التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَمِنۡ حَيۡثُ خَرَجۡتَ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيۡكُمۡ حُجَّةٌ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِي وَلِأُتِمَّ نِعۡمَتِي عَلَيۡكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (150)

قوله : ( ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون ) .

قوله : ( ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ) .

وقوله : ( وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) .

هذه آيات ثلاث تتفق من حيث التجانس في العبارة ومن حيث المعنى والمضمون .

وهي آيات يلاحظ فيها التكرار الذي لا يقع في الكتاب الحكيم عبثا ، بل إنه تكرار ينطوي على كثير من المعاني والأحكام .

ويمكن القول هنا أن التكرار في هذه الآيات الثلاث حول استقبال الكعبة يحتمل في تعليله أمرين . أحدهما : التأكيد من الله جلت قدرته للنبي والمسلمين على الامتثال في طواعية تامة لاستقبال القبلة الجديدة بعد أن نسخ الحكم السابق وهو استقبال بيت المقدس ؛ وذلك كيلا يجد بعض المسلمين في نفوسهم شيئا من التردد أو الشك أو العنت ، وليبادروا التوجه في الحال نحو البيت العتيق ؛ تنفيذا لكلمة الله وتحقيقا لأمره الذي لا معقب له .

الثاني : أن التكرار ينطوي على جملة فوائد شرعية تفصيلية في تبيين كيفية التوجه والاستقبال في مختلف الحالات أو الظروف أو المواضع :

منها : أن من عاين الكعبة مُشاهدة أو حسا عليه أن يتوجه نحوها عينها بالذات ، وإذا لم يفعل ذلك كأن يتجه صوب جهة أخرى مخالفة فإنه لا صلاة له أو كالذي افتقد شرطا أساسيا من شروط الصلاة وهو استقبال القبلة ، وقيل بل هو ركن من أركانها على الخلاف .

ومنها : أن من كان في مكة ، لكنه لم يشاهد البيت فعليه أن يستقبل المسجد الحرام حيث الكعبة .

ومنها : أن من كان خارج مكة من مختلف البلدان فعلية أن يتوجه في قبلته نحو مكة ، وقد بينا سابقا الحديث حول هذه المعاني إذ يقول الرسول ( ص ) : " البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي " .

ومنها : إذا سافر المسلم وأراد أن يقوم للصلاة فعليه أن يتوجه نحو القبلة أول دخوله الصلاة حين التحريم ، ولا جناح عليه بعد ذلك إذا ما اتجهت به السفينة أو الطائرة أو وسيلة النقل نحو أية جهة أخرى مغايرة .

وقوله : ( لئلا يكون للناس على الله حجة ) الحجة المحاجة وهي المخاصمة أو المجادلة . والمراد أن الله شرع لكم الكعبة قبلة تتوجهون نحوها في الصلاة حيثما كنتم ، ولا يشترط في ذلك أن يكون التوجه نحو العين ما دمتم منتشرين في بقاع الأرض ولم تستطيعوا معاينة البيت أو مشاهدته . فإن قال لكم المشركون : كيف تستقبلون البيت ولستم ترونه ، فإن سؤالهم أصبح غير ذي قيمة مادام المقصود هو الجهة لا العين .

قال القرطبي في تأويل هذه الآية : لا حجة لأحد عليكم إلا حجة الداحضة إذ قالوا : ( ما ولاهم ) ، وتحير محمد في دينه وما توجه إلى قبلتنا إلا أنا كنا أهدى منه وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن أو من يهودي أو منافق .

وقوله : ( إلا الذين ظلموا منهم ) أي ليس لأحد عليكم حجة إلا الحجة الداحضة التي تفرزها ألسنة الظالمين من أعدائكم ، وهي حجة قائمة على الفساد وانتفاء التفكير السليم .

وقوله : ( فلا تخشوهم واخشوني ) " لا " تفيد النهي . ( تخشوهم ) فهل مجزوم بحذف النون وواو الجماعة في محل رفع فاعل . والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به ، والميم للجميع . أما الخشية فهي الخوف ، فإن الله يحذر عباده المؤمنين من خشية الناس بل عليهم أن يخشوا ربهم وحده ؛ فإنه أحق أن يخشاه الناس .

وقد تنتاب قلب المرء غاشية من الخوف من البشر . فإنه لا إثم في ذلك مادامت هذه الخشية لم تؤثر في عزيمة المؤمن ولم تخفف من طاعته وامتثاله لأوامر الله ، لكن الخشية من الناس إذا ما كانت سببا في اجتيال العباد عن عقيدتهم وفتنتهم عن دينهم ، أو كانت سببا في زعزعة الإيمان وتبديده في النفوس فيما يحرف المؤمنين عن صراط الله ليسيروا في طريق الباطل والشهوات .

قوله : ( ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون ) تمام النعمة من الله على عباده المؤمنين بجعلهم ملتئمين منسجمين على أساس من عقيدة الإسلام لمتينة الثابتة التي تقوم على التوحيد وعلى أساس من أخوة الإيمان تؤلف بين قلوب هذه الأمة ؛ ليكونوا متحدين في تصوراتهم وتطلعاتهم وأهوائهم ، وليكونوا متوجهين نحو قبلة ثابتة واحدة هي البيت العتيق الذي كتبه الله للناس مثابة وأمنا . وفي ذلك كله ما يجعل أتباع هذه الملة في نعمة من الله وفي هداية منه سبحانه . لا جرم أن الله كتب لهذه الأمة الهداية ، فهي على المحجة البيضاء ، والطريق السوي السليم . وهو قوله : ( ولعلكم تهتدون ) {[160]} .


[160]:- تفسير النسفي جـ 1 ص 82 والكشاف جـ 1 ص 323.