{ أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ } الذكر أي أفننحيه ونبعده عنكم على سبيل الاستعارة التمثيلية من قولهم : ضرب الغرائب عن الحوض شبه حال الذكر وتنحيته بحال غرائب الإبل وذودها عن الحوض إذا دخلت مع غيرها عند الورد ثم استعمل ما كان في تلك القصة ههنا ، وفيه إشعار باقتضاء الحكمة توجه الذكر إليهم وملازمته لهم كأنه يتهافت عليهم ، ولو جعل استعارة في المفرد بجعل التنحية ضرباً جاز ومن ذلك قول طرفة :
أضرب عنك الهموم طارقها *** ضربك بالسيف قونس الفرس
وقول الحجاج في خطبته يهدد أهل العراق : لأضربنكم ضرب غرائب الإبل . و { الذكر } قيل المراد به القرآن ويروى ذلك عن الضحاك . وأبي صالح والكلام على تقدير مضاف أي إنزال الذكر وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر تفخيماً ، وقيل : بل و ذكر العباد بما فيه صلاحهم فهو بمعنى المصدر حقيقة ، وعن ابن عباس . ومجاهد ما يقتضيه ، والهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف يقتضيه على أحد الرأيين في مثل هذا التركيب أي أنهملكم فننحى الذكر عنكم ، وقال ابن الحاجب : الفاء لبيان أن ما قبلها وهو جعل القرآن عربياً سبب لما بعدها وهو إنكار أن يضرب سبحانه الذكر عنهم { صَفْحاً } أي إعراضاً ، وهو مصدر لنضرب من غير لفظه فإن تنحية الذكر إعراض فنصبه على أنه مفعول مطلق على نهج قعدت جلوساً كأنه قيل : أفنصفح عنكم صفحاً أو هو منصوب على أنه مفعول له أو حال مؤول بصافحين بمعنى معرضين ، وأصل الصفح أن تولي الشيء صفحة عنقك ، وقيل : إنه بمعنى الجانب فينتصب على الظرفية أي أفننحيه عنكم جانباً ، ويؤيد قراءة حسان بن عبد الرحمن الضبعي . والسميط ابن عمير . وشبيل بن عذرة { صَفْحاً } بضم الصاد وحينئذٍ يحتمل أن يكون تخفيف صفح كرسل جمع صفوح بمعنى صافحين ، وأبو حيان اختار أن يكون مفرداً بمعنى المفتوح كالسد والسد .
وحكي عن ابن عطية أن انتصاب صفحاً على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة فيكون العامل فيه محذوفاً ، ولا يخفى أنه لا يظهر ذلك ، وأياً ما كان فالمراد إنكار أن يكون الأمر خلاف ما ذكر من إنزال كتاب على لغتهم ليفهموه { أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ } أي لأن كنتم منهمكين في الإسراف مصرين عليه على معنى أن الحكمة تقتضي ذكركم وإنزال القرآن عليكم فلا نترك ذلك لأجل أنكم مسرفون لا تلتفتون إليه بل نفعل التفتم أم لا .
وقيل : هو على معنى أن حالكم وإن اقتضى تخليتكم وشأنكم حتى تموتوا على الكفر والضلالة وتبقوا في العذاب الخالد لكننا لسعة رحمتنا لا نفعل ذلك بل نهديكم إلى الحق بإرسال الرسول الأمين وإنزال الكتاب المبين .
