تقدم في الأعراف الكلام على لفظة { نوح } و «المقام » وقوف الرجل لكلام أو خطبة أو نحوه ، و «المُقام بضم الميم إقامته ساكناً في موضع أو بلد ، ولم يقرأ هنا بضم الميم{[6166]} و » تذكيره « : وعظه وزجره ، والمعنى : يا قوم إن كنتم تستضعفون حالي ودعائي لكم إلى الله فإني لا أبالي عنكم{[6167]} لتوكلي على الله تعالى فافعلوا ما قدرتم عليه ، وقرأ السبعة وجهور الناس وابن أبي إسحاق وعيسى : » فأجمعوا «من أجمع الرجل على الشيء إذا عزم عليه ومنه قول الشاعر : [ الكامل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . . *** هل أغدونْ يوماً وأمر مجمع{[6168]} ؟
أجمعوا أمرهم بليلِ فلما*** أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء{[6169]}
ومنه الحديث ما لم يجمع مكثاً{[6170]} ومنه قول أبي ذؤيب : [ الكامل ]
ذكر الورود بها فأجمع أمرَهُ*** شوقاً وأقبلَ حينه يتتبع{[6171]}
وقرأ نافع فيما روى عنه الأصمعي وهي قراءة الأعرج وأبي رجاء وعاصم الجحدري والزهري والأعمش » فاجمَعوا بفتح الميم من جمع إذا ضم شيئاً إلى شيء ، و { أمركم } يريد به قدرتكم وحياتكم ويؤيد هذه القراءة قوله تعالى : { فتولى فرعون فجمع كيده }{[6172]} وكل هؤلاء نصب «الشركاء » ، ونصب قوله : { شركاءكم } ، يحتمل أن يعطف على قوله { أمركم } ، وهذا على قراءة «فاجمعوا » بالوصل{[6173]} ، وأما من قرأ : «فأجمعوا » بقطع الألف فنصب «الشركاء » بفعل مضمر كأنه قال : وادعوا شركاءكم فهو من باب قول الشاعر : [ المتقارب ]
*شراب اللبان وتمر وأقط*{[6174]}
ومن قول الآخر : [ مجزوء الكامل مرفل ]
ورأيت زوجك في الوغى*** متقلداً سيفاً ورمحا{[6175]}
علفتها تبناً وماء بارداً*** حتى شَأت همالة عيناها{[6176]}
وفي مصحف أبي بن كعب : «فأجمعوا وادعوا شركاءكم » ، قال أبو علي : وقد ينتصب «الشركاء » بواو «مع » ، كما قالوا : جاء البريد والطيالسة ، وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن وابن أبي إسحاق وعيسى وسلام ويعقوب وأبو عمرو فيما روي عنه «وشركاؤكم » بالرفع عطفاً على الضمير في { أجمعوا } ، وعطف على الضمير قبل تأكيده لأن الكاف والميم في { أمركم } ناب مناب أنتم المؤكد للضمير ، ولطول الكلام أيضاً ، وهذه العبارة أحسن من أن يطول الكلام بغير ضمير{[6177]} ، ويصح أن يرتفع بالابتداء والخبر مقدر تقديره وشركاؤهم فليجمعوا ، وقرأت فرقة «وشركائكم » بالخفض على العطف على الضمير في قوله : { أمركم } ، التقدير وأمر شركائكم ، فهو كقول الشاعر [ العجّاج ] :
أكل امرىء تحسبين أمرأً*** ونار توقد بالليل نارا{[6178]}
أي وكل نار ، والمراد بالشركاء في هذه الآية الأنداد من دون الله ، فأضافهم إليهم إذ يجعلونهم شركاء بزعمهم ، وقوله { ثم لا يكن أمركم عليكم غمة } ، أي ملتبساً مشكلاً ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الهلال ، «فإن غم عليكم » ومنه قول الراجز :
ولو شهدت الناس إذا تكمّوا*** بغمة لو لم تفرجْ غمّوا{[6179]}
وقوله { ثم اقضوا إلي } ومعناه أنفذوا قضاءكم نحوي ، وقرأ السدي بن ينعم : «ثم أفضوا » بالفاء وقطع الألف ، ومعناه : أسرعوا وهو مأخوذ من الأرض الفضاء أي اسلكوا إلي بكيدكم واخرجوا معي وبي إلى سعة{[6180]} وجلية ، وقوله { ولا تنظرون } أي لا تؤخرون والنظرة التأخير .
