التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثۡبِيتٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ كَمَثَلِ جَنَّةِۭ بِرَبۡوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٞ فَـَٔاتَتۡ أُكُلَهَا ضِعۡفَيۡنِ فَإِن لَّمۡ يُصِبۡهَا وَابِلٞ فَطَلّٞۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ} (265)

عطف مثل الذين ينفقون أموالهم في مرضاة الله على مَثَل الذي ينفق ماله رئاء الناس ، لزيادة بيان ما بين المرتبتين مِن البَوْن وتأكيداً للثناء على المنفقين بإخلاص ، وتفنّناً في التمثيل . فإنّه قد مثَّله فيما سلف بحبَّة أنبتت سبع سنابل ، ومثّله فيما سلف تمثيلاً غير كثيرِ التركيب لتحصل السرعة بتخيّل مضاعفة الثواب ، فلما مَثَّل حال المنفق رِئاءً بالتمثيل الذي مضى أعيد تمثيل حال المنفق ابتغاء مرضاة الله بما هو أعجب في حسن التخيُّل ؛ فإنّ الأمثال تبهج السامع كلّما كانت أكثر تركيباً وضمّنت الهيأة المشبّه بها أحوالاً حسنة تكسبها حُسناً ليسري ذلك التحسين إلى المشبَّه ، وهذا من جملة مقاصد التشبيه .

وانتصب { ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً } على الحال بتأويل المصدر بالوصف ، أي مبتغين مرضاة الله ومثَبِّتين من أنفسهم . ولا يحسن نصبهما على المفعول له ، أما قوله « ابتغاء » فلأن مفاد الابتغاء هو مفاد اللام التي ينتصب المفعول لأجله بإضمارها ، لأنّ يؤول إلى معنى لأجل طلبهم مرضاة الله ، وأما قوله « وتثبيتاً » فلأنّ حكمَهُ حكم ما عطف هو عليه .

والتثبيت تحقيق الشيء وترسيخه ، وهو تمثيل يجوز أن يكون لكبح النفس عن التشكّك والتردّد ، أي أنّهم يمنعون أنفسهم من التردّد في الإنفاق في وجوه البر ولا يتْركون مجالاً لخواطر الشحّ ، وهذا من قولهم ثبت قدمه أي لم يتردّد ولم ينكص ، فإنّ إراضة النفس على فعل ما يشُق عليها لها أثر في رسوخ الأعمال حتى تعتاد الفضائل وتصير لها ديدناً .

وإنفاق المال من أعظم ما ترسخ به الطاعة في النفس لأنّ المال ليس أمراً هيناً على النفس ، وتكون « من » على هذا الوجه للتبعيض ، لكنه تبعيض مجازي باعتبار الأحوال ، أي تثبيتاً لبعض أحوال النفس .

وموقع ( من ) هذه في الكلام يدل على الاستنزال والاقتصاد في تعلّق الفعل ، بحَيْث لا يطلب تسلّط الفعل على جميع ذات المفعول بل يُكتفى ببعض المفعول ، والمقصود الترغيب في تحصيل الفعل والاستدراج إلى تحصيله ، وظاهر كلام « الكشاف » يقتضي أنّه جعل التبعيض فيها حقيقياً .

ويجوز أن يكون تثبيتاً تمثيلاً للتصديق أي تصديقاً لوعد الله وإخلاصاً في الدين ليخالف حال المنافقين ؛ فإنّ امتثال الأحكام الشاقة لا يكون إلاّ عن تصديق للآمر بها ، أي يدُلُّون على تثبيت من أنفسهم .

و ( مِنْ ) على هذا الوجه ابتدائية ، أي تصديقاً صادراً من أنفسهم .

