الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{أَفَنَضۡرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكۡرَ صَفۡحًا أَن كُنتُمۡ قَوۡمٗا مُّسۡرِفِينَ} (5)

ثم قال تعالى : { أفنضرب عنكم الذكر صفحا } ( صفحا ) مصدر ، كأنه قال : أفنصفح عنكم صفحا{[61146]} .

وقيل : هو مصدر في موضع الحال ، كأنه قال : أفنضرب عنكم الذكر صافحين{[61147]} . كما نقول : جاء زيد مشيا ، أي : ماشيا .

ويجوز أن يكون صفحا بمعنى : ذو صفح ، كما تقول : رجل عدل ( ورضيى أي : عادل وراض ){[61148]} ، وذو عدل وذو رضى{[61149]} . يقال : أضربت{[61150]} عنك بمعنى : أعرضت{[61151]} عنك وتركتك{[61152]} .

والمعنى : أفنعرض عنكم أيها الناس ونترككم سدى لا نذكركم بعقابنا{[61153]} من أجل أنكم قوم مشركون .

قال مجاهد : معناه ، أفتكذبون بالقرآن ولا تعاقبون{[61154]} .

وقال السدي : معناه : ( أفنضرب عنكم العذاب ){[61155]} .

وقال ابن عباس : معناه : ( أحسبتم أن نصفح عنكم ولما{[61156]} تفعلوا{[61157]} ما أمرتم به ){[61158]} .

وقال قتادة : ( معنى ){[61159]} : { أفنضرب عنكم الذكر صفحا إن كنتم قوما مسرفين } أي : مشركين/ ، والله لو كان هذا{[61160]} القرآن ( رفع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكوا ، ولكن الله عاد بعائدته ورحمته فكرره عليهم فدعاهم إليه عشرين سنة أو ما شاء الله من ذلك ){[61161]} .

قال الضحاك : الذكر هنا : القرآن{[61162]} . وقال أبو صالح : الذكر : العذاب{[61163]} . وقيل : ( الذكر : التذكير ){[61164]} . والمعنى : أفنترك تذكيركم{[61165]} بهذا القرآن فلا نذكركم{[61166]} به عقاب{[61167]} الله وثوابه لأن كنتم قوما مسرفين . وهو مروي عن ابن عباس{[61168]} .

فيكون المعنى : فنهملكم{[61169]} ( ونذكركم ){[61170]} سدى ولا نذكركم ( لأنكم ){[61171]} كنتم قوما مسرفين .

وهذا كله على قراءة من فتح ( أن ) ، فأما من كسر ( أن ){[61172]} فقد رده{[61173]} أبو حاتم وغيره ، لأنهم إنما{[61174]} وبخوا على شيء قد ثبت{[61175]} ومضى ، فهذا موضع المفتوحة لأنها لما مضى .

والمكسورة معناها لما{[61176]} يأتي . فكيف يوبخون على شيء لم يفعلوه بعد .

والكسر عند الخليل وسيبويه والكسائي والفراء جيد حسن ، ومعناه الحال عند الزجاج لأن في الكلام معنى التقرير والتوبيخ{[61177]} .

وقال سيبويه : سألت الخليل عن ( قول الشاعر وهو{[61178]} ) الفرزدق{[61179]} :

أتغضب{[61180]} أنْ أذْنا قتيبة حُُزَّتا{[61181]} *** جهارا{[61182]} ولم تغضض لقتل ابن حازم{[61183]} .

فقال : هي مكسورة لأنه قبيح أن يفصل بين أن والفعل{[61184]} ، يريد أن ( أنْ ){[61185]} المفتوحة لا يفرق بينها وبين الفعل وهو ( حزتا ) .

وأن المكسورة يجوز ذلك فيها على إضمار فعل آخر ، قال الله جل ذكره : { وإن أحد من المشركين استجارك } ( أي : وإن استجارك أحد من المشركين استجارك ){[61186]} . فعلى{[61187]} هذا تقدير البيت إن كسرت والتقدير : إن حزت{[61188]} أذنا قتيبة حزتا .

ويجوز عند كثير من النحويين أن تكسر{[61189]} الألف . ويكون المعنى للماضي{[61190]} في البنية واللفظ للاستقبال{[61191]} . وعلى ذلك قرأ أبو عمرو ، وابن كثير : { أن صدوكم عن المسجد الحرام }{[61192]} بالكسر{[61193]} .

وعلى ذلك يتأول قول الله جل ذكره { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يومنوا }{[61194]} والكسر في هذا إجماع من القراء{[61195]} وتركهم للإيمان{[61196]} أمر قد تقدم وكان . فهو – لو حمل على نظائره – في موضع المفتوحة . ولم يقرأ به أحد . فدل ذلك على جواز الكسر وحسنه في هذه السورة وفي المائدة ( وفي غيرها ){[61197]} على معنى : إن وقع ذلك . وعلى ذلك اختلف القراء{[61198]} في قوله : { وامرأة مومنة إن وهبت نفسها }{[61199]} .

