التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{مَا قُلۡتُ لَهُمۡ إِلَّا مَآ أَمَرۡتَنِي بِهِۦٓ أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡۚ وَكُنتُ عَلَيۡهِمۡ شَهِيدٗا مَّا دُمۡتُ فِيهِمۡۖ فَلَمَّا تَوَفَّيۡتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيۡهِمۡۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ} (117)

وبعد أن تبرّأ من أن يكون أمرَ أمّته بما اختلقوه انتقل فبيّن أنّه أمرهم بعكس ذلك حسبما أمره الله تعالى فقال { ما قلت لهم إلاّ ما أمرتني به } ، فقوله : { ما قلت لهم } ارتقاء في الجواب ، فهو استئناف بمنزلة الجواب الأول وهو { ما يكون لي أن أقول } الخ . . . صرّح هنا بما قاله لأنّ الاستفهام عن مقاله . والمعنى : ما تجاوزتُ فيما قلتُ حدّ التبليغ لما أمرتني به ، فالموصول وصلته هومقول { ما قلت لهم } وهو مفرد دالّ على جُمل ، فلذلك صحّ وقوعه منصوباً بفعل القول .

و { أنْ } مفسّرة { أمرتني } لأنّ الأمر فيه معنى القول دون حروفه وجملة { اعبدوا الله ربّي وربّكم } تفسيرية لِ { أمرتني } . واختير { أمرتني } على ( قلت لي ) مبالغة في الأدب . ولمّا كان { أمرتني } متضمّناً معنى القول كانت جملة { اعبدوا الله ربّي وربّكم } هي المأمورُ بأن يبلّغه لهم فالله قال له : قل لهم اعبدوا الله ربّي وربّكم . فعلى هذا يكون { ربّي وربّكم } من مقول الله تعالى لأنّه أمره بأن يقول هذه العبارة ولكن لما عبّر عن ذلك بفعل { أمرتني به } صح تفسيره بحرف { أن } التفسيرية فالذي قاله عيسى هو عين اللفظ الذي أمره الله بأن يقوله . فلا حاجة إلى ما تكلّف به في « الكشاف » على أنّ صاحب « الانتصاف » جوّز وجهاً آخر وهو أن يكون التفسير جرى على حكاية القول المأمور به بالمعنى ، فيكون الله تعالى قال له : قل لهم أن يعبدوا ربّك وربّهم . فلمّا حكاه عيسى قال : اعبدوا الله ربّي وربّكم اهـ . وهذا التوجيه هو الشائع بين أهل العلم حتى جعلوا الآية مثالاً لحكاية القول بالمعنى .

وأقول : هو استعمال فصيح قال ابن عطية في تفسير قوله تعالى : { مكنّاهم في الأرض ما لم نمكّن لكم } في سورة الأنعام ( 6 ) إذَا أخبرت أنّك قلت لغائب أو قيل له أو أمرت أن يقال له : فلك في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها ، فتجيء بلفظ المخاطبة ، ولك أن تأتي بالمعنى في الألفاظ بذكر غائب دون مخاطبة اهـ . وعندي أنّه ضعيف في هذه الآية .

ثمّ تبرّأ من تبعتهم فقال { وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم } أي كنت مشاهداً لهم ورقيباً يمنعهم من أن يقولوا مثل هذه المقالة الشنعاء .

و { ما دمت } ( ما ) فيه ظرفية مصدرية ، و ( دام ) تامّة لا تطلب منصوباً ، و { فيهم } متعلّق بِ { دمتُ } ، أي بينهم ، وليس خبراً لِ ( دام ) على الأظهر ، لأنّ ( دام ) التي تطلب خبراً هي التي يراد منها الاستمرار على فعل معيّن هو مضمون خبرها ، أمّا هي هنا فهي بمعنى البقاء ، أي ما بقيت فيهم ، أي ما بقيت في الدنيا .

ولذلك فرّع عنه قوله : { فلمّا توفّيتني كنتَ أنتَ الرقيبَ عليهم } ، أي فلمّا قضيت بوفاتي ، لأنّ مباشر الوفاة هو ملك الموت . والوفاة الموت ، وتوفّاه الله أماته ، أي قضى به وتوفّاه ملك الموت قبض روحه وأماته .

وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى { إنّي متوفّيك } في سورة آل عمران ( 55 ) . والمعنى : أنّك لمّا توفّيتني قد صارت الوفاة حائلاً بيني وبينهم فلم يكن لي أن أنكر عليهم ضلالهم ، ولذلك قال { كنتَ أنتَ الرقيب عليهم } ، فجاء بتضير الفصل الدّال على القصر ، أي كنت أنتَ الرقيب لا أنا إذ لم يبق بيني وبين الدنيا اتّصال . والمعنى أنّك تعلم أمرهم وترسل إليهم من يهديهم متى شئت . وقد أرسل إليهم محمداً صلى الله عليه وسلم وهداهم بكلّ وجوه الاهتداء . وأقصى وجوه الاهتداء إبلاغهم ما سيكون في شأنهم يوم القيامة .

وقوله : { وأنت على كلّ شيء شهيد } تذييل ، والواو اعتراضية إذ ليس معطوفاً على ما تقدّم لئلاّ يكون في حكم جواب { لمّا } .