من مقارعة المشركين بالحجج الساطعة على بطلان دينهم ، وبالدلائل الواضحة على تفنيد أكاذيبهم وتكذيبهم وما تخلل ذلك من الموعظة والوعيد بالعذاب العاجل والآجل والإرهاب ، إلى التعريض لهم بذكر ما حل بالأمم المماثلة أحوالها لأحوالهم ، استقصاء لطرائق الحجاج على أصحاب اللجاج ؛ فإن نوحاً عليه السلام مع قومه مَثَل لحال محمد صلى الله عليه وسلم مع المشركين من قومه في ابتداء الأمر وتطوره ، ففي ذكر عاقبة قوم نوح عليه السلام تعريض للمشركين بأن عاقبتهم كعاقبة أولئك أو أنهم إنما يمتعون قليلاً ثم يؤخذون أخذة رابية ، كما متع قوم نوح زمناً طويلاً ثم لم يفلتوا من العذاب في الدنيا ، فذكر قصة نوح مع قومه عِظة للمشركين وملقياً بالوجل والذعر في قلوبهم ، وفي ذلك تأنيس للرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين بأنهم إسوة بالأنبياء ، والصالحين من أقوامهم ، وكذلك قصة موسى عليه السلام عقبها كما ينبئ عن ذلك قولهُ في نهاية هذه القصص { أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } [ يونس : 99 ] الآيات . وقوله : { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك } [ يونس : 94 ] الآيات .
وبهذا يظهر حسن موقع ( إذْ ) من قوله : { إذ قال لقومه يا قوم } إلى آخره ، فإن تقييد النبأ بزمن قوله : { لقومه } إيماء إلى أن محاورته قومه وإصرارهم على الإعراض هو محل العبرة ، لأنه وجه الشبه بين المشركين وبين قوم نوح عليه السلام في صم آذانهم عن دعوة رسولهم ، وقوله ذلك لهم إنما كان بعد أن كرر دعاءَهم زمناً طويلاً فكان ذلك آخر جدل بينه وبينهم ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد دعا أهل مكة سنين وقت نزول هذه السورة ثم حاورهم وجادلهم ولأن ذلك الزمن هو أعظم موقف وقفه نوح عليه السلام مع قومه ، وكان هو الموقف الفاصل الذي أعقبه العذاب بالغرق .
و { إذا } اسم للزمن الماضي . وهو هنا بدل اشتمال من { نبأ } أو من { نوح } . وفي ذكر قصة نوح عليه السلام وما بعدها تفصيل لما تقدم إجماله من قوله تعالى : { ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لمَّا ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات } [ يونس : 13 ] .
وضمير { عليهم } عائد إلى { الذين يفترون على الله الكذب } [ يونس : 69 ] .
والتلاوة : القراءة . وتقدمت في سورة الأنفال .
والنبأ : الخبر . وتقدم في قوله : { ولقد جاءك من نبأ المرسلين } في سورة [ الأنعام : 34 ] .
والتعريف بنوح عليه السلام وتاريخه مضى في أول آل عمران .
وتعريف قوم نوح بطريق الإضافة إلى ضمير نوح في قوله : { إذ قَال لقومه } إذ ليس ثمة طريق لتعريفهم غير ذلك إذ لم يكن لتلك الأمة اسم تعرف به ، فإنهم كانوا أمة واحدة في الأرض فلم يحصل داع إلى تسميتهم باسم جَد أو أرض إذ لم يكن ما يدعو إلى تمييزهم إذ ليس ثمة غيرهم ، ألا ترى إلى حكاية الله عن هود في قوله لقومه
{ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } [ الأعراف : 69 ] ، ولما حكى عن صالح إذ قال لقومه : { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد } [ الأعراف : 74 ]
وظرف { إذ } وما أضيف إليه في موضع الحال من { نبأ نوح } .
وافتتاح خطاب نوح قومَه ب { يا قوم } إيذان بأهمية ما سيلقيه إليهم ، لأن النداء طلب الإقبال . ولما كان هنا ليس لطلب إقبال قومه إليه لأنه ما ابتدأ خطابهم إلا في مجمعهم تعين أن النداء مستعمل مجازاً في طلب الإقبال المجازي ، وهو توجيه أذهانهم إلى فهم ما سيقوله .
واختيار التعبير عنهم بوصف كونهم قومه تحبيب لهم في نفسه ليأخذوا قوله مأخذ قول الناصح المتطلب الخيرَ لهم ، لأن المرء لا يريد لقومه إلا خيراً . وحذفت ياء المتكلم من المنادى المضاف إليها على الاستعمال المشهور في نداء المضاف إلى ياء المتكلم .
ومعنى : { إن كان كبُر عليكم مقامي } شق عليكم وأحرجكم .