والاخوان { إِن كُنتُمْ } بكسر الهمزة على أن الجملة شرطية ، وإن وإن كانت تستعمل للمشكوك وإسرافهم أمر محقق لكن جىء بها هنا بناءً على جعل المخاطب كأنه متردد في ثبوت الشرط شاك فيه قصداً إلى نسبته إلى الجهل بارتكابه الإسراف لتصويره بصورة ما يفرض لوجوب انتفائه وعدم صدوره ممن يعقل ، وقيل : لا حاجة إلى هذا لأن الشرط الإسراف في المستقبل وهو ليس بمتحقق ، ورد بأن إن الداخلة علي لا تقلبه للاستقبال عند الأكثر ، ولذا قيل : { إن } هنا بمعنى إذ ، وأيد بأن علي بن زيد قرأ به وأنه يدل على التعليل فتوافق قراءة الفتح معنى ، ولو سلم فالظاهر من حال المسرف المصر على إسرافه بقاؤه على ما هو عليه فيكون محققاً في المستقبل أيضاً على القول بأنها تقلب كان كغيرها من الأفعال وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة ما قبل عليه ، وجوز أن يكون الشرط في موقع الحال أي مفروضاً إسرافكم على أنه من الكلام المنصف فلا يحتاج إلى تقدير جواب .
وتعقب بأنه إنما يتأتى على القول بأن إن الوصلية ترد في كلامهم بدون الواو والمعروف في العربية خلافه .
ثم أخبر تعالى أن حكمته وفضله يقتضي أن لا يترك عباده هملا ، لا يرسل إليهم رسولا ، ولا ينزل عليهم كتابا ، ولو كانوا مسرفين ظالمين فقال :
{ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا } أي : أفنعرض عنكم ، ونترك إنزال الذكر إليكم ، ونضرب عنكم صفحا ، لأجل إعراضكم ، وعدم انقيادكم له ؟ بل ننزل عليكم الكتاب ، ونوضح لكم فيه كل شيء ، فإن آمنتم به واهتديتم ، فهو من توفيقكم ، وإلا قامت عليكم الحجة ، وكنتم على بينة من أمركم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أفنضرب عنكم الذكر صفحا} يقول لأهل مكة: أفنذهب عنكم هذا القرآن سدى لا تسألون عن تكذيب به.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: أفنضرب عنكم ونترككم أيها المشركون فيما تحسبون، فلا نذكركم بعقابنا من أجل أنكم قوم مشركون... عن مجاهد، في قول الله عزّ وجلّ:"أفَنَضْرِبُ عَنْكُمْ الذّكْرَ صَفْحا" قال: تكذّبون بالقرآن ثم لا تعاقبون عليه...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أفنترك تذكيركم بهذا القرآن، ولا نذكركم به، لأن كنتم قوما مسرفين... عن قتادة: "أفَنَضْرِبُ عَنْكُمْ الذّكْرَ صَفْحا أنْ كُنْتُمْ قَوْما مُسْرِفِينَ": أي مشركين، والله لو كان هذا القرآن رفع حين ردّه أوائل هذه الأمة لهلكوا، فدعاهم إليه عشرين سنة، أو ما شاء الله من ذلك...
وأولى التأويلين في ذلك بالصواب تأويل من تأوّله: أفنضرب عنكم العذاب فنترككم ونعرض عنكم، لأن كنتم قوما مسرفين لا تؤمنون بربكم.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية، لأن الله تبارك وتعالى أتبع ذلك خبره عن الأمم السالفة قبل الأمم التي توعدها بهذه الآية في تكذيبها رسلها، وما أحلّ بها من نقمته، ففي ذلك دليل على أن قوله: "أفَنَضْرِبُ عَنْكُمْ الذّكْرَ صَفْحا "وعيد منه للمخاطبين به من أهل الشرك، إذ سلكوا في التكذيب بما جاءهم عن الله رسولهم مسلك الماضين قبلهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
اختُلف في الذّكر: قال بعضهم: القرآن.
واختُلف في قوله: {أفنضرب عنكم الذّكر صفحا} قال بعضهم: أفنترك، ونذر الذّكر سُدًى {أن كنتم قوما مسرفين} أي ألأنكم كذا ولأجل أنكم كذا؟
وقال بعضهم: {أفنضرب عنكم} أي أفنُمسك عنكم فلا نذكركم {صفحا} أي إعراضا، وهو قول القتبيّ؛ يقول: صفحت عن فلان، أي أعرضت عنه. وأصل ذلك أنك توليه صحفتك.