ويجيء على الوجه الأول في تفسير التثبيت معنى أخلاقي جليل أشار إليه الفخر ، وهو ما تقرر في الحكمة الخُلُقية أن تكرّر الأفعال هو الذي يوجب حصول الملكة الفاضلة في النفس ، بحيث تنساق عقب حصولها إلى الكمالات باختيارها ، وبلا كلفة ولا ضجر . فالإيمان يأمر بالصدقة وأفعال البر ، والذي يأتي تلك المأمورات يثبِّت نفسه بأخلاق الإيمان ، وعلى هذا الوجه تصير الآية تحْريضاً على تكرير الإنفاق .

ومُثِّل هذا الإنفاق بجنّة بربوة إلخ ، ووجه الشبه هو الهيأة الحاصلة من مجموع أشياء تكامل بها تضعيف المنفعة ، فالهيأة المشبّهة هي النفقة التي حفّ بها طلب رضي الله والتصديقُ بوعده فضوعفت أضعافاً كثيرة أو دونها في الكثرة ، والهيأة المشبّهة بها هي هيأة الجنّة الطيّبة المكان التي جاءها التهتَان فزكا ثمرُها وتزايد فأكملت الثمرة ، أو أصابها طلّ فكانت دون ذلك .

والجنّة مكان من الأرض ذو شجر كثير بحيث يجِنّ أي يستر الكائن فيه فاسمها مشتقّ من جنَّ إذا ستر ، وأكثر ما تطلق الجنّة في كلامهم على ذات الشجر المثمر المختَلف الأصناف ، فأما ما كان مغروساً نخيلاً بحتاً فإنّما يسمى حائطاً . والمشتهر في بلاد العرب من الشجر المثمر غير النخيل هو الكرم وثمره العنب أشهر الثمار في بلادهم بعد التمر ، فقد كان الغالبَ على بلاد اليمن والطائف . ومن ثمارهم الرمّان ، فإن كان النخل معها قيل لها جنّة أيضاً كما في الآية التي بعد هذه . ومما يدل على أنّ الجنّة لا يراد بها حائطُ النخل قوله تعالى في [ سورة الأنعام : 141 ] { وهوَ الذي أنشأ جناتٍ معْروشات وغير معْروشات والنّخل والزرع } فعطف النخل على الجنّات ، وذكر العريش وهو مما يجعل للكرم ، هذا ما يستخلص من كلام علماء اللغة .

وقد حصل من تمثيل حال الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله بحبّة ثم بجنّة جناس مصحَّف .

والربوة بضم الراء وفتحها مكان من الأرض مرتفع دون الجُبيل . وقرأ جمهور العشرة بربوة بضم الراء وقرأه ابن عامر وعاصم بفتح الراء . وتخصيص الجنة بأنّها في ربوة لأنّ أشجار الربى تكون أحسن منظراً وأزكى ثمراً فكان لهذا القيد فائدتان إحداهما قوة وجه الشبه كما أفاده قول { ضعفين } ، والثانية تحسين المشبّه به الراجع إلى تحسين المشبّه في تخيّل السامع .

والأكل بضم الهمزة وسكون الكاف وبضم الكاف أيضاً ، وقد قيل إن كل فُعْل في كلام العرب فهو مخفف فُعُل كعُنْق وفُلْك وحُمْق ، وهو في الأصل ما يؤكل وشاع في ثمار الشجر قال تعالى : { بجناتهم جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ } [ سبإ : 16 ] وقال : { تؤتى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا } [ إبراهيم : 25 ] ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب « أُكْلها » بسكون الكاف ، وقرأه ابن عامر وحمزة وعاصم والكسائي وخلف بضم الكاف .

وقوله : « ضِعفين » التثنية فيه لمجرد التكرير مثل لَبَّيْك أي آتت أكلها مضاعفاً على تفاوتها .

وقوله : { فإن لم يُصبها وابل فطل } ، أي فإن لم يصبها مطر غزير كفاها مطر قليل فآتت أكلها دون الضعفين . والمعنى أن الإنفاق لابتغاء مرضاة الله له ثواب عظيم ، وهو مع ذلك متفاوت على تفاوت مقدار الإخلاص في الابتغاء والتثبيت كما تتفاوت أحوال الجنات الزكية في مقدار زكائها ولكنها لا تخيب صاحبها .