والكبَر : وفرة حجم الجسم بالنسبة لأمثاله من أجسام نوعه ، ويستعار الكبَر لكون وصف من أوصاف الذوات أو المعاني أقوى فيه منه في أمثاله من نوعه ، فقد يكون مدحاً كقوله تعالى : { وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } [ البقرة : 45 ] ، ويكون ذماً كقوله : { كَبُرَتْ كلمة تخرج من أفواههم } [ الكهف : 5 ] ، ويستعار الكبَر للمشقة والحرج ، كقوله تعالى : { كَبُرَ على المشركين ما تدعوهم إليه } [ الشورى : 13 ] وقوله : { وإن كان كَبُر عليك إعراضهم } [ الأنعام : 35 ] وكذلك هنا .
والمقام مصدر ميمي مرادف للقيام . وقد استعمل هنا في معنى شأن المرء وحاله كما في قوله تعالى : { ولمَن خاف مقام ربه جنتان } [ الرحمن : 46 ] ، وقوله : { قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مَقاماً } [ مريم : 73 ] أي خير حالة وشأناً . وهو استعمال من قبيل الكناية ، لأن مكان المرء ومقامه من لوازم ذاته ، وفيهما مظاهر أحواله .
وخَص بالذكر من أحواله فيهم تذكيره إياهم بآيات الله ، لأن ذلك من أهم شؤونه مع قومه ، فعطفه من عطف الخاص على العام . فمعنى : { كَبُر عليكم مقامي وتذكيري } سئمتم أحوالي معكم وخاصة بتذكيري بآيات الله .
وتجهم الحق على أمثالهم شنشنة المتوغلين في الفساد المأسورين للهوى إذ تقع لديهم الدعوة إلى الإقلاع عنه والتثويب بهم إلى الرشاد موقعاً مُرّ المَذاق من نفوسهم ، شديد الإيلام لقلوبهم ، لما في منازعة الحق نفوسهم من صَولة عليها لا يستطيعون الاستخفاف بها ولا يطاوعهم هواهم على الإذعان إليها ، فيتورطون في حيرة ومنازعة نفسانية تثقل عليهم ، وتشمئز منها نفوسهم ، وتكدر عليهم صفو انسياقهم مع هواهم . وإضافة التذكير إلى ضميره من إضافة المصدر إلى فاعله .
والباء في { بآيات الله } لتأكيد تعدية المصدر إلى مفعوله الثاني ، والمفعولُ الأول محذوف ، والتقدير : تذكيري إياكم .
و{ آيات الله } مفعول ثان للتذكير .
يقال : ذكرته أمراً نسيه ، فتعديته بالباء لتأكيد التعدية كقوله تعالى : { وذكرهم بأيام الله } [ إبراهيم : 5 ] ، وقول مسور بن زيادةَ الحارثي :
أذَكَّر بالبقيا على من أصابني *** وبقياي أني جاهد غير مؤتلي
ولذلك قالوا في قوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] أن الباء لتأكيد اللصوق أي لصوق الفعل بمفعوله .
وآيات الله : دلائل فضله عليهم ، ودلائل وحدانيته ، لأنهم لما أشركوا بالله فقد نسوا تلك الدلائل ، فكان يذكرهم بها ، وذلك يُبرمهم ويحرجهم .
وجملة : { فعلى الله توكلت } جواب شرط { إن كان كبُر عليكم مقامي } باعتبار أن ذلك الشرط تضمن أن إنكاره عليهم قد بلغ من نفوسهم ما لا طاقة لهم بحمله ، وأنهم متهيئون لمدافعته فأنبأهم أن احتمال صدور الدفاع منهم ، وهم في كثرة ومنعَة وهو في قلة وضعف ، لا يصُده عن استمرار الدعوة ، وأنه وإن كان بينهم وحيداً فذلك يوهنه لأنه متوكل على الله . ولأجل هذا قدم المجرور على عامله في قوله : { فعلى الله توكلت } أي لا على غيره .
والتوكل : التعويل على من يدبر أمره . وقد مر عند قوله : { فإذا عزمت فتوكل على الله } في سورة [ آل عمران : 159 ] .
والفاء في { فأجمعوا أمركم } للتفريع على جملة { على الله توكلت } فللجملة المفرعة حكم جواب الشرط لأنها مفرعة على جملة الجواب ، ألا ترى أنه لولا قصده المبادرة بإعلامهم أنه غير مكترث بمناواتهم لكان مقتضى ظاهر الكلام أن يقول : إن كان كبُر عليكم مقامي الخ ، فأجمعوا أمركم فإني على الله توكلت ، كما قال هود لقومه { فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم } [ هود : 55 ، 56 ] .
