الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثۡبِيتٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ كَمَثَلِ جَنَّةِۭ بِرَبۡوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٞ فَـَٔاتَتۡ أُكُلَهَا ضِعۡفَيۡنِ فَإِن لَّمۡ يُصِبۡهَا وَابِلٞ فَطَلّٞۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ} (265)

وقوله تعالى : { وَمَثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم ابتغاء مَرْضَاتِ الله . . . } [ البقرة :265 ] .

من أساليب فصاحة القرآن أنه يأتي فيه ذكْرُ نقيضِ ما يتقدَّم ذكره ، ليتبيَّن حال التضادِّ بعرضها على الذهْن ، ولما ذكر اللَّه صدقاتِ القوم الذين لا خَلاَق لصدَقَاتهم ، ونَهَى المؤْمنين عن مواقَعَة ما يشبه ذلك بوَجْهٍ مَّا ، عَقَّبَ في هذه الآية بذكْرِ نفقاتِ القَوْم الذين بذَلُوا صدقاتِهِمْ على وجْهها في الشرع ، فضرب لها مثلاً ، وتقدير الكلام : ومَثَلُ نفقةِ الذين ينفقون كَمَثَلِ غارِسِ جَنَّة ، أو تقدِّر الإِضمار في آخر الكلام ، دون إِضمار في أوله ، كأنه قال : كَمَثَلِ غارِسِ جَنَّةِ و( ابتغاء ) معناه طلب ، وهو مصدر في موضع الحالِ ، و( تَثْبِيتاً ) مصدر ، و( مَرْضَات ) مصدر من رَضِيَ .

قال : ( ص ) { ابتغاء مَرْضَاتِ الله وَتَثْبِيتًا } كلاهما مفعولٌ من أجله ، وقال مكِّيٌّ ، وردَّه ابن عَطيَّة بأن ابتغاء لا يكون مفعولاً من أجله لعطف ، وَتَثْبِتا عليه ، ولا يصحُّ في تثبيت أنْ يكون مفعولاً من أجله ، لأنَّ الإِنفاق ليس من أجل التثبيت .

وأجيب : بأنه يمكن أنْ يقدَّر مفعولُ التثبيت الثوابَ ، أي : وتحصيلاً لأنفسهم الثوابَ على تلك النفقة ، فيصحّ أنْ يكون مفعولاً من أجله ، ثم قال أبو حَيَّان ، بعد كلام : والمعنى أنَّهم يُثَبِّتُونَ من أنفسهم على الإِيمان ، وما يرجُونه من اللَّه تعالى بهذا العمل . انتهى .

قال قتادة وغيره : { وَتَثْبِيتًا } : معناه : وتيقُّناً ، أي : أنَّ نفوسهم لها بصائرُ متأكِّدة ، فهي تثبتهم على الإِنفاق في طاعة اللَّه تثبيتاً ، وقال مجاهد والحَسَن : معنى قوله : { وَتَثْبِيتًا } ، أي : أنهم يتثبَّتون ، أين يَضَعُونَ صَدَقَاتِهِمْ .

قال الحَسَن : كان الرجُلُ ، إِذا هَمَّ تثبَّت ، فإِنْ كان ذلك لِلَّه أمضاه ، وإِنْ خالَطَهُ شيْء أَمْسَك .

والقولُ الأول أصوبُ ، لأن هذا المعنى الذي ذهب إِليه مجاهدٌ ، والحسنُ ، إِنما عبارته : وتَثبتا ، فإِنَّ قال محتجٌّ : إِن هذا من المصادر الَّتِي خُرِّجَتْ على غير المصدْر ، كقوله تعالى : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [ المزمل : 8 ] { والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] فالجوابُ : أنَّ هذا لاَ يسُوغُ إلاَّ مع ذِكْر المصدرِ ، والإِفصاحِ بالفعْلِ المتقدِّم للمصدر ، وأمَّا إِذا لم يقع إِفصاحٌ بفعْلٍ ، فليس لك أنْ تأتي بمصدر في غير معناه ، ثم تقول : أحمله على فعْلِ كذا وكذا ، لفعلٍ لم يتقدَّم له ذكْرٌ ، هذا مَهْيَعُ كلامِ العربِ فيما علمتُ .

والرَّبْوَةُ : ما ارتفع من الأرض ارتفاعا يسيراً معه في الأغلب كثافةُ الترابِ وطِيبُهُ وتعمُّقه ، وما كان كذلك ، فنباتُه أحْسَنُ ، ولفظ الرَّبْوَة : مأخوذ من : رَبَا يَرْبُو ، إِذا زاد ، { وآتَتْ } معناه أعطت ، والأُكُل ، بضم الهمزة : الثمر الَّذي يُؤْكَل ، والشيء المأْكُول مِنْ كُلِّ شيء ، يقال له : أُكُل ، وإِضافته إِلى الجنَّة إِضافة اختصاص ، كَسَرْج الدَّابَّة ، وبابِ الدَّارِ ، و{ ضِعْفَيْن } معناه اثنين مِمَّا يظن بها ، ويُحْزَر من مثلها .

ثم أكَّد سبحانه مدْحَ هذه الربوة ، بأنها إِنْ لم يصبْها وابلٌ ، فإِن الطَّلَّ يكفيها ، وينوبُ مناب الوابِلِ ، وذلك لكَرَمِ الأرض ، والطَّلُّ : المستدَقُّ من القَطْرِ ، قاله ابن عبَّاس وغيره ، وهو مشهورُ اللغة ، فشبه سبحانه نُمُوَّ نفقاتِ هؤلاء المُخْلِصِينَ الذين يُرْبِي اللَّه صدقاتِهِمْ ، كتربية الفَلُوِّ والفصيلِ ، حسب الحديثِ بنموِّ نباتِ هذه الجنة بالرَّبْوَة الموصُوفةِ ، وذلك كلُّه بخلافِ الصَّفْوان ، وفي قوله تعالى : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }[ البقرة :265 ] وعد ووعيد .