والمشهورة{[61200]} من القراء{[61201]} على الكسر أجمعوا .

وقد قرئ{[61202]} بالفتح على أنه أمر قد كان وانقضى{[61203]} .

والكسر على معنى : إن وقع ذلك فيما يستقبل ، وعلى هذا يجوز في البيت الكسر وفي ( الآيات المذكورات ){[61204]} .


[61146]:انظر مشكل إعراب القرآن 2/649، والبيان في غريب إعراب القرآن 2/352.
[61147]:انظر مشكل إعراب القرآن 2/649، وجامع القرطبي 16/63.
[61148]:في طرة (ت).
[61149]:(ح): رض.
[61150]:(ت): وضربة.
[61151]:(ت): (عرضت) متآكل.
[61152]:قال بهذا: الفراء. انظر إعراب النحاس 4/98.
[61153]:(ح): (بعقوبنا).
[61154]:انظر تفسير مجاهد 2/579، وجامع البيان 25/30، والمحرر الوجيز 14/241، وجامع القرطبي 16/62، وتفسير ابن كثير 4/123.
[61155]:انظر جامع البيان 25/30، وجامع القرطبي 16/62، وتفسير ابن كثير 4/123.
[61156]:(ح): ولم.
[61157]:(ت): تعقلوا.
[61158]:انظر جامع البيان 25/30، والمحرر الوجيز 14/241، وجامع القرطبي 16/62، وتفسير ابن كثير 4/123.
[61159]:(ت) و(ح): (معناه).
[61160]:ساقط من (ت).
[61161]:انظر جامع البيان 25/30، وجامع القرطبي 16/62، وتفسير ابن كثير 14/123.
[61162]:انظر إعراب النحاس 4/98، والمحرر الوجيز 14/240.
[61163]:انظر جامع البيان 25/30، وجامع القرطبي 16/62.
[61164]:انظر جامع القرطبي 16/62.
[61165]:(ت): (تذكيرهم).
[61166]:(ت): تذكركم.
[61167]:(ح): (عذاب).
[61168]:انظر جامع البيان 25/30، وجامع القرطبي 16/62.
[61169]:(ت) : فنهلككم.
[61170]:(ت)ك وندركم بمهملة و(ح): ونذكركم.
[61171]:(ت) و(ح): لأن.
[61172]:ساقط من (ح).
[61173]:قرأ بالكسر نافع وحمزة والكسائي، وقرأ بالفتح ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر. انظر الكشف 2/255، وحجة القراءات 644، والسبعة 584، والمحرر الوجيز 14/241، وسراج القارئ 346، وغيث النفع 347.
[61174]:ساقط من (ح).
[61175]:(ح): ثب.
[61176]:(ح): ما.
[61177]:لم أقف عليه في معاني الزجاج 4/405.
[61178]:(ت): الشاعر قول.
[61179]:هو همام بن غالب بن صعصعة التميمي الدارمي، أبو فراس، الشهير بالفرزدق. شاعر من البصرة وكان من الفحول حتى قيل: لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب، ولولا شعره لذهب نصف أخبار الناس، وهو ثالث ثلاثة أقطاب شعر النقائض. توفي سنة 110 هـ. انظر الكامل 1/468 و521 والبداية 9/265.
[61180]:(ح): هم الغضب.
[61181]:(ح): حدثا.
[61182]:(ت): جصارا.
[61183]:البيت للفرزدق. وهو من البحر الطويل. انظر الكتاب 3/161، وجامع البيان 25/31، والخزانة 4/20، وهو في جامع البيان بلفظ أتجزع...وفي الكتاب والخزانة: ابن خازم.
[61184]:(ح): وألف.
[61185]:(ح): من.
[61186]:ساقط من (ح).
[61187]:(ت): فعل.
[61188]:(ح): أحدث.
[61189]:(ح): كسر.
[61190]:(ت) و(ح): للمضي.
[61191]:(ح): الاستقبال.
[61192]:المائدة آية 3.
[61193]:انظر سراج القارئ 198، وغيث النفع 200، ولامية ويسعدن في القراءات (ظهر الورقة 8).
[61194]:الكهف آية 6.
[61195]:(ح): القرى.
[61196]:(ح) الإيمان
[61197]:(ت) وغيرها.
[61198]:(ح): القرى.
[61199]:الأحزاب آية 5.
[61200]:(ح): والمشهور.
[61201]:(ح): والقرى.
[61202]:(ح): قرباي.
[61203]:قرأ الحسن (أن وهبت) بفتح الهمزة. انظر جامع القرطبي 14/210.
[61204]:(ت): الآية المذكورة.