وإجماع الأمر : العزم على الفعل بعد التردد بين فِعله وفعل ضده . وهوَ مأخوذ من الجمع الذي هو ضد التفريق ، لأن المتردد في ماذا يعمله تكون عنده أشياء متفرقة فهو يتدبر ويتأمل فإذا استقر رأيه على شيء منها فقد جَمَع ما كان متفرقاً . فالهمزة فيه للجعل ، أي جعلَ أمره جمعاً بعد أن كان متفرقاً .
ويقولون : جاؤوا وأمرهم جميع ، أي مجموع غير متفرق بوجوه الاختلاف .
والأمر : هو شأنهم من قصد دفعه وأذاه وترددهم في وجوه ذلك ووسائله .
و { شركاءكم } منصوب في قراءة الجمهور على أنه مفعول معه . والواو بمعنى ( مع ) أي أجمعوا أمركم ومعكم شركاؤكم الذين تستنصرون بهم .
وقرأ يعقوب { وشركاؤكم } مرفوعاً عطفاً على ضمير { فأجمعوا } ، وسوغه الفصل بين الضمير وما عطف عليه بالمفعول . والمعنى : وليجْمَع شركاؤكم أمرَهم .
وصيغة الأمر في قوله : { فأجمعوا } مستعملة في التسوية ، أي أن عزمهم لا يضيره بحيث هو يغريهم بأخذ الأهبة التامة لمقاومته . وزاد ذكر شركائهم للدلالة على أنه لا يخشاها لأنها في اعتقادهم أشد بطشاً من القوم ، وذلك تهكم بهم ، كما في قوله تعالى : { قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون } [ الأعراف : 195 ] .
وعطْف جملة : { ثم لا يكن أمركم عليكم غُمة } ب { ثم } الدالة على التراخي في الرتبة لما تتضمنه الجملة الثانية من الترقي في قلة مبالاته بما يُهيئونه له من الضر بحيث يتصدى لهم تصدي المشير بما يسهل لهم البلوغ إلى الإضرار به الذي ينوونه وإزالة العوائق الحائلة دون مقصدهم .
وجاء بما ظاهره نهي أمرهم عن أن يكون غمة عليهم مبالغة في نهيهم عن التردد في تبين الوصول إلى قصدهم حتى كأنّ شأنهم هو المنهي عن أن يكون التباساً عليهم ، أي اجتهدوا في أن لا يكون ذلك .
والغمة : اسم مصدر للغم . وهو الستر . والمراد بها في مثل هذا التركيب الستر المجازي ، وهو انبهام الحال ، وعدم تبين السداد فيه ، ولعل هذا التركيب جرى مجرى المثل فقد قال طرفة من قبل :
لعمرك ما أمري علي بغمة *** نهاري ولا ليلي علي بسرمد
وإظهار لفظ الأمر في قوله : { ثم لا يكن أمركم عليكم غمة } مع أنه عين الذي في قوله : { فأجمعوا أمركم } لكون هذا التركيب مما جرى مجرى المثل فيقتضي أن لا تغير ألفاظه .
و ( ثم ) في قوله : { ثم اقضوا إلي } للتراخي في الرتبة ، فإن رتبة إنفاذ الرأي بما يزمعون عليه من أذاهُ أقوى من تدبير ذلك ، ومن رتبة إجماع الرأي عليه فهو ارتقاء من الشيء إلى أعلى منه ، فعطف ب ( ثم ) التي تفيد التراخي في الرتبة في عطفها الجمل .
و { اقضُوا } أمر من القضاء ، فيجوز أن يكون من القضاء بمعنى الإتمام والفصل ، أي انفذوا ما ترونه من الإضرار بي . ويجوز أن يكون من القضاء بمعنى الحكم ، وهو قريب من الوجه الأول ، أي أنفذوا حكمكم .
وعدي ب ( إلى ) دون ( على ) لأنه ضمن معنى الإبلاغ والإيصال تنصيصاً على معنى التنفيذ بالفعل ، لأن القضاء يكون بالقول فيعقبه التنفيذ أو الإرجاء أو العفو ، ويكون بالفعل ، فهو قضاء بتنفيذ . ويسمى عند الفقهاء بالقضاء الفعلي .
