فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{فَٱسۡتَجَابَ لَهُمۡ رَبُّهُمۡ أَنِّي لَآ أُضِيعُ عَمَلَ عَٰمِلٖ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰۖ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضٖۖ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لَأُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَيِّـَٔاتِهِمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّهُمۡ جَنَّـٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ ثَوَابٗا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلثَّوَابِ} (195)

قوله : { فاستجاب } الاستجابة بمعنى : الإجابة ؛ وقيل : الإجابة عامة ، والاستجابة خاصة بإعطاء المسئول ، وهذا الفعل يتعدى بنفسه ، وباللام ، يقال استجابه ، واستجاب له ، والفاء للعطف ؛ وقيل : على مقدّر : أي : دعوا بهذه الأدعية ، فاستجاب لهم ، وقيل : على قوله : { وَيَتَفَكَّرُونَ } وإنما ذكر سبحانه الاستجابة ، وما بعدها في جملة ما لهم من الأوصاف الحسنة ؛ لأنها منه ، إذ من أجيبت دعوته ، فقد رفعت درجته . قوله : { أَنّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ منْكُمْ } أي بأني ، وقرأ عيسى بن عمرو بكسر الهمزة على تقدير القول الأول ، وقرأ أبيّ بثبوت الباء ، وهي للسببية ، أي : فاستجاب لهم ربهم بسبب أنه لا يضيع عمل عامل منهم . والمراد بالإضاعة : ترك الإثابة . قوله : { من ذَكَرٍ أَوْ أنثى } " من " بيانية ومؤكدة لما تقتضيه النكرة الواقعة في سياق النفي من العموم . قوله : { بَعْضُكُم من بَعْضٍ } أي : رجالكم مثل نسائكم في الطاعة ، ونساؤكم مثل رجالكم فيها ، والجملة معترضة لبيان كون كل منهما من الآخر باعتبار تشعبهما من أصل واحد .

قوله : { فالذين هاجروا } الآية ، هذه الجملة تتضمن تفصيل ما أجمل في قوله : { أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ } أي فالذين هاجروا من أوطانهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَأُخْرِجُوا مِن ديارهم } في طاعة الله عزّ وجلّ { وَقَاتِلُوا } أعداء الله { وَقُتلُوا } في سبيل الله ، وقرأ ابن كثير ، وابن عامر : «وقتّلوا » على التكثير وقرأ الأعمش ، وحمزة ، والكسائي : «وقتلوا وقاتلوا » وهو مثل قول الشاعر :

تصابى وأمسى علاه الكبر *** . . .

أي : قد علاه الكبر ، وأصل الواو لمطلق الجمع بلا ترتيب ، كما قال به الجمهور .

والمراد هنا : أنهم قاتلوا ، وقتل بعضهم ، كما قال امرؤ القيس :

فإن تقتلونا نقتلكمو*** . . .

وقرأ عمر بن عبد العزيز : «وقتلوا وقتلوا » . ومعنى قوله : { وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي } أي : بسببه ، والسبيل : الدين الحق . والمراد هنا : ما نالهم من الأذية من المشركين بسبب إيمانهم بالله ، وعملهم بما شرعه الله لعباده . وقوله : { لأكَفّرَنَّ } جواب قسم محذوف . وقوله : { ثَوَاباً من عِندِ الله } مصدر مؤكد عند البصريين ، لأن معنى قوله : { لأدخلنهم جنات } لأثيبنهم ثواباً ، أي : إثابة ، أو تثويباً كائناً من عند الله . وقال الكسائي : إنه منتصب على الحال . وقال الفراء : على التفسير { والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب } أي : حسن الجزاء ، وهو ما يرجع على العامل من جزاء عمله من ثاب يثوب : إذا رجع .

وقد أخرج سعيد بن منصور ، وعبد الرزاق ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، عن أم سلمة قالت : يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء ، فأنزل الله : { فاستجاب لَهُمْ } إلى آخر الآية . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عطاء قال : «ما من عبد يقول يا ربّ يا ربّ يا ربّ ثلاث مرات إلا نظر الله إليه » فذكر للحسن ، فقال : أما تقرأ القرآن ؟ { ربَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً } إلى قوله : { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ } . وأخرج ابن مردويه ، عن أم سلمة قالت : آخر آية نزلت هذه الآية : { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ } إلى آخرها . وقد ورد في فضل الهجرة أحاديث كثيرة .