وقال أبو عوسجة: {أفنضرب} أي نسكت، ضربت وأضربت أي سكتُّ.
وقوله: {صفحا} أي ردّا، يقال: سألني فلان حاجة، فصفحته صفحا، أي رددته، فعلى ذلك قوله: {أفنضرب عنكم الذّكر صفحا} فإن كان الذّكر هو القرآن، أو الرسول، فالتأويل أنه وإن علم منكم الرّدّ والتكذيب فلا يمنعه ذلك عن إنزاله عليكم وبعثه رسولا إليكم وإن أنكرتموه، وكذّبتموه ورددتموه، فلا يحملنا ذلك على رفعه من بينكم بشرككم وكفركم، وهو كما ذكر في قوله: {وكم أرسلنا من نبيّ في الأولين} {وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزؤون} [الزخرف: 6 و7] أو لعل فيكم من يصدّقه، ويؤمن به، أو غيركم يؤمن به ويُصدّقه، وإن كذّبتم أنتم. هذا إن كان تأويل الذّكر رسولا أو كتابا.
وإن كان تأويل الذّكر العذاب، فيصير كأنه يقول: أفنترك تعذيبكم، أو نمسك عنه، ولا نعاقبكم، وأنتم قوم مسرفون أي مشركون على ما ذكر على إثره حين قال:
{فأهلكنا أشد منهم بطشا} أي قوة؟ معناه عذّبناهم بالتكذيب مع شدة بطشهم وقوتهم، وأنتم دونهم لا تعذَّبون؟ بل تعذَّبون.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي أننا لا نفعل ذلك؛ فيكون معنى الاستفهام: أفنقطع عنكم خطابَنا وتعريفَنا إنْ أسرفتم في خلافكم؟ لا.. إننا لا نرفع التكليفَ بِأَنْ خالَفْتُم، ولا نهجركم -بِقَطْع الكلام عنكم- إنْ أسرفتم. وفي هذا إشارةٌ لطيفةٌ وهو أنه لا يقطع الكلامَ- اليومَ -عَمَّنْ تمَادَى في عصيانه، وأسرف في أكثر شأنه. فأحرى أَنَّ مَنْ لم يُقَصِّرْ في إيمانه- وإنْ تَلَطَّخَ بعصيانه، ولم يَدْخُلْ خَلَلٌ في عِرفانه -ألا يَمْنَعَ عنه لطائفَ غفرانه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
من ثم يعرّض بهم وبإسرافهم، ويهددهم بالترك والإهمال جزاء هذا الإسراف: (أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم قوماً مسرفين؟).. ولقد كان عجيباً -وما يزال- أن يعنى الله سبحانه -في عظمته وفي علوه وفي غناه- بهذا الفريق من البشر فينزل لهم كتاباً بلسانهم، يحدثهم بما في نفوسهم، ويكشف لهم عن دخائل حياتهم، ويبين لهم طريق الهدى، ويقص عليهم قصص الأولين، ويذكرهم بسنة الله في الغابرين.. ثم هم بعد ذلك يهملون ويعرضون! وإنه لتهديد مخيف أن يلوح لهم بعد ذلك بالإهمال من حسابه ورعايته، جزاء إسرافهم القبيح!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أي أتحسبون أن إعراضكم عما نزل من هذا الكتاب يبعثنا على أن نقطع عنكم تجدد التذكير بإنزال شيء آخر من القرآن. فلما أريدت إعادة تذكيرهم وكانوا قد قدم إليهم من التذكير ما فيه هديهم لو تأملوا وتدبروا، وكانت إعادة التذكير لهم موسومة في نظرهم بقلة الجدوى؛ بيّن لهم أن استمرار إعراضهم لا يكون سبباً في قطع الإرشاد عنهم؛ لأن الله رحيم بهم مريد لصلاحهم لا يصده إسرافهم في الإنكار عن زيادة التقدم إليهم بالمواعظ والهَدي. والاستفهام إنكاري، أي لا يجوز أن نضرب عنكم الذكر صفحاً من جراء إسرافكم، فالإتْيَان ب {إنْ} في قوله: {إنْ كنتم قوماً مسرفين} لقصد تنزيل المخاطبين المعلوم إسرافهم، منزلة من يُشَك في إسرافه؛ لأن توفر الأدلّة على صدق القرآن من شأنه أن يزيل إسرافهم، وفي هذا ثقة بحقّيّة القرآن وضَرب من التوبيخ على إمعانهم في الإعراض عنه...
