التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{فَٱسۡتَجَابَ لَهُمۡ رَبُّهُمۡ أَنِّي لَآ أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰۖ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۖ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَيِّـَٔاتِهِمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ ثَوَابٗا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلثَّوَابِ} (195)

قوله تعالى : ( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب ) .

روي أن أم سلمة قالت : يا رسول الله ! لا نسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله ( فاستجاب لهم ربهم ) الآية{[671]} . والفاء في قوله : ( فاستجاب ) تفيد التعقيب .

والمعنى أن الله قد استجاب للمؤمنين المخبتين بعد ما دعوه وتضرعوا إليه وسألوه ما سألوه من الغفران والستر على الذنوب ، والتوفي مع الأبرار ، وأن يؤتيهم ما وعدهم به من الفضل والثواب ، وأن لا يخزيهم يوم القيامة- استجاب الله لهم أنه لا يضيع ثواب عمل لأحد سواء كان ذكرا أو أنثى . فإنه لا تفاوت بين ذكر وأنثى في الأجر والثواب على العمل ، والاستجابة لأدعية الداعين ما داموا مؤمنين مستمسكين بدين الله . ولا وزن في ذلك لاعتبارات البشر من الحسب والنسب والمال وغير ذلك . ويؤكد ذلك قوله سبحانه : ( بعضكم من بعض ) حرف الجر ( من ) بمعنى الكاف . أي بعضكم كبعض ، أو مثل بعض في الثواب على الطاعة على المعصية . فأصلكم واحد فالذكر من الأنثى والأنثى من الذكر . أي يجمع ذكوركم وإناثكم أصل واحد فكل واحد منكم من الآخر أي من أصله . وعلى هذا رجالكم مثل نسائكم في الأحكام والنصرة والدين . وليس من مجال بعد ذلك للتفاوت أو التفضيل بين ذكوركم وإناثكم .

قوله : ( فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأودوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا ) .

ذلك إطراء من الله للذين هجروا وطنهم مكة فارين إلى الله بدينهم ، راحلين من دار الفتنة حيث التعذيب والإذلال والصدر عن دين الله ، بعد أن أخرجهم الظالمون من أرضهم حيث الأهل والأحباب والخلان والأقارب ، وبعد أن آذوهم بالقهر والتنكيل وكل ألوان الأذى ، وذلك كله في طاعة الله . أو بسبب إيمانهم بالله إيمانا حقيقيا صادقا بعيدا عن الشرك والأوثان وسفاهة الجاهلية وضلالاتها . وهو مقتضى قوله : ( في سبيلي ) .

وقوله : ( وقاتلوا وقتلوا ) وذلك ضرب من ضروب الطاعة لله ، وهو أن ينبري المؤمنون الأوائل لقتال الكافرين الظالمين الذين يفتنون الناس عن دينهم ويتصدون للمسلمين بالقهر والتنكيل والفتنة ليحرفوهم عن دينهم إن استطاعوا ، فلا مناص إذن من قتال هؤلاء الظالمين الفجار . لا جرم أن قتالهم من جليل الأعمال وخيرها . وقد كان ذلك شأن المسلمين الأوائل لدى المهاجرة من مكة فقد قاتلوا المشركين المعتدين وبعضهم قتل فكتبت له الشهادة .

قوله : ( لأكفرن عنهم سيئاتهم ) أي لأسترنها عليهم فلا أفضحهم بها يوم القيامة . وفوق ذلك يدخلون الجنة ومن حولها الأنهار الجارية السائحة ، ليجدوا هنالك من الخير والنعيم ما لم يطرأ لهم على بال ؛ ولذلك قال : ( ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ) .

قوله : ( ثوابا من عند الله ) ( ثوابا ) ، مصدر مؤكد لما قبله ، لأن قوله : ( ولأدخلنهم جنات ) يعني لأثيبنهم ثوابا . أي إثابة أو تثويبا من عند الله . وقيل : منصوب على التمييز . وقيل غير ذلك{[672]} .

قوله : ( والله عنده حسن الثواب ) أي حسن الجزاء الذي يستحقه العامل بعمله الصالح


[671]:- أسباب النزول للنيسابوري ص 93.
[672]:- البيان للأنباري جـ 1 ص 237.