جاز أن يغفر تعالى لهم الكبائر والصغائر من غير توبة لم يصح هذا الكلام .

وأجاب أصحابنا عنه من وجوه : الأول : أنكم إما أن تستدلوا بهذه الآية من حيث أنه تعالى لما ذكر أن عند اجتناب الكبائر يكفر السيآت ، وجب أن عند عدم اجتناب الكبائر لا يكفرها ، لأن تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه وهذا باطل . لأن عند المعتزلة هذا الأصل باطل ، وعندنا أنه دلالة ظنية ضعيفة ، وإما أن تستدلوا به من حيث أن المعلق بكلمة «إن » على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء ، وهذا أيضا ضعيف ، ويدل عليه آيات : إحداها : قوله : { واشكروا الله إن كنتم إياه تعبدون } فالشكر واجب سواء عبد الله أو لم يعبد . وثانيها : قوله تعالى : { فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته } وأداء الأمانة واجب سواء ائتمنه أو لم يفعل ذلك . وثالثها : { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } والاستشهاد بالرجل والمرأتين جائز سواء حصل الرجلان أو لم يحصلا . ورابعها : { ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة } والرهن مشروع سواء وجد الكاتب أو لم يجده . وخامسها : { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا } والإكراه على البغاء محرم ، سواء أردن التحصن أو لم يردن . وسادسها : { وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء } والنكاح جائز سواء حصل ذلك الخوف أو لم يحصل ، وسابعها : { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم } والقصر جائز ، سواء حصل الخوف أو لم يحصل وثامنها : { فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك } والثلثان كما أنه حق الثلاثة فهو أيضا حق الثنتين ، وتاسعها : قوله :

{ وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله } وذلك جائز سواء حصل الخوف أو لم يحصل . وعاشرها : قوله : { إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما } وقد يحصل التوفيق بدون إرادتيهما ، والحادي عشر : قوله : { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته } وقد يحصل الغنى بدون ذلك التفرق ، وهذا الجنس من الآيات فيه كثرة ، فثبت أن المعلق بكلمة «إن » على الشيء لا يلزم أن يكون عدما عند عدم ذلك الشيء ، والعجب أن مذهب القاضي عبد الجبار في أصول الفقه هو أن المعلق بكملة «إن » على الشيء لا يكون عدما عند عدم ذلك الشيء ، ثم إنه في التفسير استحسن استدلال الكعبي بهذه الآية ، وذلك يدل على أن حب الإنسان لمذهبه قد يلقيه فيما لا ينبغي .

الوجه الثاني من الجواب : قال أبو مسلم الأصفهاني : إن هذه الآية إنما جاءت عقيب الآية التي نهى الله فيها عن نكاح المحرمات ، وعن عضل النساء وأخذ أموال اليتامى وغير ذلك ، فقال تعالى : إن تجتنبوا هذه الكبائر التي نهيناكم عنها كفرنا عنكم ما كان منكم في ارتكابها سالفا . وإذا كان هذا الوجه محتملا ، لم يتعين حمله على ما ذكره المعتزلة . وطعن القاضي في هذا الوجه من وجهين : الأول : أن قوله : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } عام ، فقصره على المذكور المتقدم لا يجوز . الثاني : أن قوله : إن باجتنابهم في المستقبل هذه المحرمات يكفر الله ما حصل منها في الماضي كلام بعيد ؛ لأنه لا يخلو حالهم من أمرين اثنين : إما أن يكونوا قد تابوا من كل ما تقدم ، فالتوبة قد أزالت عقاب ذلك لاجتناب هذه الكبائر ، أو لا يكونوا قد تابوا من كل ما تقدم ، فمن أين أن اجتناب هذه الكبائر يوجب تكفير تلك السيآت ؟ هذا لفظ القاضي في تفسيره .

والجواب عن الأول : أنا لا ندعي القطع بأن قوله : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } محمول على ما تقدم ذكره ، لكنا نقول : إنه محتمل ، ومع هذا الاحتمال لا يتعين حمل الآية على ما ذكروه . وعن الثاني : أن قولك : من أين أن اجتناب هذه الكبائر يوجب تكفير تلك السيئات ؟ سؤال لا استدلال على فساد هذا القسم ، وبهذا القدر لا يبطل هذا الاحتمال ، وإذا حضر هذا الاحتمال بطل ما ذكرتم من الاستدلال والله أعلم .

الوجه الثالث : من الجواب عن هذا الاستدلال : هو أنا إذا أعطيناهم جميع مراداتهم لم يكن في الآية زيادة على أن نقول : إن من لم يجتنب الكبائر لم تكفر سيآته ، وحينئذ تصير هذه الآية عامة في الوعيد ، وعمومات الوعيد ليست قليلة ، فما ذكرناه جوابا عن سائر العمومات كان جوابا عن تمسكهم بهذه الآية ، فلا أعرف لهذه الآية مزيد خاصية في هذا الباب ، وإذا كان كذلك لم يبق لقول الكعبي : إن الله قد كشف الشبهة بهذه الآية عن هذه المسألة وجه .

الوجه الرابع : أن هذه الكبائر قد يكون فيها ما يكون كبيرا ، بالنسبة إلى شيء ، ويكون صغيرا بالنسبة إلى شيء آخر ، وكذا القول في الصغائر ، إلا أن الذي يحكم بكونه كبيرا على الإطلاق هو الكفر ، وإذا ثبت هذا فلم لا يجوز أن يكون المراد بقوله : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } الكفر ؟ وذلك لأن الكفر أنواع كثيرة : منها الكفر بالله وبأنبيائه وباليوم الآخر وشرائعه ، فكان المراد أن من اجتنب عن الكفر كان ما وراءه مغفورا ، وهذا الاحتمال منطبق موافق لصريح قوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وإذا كان هذا محتملا ، بل ظاهرا سقط استدلالهم بالكلية وبالله التوفيق .

المسألة الرابعة : قالت المعتزلة : إن عند اجتناب الكبائر يجب غفران الصغائر ، وعندنا أنه لا يجب عليه شيء ، بل كل ما يفعله فهو فضل وإحسان ، وقد تقدم ذكر دلائل هذه المسألة .

ثم قال تعالى : { وندخلكم مدخلا كريما } وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : قرأ المفضل عن عاصم { يكفر ويدخلكم } بالياء في الحرفين على ضمير الغائب ، والباقون بالنون على استئناف الوعد ، وقرأ نافع { مدخلا } بفتح الميم وفي الحج مثله ، والباقون بالضم ، ولم يختلفوا في { مدخل صدق } بالضم ، فبالفتح المراد موضع الدخول ، وبالضم المراد المصدر وهو الإدخال ، أي : ويدخلكم إدخالا كريما ، وصف الإدخال بالكرم بمعنى أن ذلك الإدخال يكون مقرونا بالكرم على خلاف من قال الله فيهم : { الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم } .

المسألة الثانية : أن مجرد الاجتناب عن الكبائر لا يوجب دخول الجنة ، بل لا بد معه من الطاعات ، فالتقدير : إن أتيتم بجميع الواجبات ، واجتنبتم عن جميع الكبائر كفرنا عنكم بقية السيئات وأدخلناكم الجنة ، فهذا أحد ما يوجب الدخول في الجنة . ومن المعلوم أن عدم السبب الواحد لا يوجب عدم المسبب ، بل ههنا سبب آخر هو السبب الأصلي القوي ، وهو فضل الله وكرمه ورحمته ، كما قال : { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا } ، والله أعلم .