السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثۡبِيتٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ كَمَثَلِ جَنَّةِۭ بِرَبۡوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٞ فَـَٔاتَتۡ أُكُلَهَا ضِعۡفَيۡنِ فَإِن لَّمۡ يُصِبۡهَا وَابِلٞ فَطَلّٞۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ} (265)

{ ومثل } نفقات { الذين ينفقون أموالهم ابتغاء } أي : طلب { مرضاة الله } أي : رضاه { وتثبيتاً من أنفسهم } أي : تثبيتاً بالنظر في إصلاح العمل وإخلاصه بالحمل على الحلم ، والصبر على جميع مشاق التكاليف ، فإن من راض نفسه يحملها على بذل المال ، الذي هو شقيق الروح ، فإن بذله أشق شيء على النفس ؛ لأن النفس إذا رضيت بالتحامل عليها وتكاليفها بما يصعب عليها ذلت خاضعة لصاحبها ، وقلّ طمعها في اتباعه لشهواتها فيسهل عليه حملها على سائر العبادات ، ومتى تركها وهي مطبوعة على النقائص زاد طَمَعُها في اتباع الشهوات ، فمن للتبعيض مفعول به مثلها في قوله : هز من عطفه وحرك من نشاطه .

فإن قيل : ما معنى التبعيض ؟ أجيب : بأنّ معناه إنّ من بذل ماله لوجه الله تعالى فقد ثبت بعض نفسه ، ومن بذل ماله وروحه فهو الذي ثبتها كلها أو تصديقاً للإسلام وتحقيقاً للجزاء من أصل أنفسهم ، لأنه إذا أنفق المسلم ماله في سبيل الله تعالى علم أن تصديقه وإيمانه بالثواب من أصل نفسه ، ومن إخلاص قلبه ، فمن على هذا لابتداء الغاية كقوله تعالى : { حسداً من عند أنفسهم } { كمثل جنة } أي : بستان { بربوة } وهي المكان المرتفع الذي تجري فيه الأنهار ، فلا يعلوه الماء ولا يعلو هو على الماء ، وإنما جعلها بربوة ، لأنّ النبات عليها أحسن وأزكى ، وقرأ ابن عامر وعاصم بفتح الراء والباقون بضمها { أصابها وابل } أي : مطر شديد كثير . { فأتت } أي : أعطت { أكلها } أي : ثمرتها ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بسكون الكاف ، والباقون بضمها { ضعفين } أي : مثلي ما يثمر غيرها بسبب الوابل والمراد بالضعف المثل وقيل : أربعة أمثاله ، لأنّ الضعف قدر الشيء ومثله معه ، فيكون الضعفان أربعة واستظهره البقاعي ، وقال أبو حيان : يحتمل أنها للتكثير أي : ضعفاً بعد ضعف أي : أضعافاً كثيرة ، لأنّ النفقة لا تضاعف بحسنة فقط ، بل بعشر وسبعمائة وأزيد ، ونصبه على الحال أي : مضاعفاً .

{ فإن لم يصبها وابل فطل } أي : مطر خفيف يصيبها ويكفيها لارتفاعها ، والمعنى تثمر وتزكو كثر المطر أو قل ، فكذلك نفقات من ذكر تزكو عند الله كثرت أو قلت { والله بما تعملون بصير } فيجازيكم به ففيه وعد ووعيد .