وإقحام {قوماً} قبل {مسرفين} للدلالة على أن هذا الإسراف صار طبعاً لهم وبه قِوام قوميتهم.
الهمزة هنا تحمل معنى الاستفهام الإنكاري، ومعنى {أَفَنَضْرِبُ} أي: نترك. نقول: ضربتُ عن العمل وأضربتُ عن العمل أي: تركتُه وامتنعتُ عنه. ومنه: أضرب العمال عن العمل.
فالحق يقول لهم: أنترك تذكيركم، ونُعرِض عنكم ونترككم هكذا هَمَلاً، لأنكم أسرفتُم على أنفسكم وكذَّبتم بالذكْر وكفرتم به؟
لا بل سنُوالي لكم التذكير والبيان، ونلزمكم الحجة والبرهان، فإنْ لم تؤمنوا بالحجة ولم تُصدِّقوا جاء دور الغزو والفتح والنصر عليكم حتى تؤمنوا. وهذه رحمة من الله بهم لأنهم عباده وصنعته ويريد لهم النجاة، وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها حتى وهم كافرون به.
فلو تركهم وما أرادوا لتمادوا في فسادهم، واستحقوا الهلاك والعذاب، والكافر حينما يؤمن يرحمه الله بالإيمان، ويرحم المجتمع من شرِّه وفساده إن ظلَّ على كفره، فالذكْر والمراد به هنا الوحي رحمةٌ من الله وخير يُقدِّمه لعباده رحمة بهم.
لذلك قالوا: إنْ كان لك عدو فلا تَدْعُ عليه بالهلاك، إنما ادْعُ له بالهداية لأنك لا تنتفع بهلاكه، إنما تنتفع بسلوكه ويعود عليك خيره إن اهتدى، فثمار الخير تفيد المجتمع كله، ومن هذا المنطلق نهانا الإسلام عن كَتْم العلم لأنك حين تكتم علماً تحرم مجتمعك من خيره، فحين تُعلِّم غيرك تنتفع بخيره وتأمن شرَّه.
إذن: من رحمة الله بهم أنْ يُوالي لهم نزول القرآن رغم عنادهم وكفرهم وتماديهم في الضلال، وفعلاً مع مرور الوقت وتتابع نزول الوحي أسلم صناديد الكفر واحداً بعد الآخر، أسلم عمر، وأسلم عمرو وخالد وعكرمة وغيرهم كثير.
ثم يقول لهم الحق سبحانه: أنتم في حاجة إلى قراءة التاريخ وأَخْذ العبرة من موكب الرسالات لتروْا عاقبة المكذِّبين للرسل، فتاريخ الرسالات يؤكد انتصار رسل الله على المكذِّبين لهم، لأن هذه سنةُ الله في الرسل أنْ ينصرهم الله في النهاية، وأن تكون العاقبة لهم على مُكذِّبيهم، يأخذهم الله على قدر تكذيبهم: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ..} [العنكبوت: 40].
وقد خاطبهم الحق سبحانه بقوله: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وَبِالَّيلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137-138] يعني: المسألة ليستْ كلاماً نظرياً، إنما واقع مُعَاش ومُشَاهد عليكم أنْ تعقلوه، وأنْ تتعلموا منه الدرس حتى لا ينزل بكم من العذاب مثل ما نزل بهم.