التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{أَفَنَضۡرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكۡرَ صَفۡحًا أَن كُنتُمۡ قَوۡمٗا مُّسۡرِفِينَ} (5)

أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين : بمعنى هل .

بسم الله الرحمن الرحيم

{ حم ( 1 ) والكتاب المبين ( 2 ) إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ( 3 ) وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ( 4 ) أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين ( 5 ) وكم أرسلنا من نبي في الأولين ( 6 ) وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزؤون ( 7 ) فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين ( 8 ) }

ننصرف عن تذكيركم بسبب أنكم قوم مسرفون في المكابرة والعناد .

وابتدأت السورة بحرفي الحاء والميم للاسترعاء إلى ما بعدهما . ثم أعقبهما قسم رباني بالكتاب المبين الواضح في أهدافه ودعوته بأن الله إنما أنزل القرآن باللغة العربية ليستطيع العرب المخاطبون به أن يفهموه ويعقلوه . وأنه- في أم الكتاب عند الله- علي الشأن حكيم الأسلوب والمقاصد .

واحتوت الآيات بعد ذلك :

1- سؤالا استنكاريا موجها للكفار السامعين المخاطبين عما إذا كانوا يظنون أن الله تعالى يترك تذكيرهم بسبب إسرافهم في المكابرة والعناد أو تجاوز حدوده .

2-وتذكيرا بأن الله أرسل قبلهم أنبياء عديدين فكان أقوامهم يستهزئون بهم فأهلكهم وكانوا أشد بطشا منهم ، وعلى هذا جرت سنة الله في الأمم السابقة لهم .

تعليق على تعبير

{ أم الكتاب }

وجمهور المفسرين على أن تعبير { أم الكتاب } هو اللوح المحفوظ{[1842]} . غير أن الذي يتبادر لنا أنه بمعنى مصدر التنزيل على سبيل توكيد كون القرآن صادرا عن الله تعالى . ولعل هذا التوكيد متصل بما حكته آيات سورة فصلت ، ثم آيات سورة الشورى السابقتين لهذه السورة لما كان يحتج به الكفار في معرض الإنكار باختلاف لغة القرآن عن لغة السماوية الأولى . فالقرآن صادر عن الله تعالى الذي صدرت عنه هذه الكتب . وإذا كانت لغته عربية فإن ذلك بقصد أن يفهمه المخاطبون ، ولا يحتجوا بعجمته كما احتجوا بعجمة الكتب السماوية الأولى ، مما انطوى في آية سورة الأنعام هذه : { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين ( 156 ) } . على أن هذا التأويل لا يتعارض مع مفهوم اللوح المحفوظ الذي شرحناه في تفسير سورة البروج شرحا يغني عن التكرار .

تعليق على تكرار توكيد عروبة

القرآن وصلته بالله

هذا ، ويلحظ أن عروبة القرآن وصلته بالله تعالى كانتا موضوعا رئيسيا في السور الثلاث السابقة ، وبخاصة في سورتي فصلت والشورى ، ثم في هذه السورة فضلا عما قبلها مما يدل على اشتداد لجاج الكفار في هذا الموضوع ، وعلى صحة ترتيب هذه السور وتتابعها في النزول . وهو على ما هو المتبادر سبب ما روى عن سلسلة الحواميم وأوردناه في مقدمة سورة غافر من أحاديث .

وأسلوب الآيات والتوكيد يؤيد ما قلناه أكثر من مرة من أن المقصد من تعبير القرآن والكتاب كان في بدء الأمر القسم الذي احتوى الآيات المحكمات في مبادئ الدعوة وأسسها .

تعليق على آية

{ أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين ( 5 ) }

وحكمة متابعة الله في إرسال رسله

والمتبادر أن الآيات بسبيل تسجيل موقف وجاهي من مواقف المناظرة والجدل واللجاج بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكفار ، وأن الآية ( 5 ) احتوت ردا على قول يمكن أن يكونوا قالوه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن طال إنذار القرآن وتقريعه ، وأصروا على موقفهم وعنادهم وهو لماذا تتعب نفسك بعد كل هذا ولا تيأس منا وتتركنا وشأننا ؟ . فأوحى الله بالآيات للرد عليهم وبيان حكمته سبحانه تذكير الناس دورا بعد دور ولم تكن مكابرة الناس وإسرافهم ليجعلاه يحيد عن هذه الحكمة حتى يظل طريق الهدى والحق واضحا بينا ، وفي هذا ما فيه من روعة وجلال وتلقين مستمر المدى في وجوب متابعة الدعاة إلى الحق لدعوتهم والصبر عليها والثبات فيها برغم ما يمكن أن يلقوه من إعراض وضد واستخفاف ؛ لأن ذلك من مقتضى حكمة الله ؛ لما فيه من قوام المجتمع البشري وحياته .


[1842]:انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري الخ.