وقوله : { ولا تُنظرون } تأكيد المدلول التضمين المشار إليه بحرف ( إلى ) . والإنظار التأخير ، وحذفت ياء المتكلم من { تنظرون } للتخفيف ، وهو حذف كثير في فصيح الكلام ، وبقاء نون الوقاية مشعر بها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{واتل عليهم} يعني واقرأ عليهم {نبأ نوح}، يعني حديث نوح،
{إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم}، يعني عظم عليكم،
{وتذكيري بآيات الله}، يعني تحذيري إياكم عقوبة الله،
{فعلى الله توكلت} يعني بالله احترزت،
{فأجمعوا أمركم وشركاءكم} وآلهتكم،
{ثم لا يكن أمركم عليكم غمة} يعني سوءا،
{ثم اقضوا إلي} يعني ميلوا إلي،
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واتل على هؤلاء المشركين الذي قالوا: اتخذ الله ولدا من قومك "نَبَأَ نُوحٍ "يقول: خبر نوح، "إذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَقامي" يقول: إن كان عظم عليكم مقامي بين أظهركم وشقّ عليكم، "وَتَذْكِيرِي بآياتِ اللّهِ" يقول: ووعظي إياكم بحجج الله، وتنبيهي إياكم على ذلك. "فَعَلى اللّهِ تَوَكّلْت" يقول: إن كان شقّ عليكم مقامي بين أظهركم وتذكيري بآيات الله فعزمتم على قتلي أو طردي من بين أظهركم، فعلى الله اتكالي وبه ثقتي وهو سندي وظهري. "فأجْمِعُوا أمْرَكُمْ" يقول: فأعدّوا أمركم واعزموا على ما تقدمون عليه في أمري... عن الأعرج: "فَأجْمِعُوا أمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ" يقول: أحكموا أمركم وادعوا شركاؤكم.
ونصب قوله: وشُرَكَاءَكُمْ بفعل مضمر له، وذلك: وادعوا شركاءكم...
وقوله: "ثُمّ لا يَكُنْ أمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمّة" يقول: ثم لا يكن أمركم عليكم ملتبسا مشكلاً مبهما من قولهم: غُمّ على الناس الهلال، وذلك إذا أشكل عليهم فلم يتبيّنوه... وقيل: إن ذلك من الغمّ، لأن الصدر يضيق به ولا يتبين صاحبه لأمره مصدرا يصدُره يتفرج عنه ما بقلبه... عن قتادة: "أمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمّةٌ" قالا: لا يكبر عليكم أمركم.
وأما قوله: "ثُمّ اقْضُوا إليّ" فإن معناه: ثم امضوا إليّ ما في أنفسكم وافرغوا منه... وقوله: "ولا تُنْظِرُونِ" يقول: ولا تؤخرون، من قول القائل: أنظرت فلانا بما لي عليه من الدين.
وإنما هذا خبر من الله تعالى ذكره عن قول نبيه نوح عليه السلام لقومه: إنه بنصرة الله له عليهم واثق ومن كيدهم وتواثقهم غير خائف، وإعلام منه لهم أن آلهتهم لا تضرّ ولا تنفع، يقول لهم: امضوا ما تحدّثون أنفسكم به فيّ على عزم منكم صحيح، واستعينوا من شايعكم علي بآلهتكم التي تدعون من دون الله، ولا تؤخروا ذلك، فإني قد توكلت على الله وأنا به واثق أنكم لا تضرّوني إلا أن يشاء ربي. وهذا وإن كان خبرا من الله تعالى عن نوح، فإنه حثّ من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على التأسّي به وتعريف منه سبيل الرشاد فيما قلده من الرسالة والبلاغ عنه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله) أن يقرأ على هؤلاء الكفار أخبار نوح (عليه السلام) حين "قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي "بين أظهركم "وتذكيري" إياكم "بآيات الله" وحججه وهممتم بقتلي وإذاي فافعلوا ما بدا لكم فإني على الله توكلت، وإنما جعل جواب الشرط "فعلى الله توكلت" مع أنه متوكل عليه في جميع أحواله ليبين لهم أنه متوكل في هذا على التفصيل لما في إعلامه ذلك من زجرهم عنه لأن الله تعالى يكفيه أمرهم. والتوكل والتفويض: جعل الأمر إلى من يدبره للثقة به في تدبيره، فمن فوض أمره إلى الله فقد توكل عليه. وقوله "ثم لا يكن أمركم عليكم غمة" معناه: ليكن أمركم ظاهرا مكشوفا ولا يكونن مغطى مستورا، من غممت الشيء: إذا سترته، فالغمة: ضيق الأمر الذي يوجب الحزن، والغمة والضغطة والكربة والشدة نظائر، ونقيضه الفرجة... وقوله "فاجمعوا امركم وشركاءكم" فيه تهديد.
وقوله "ثم اقضوا الي ولا تنظرون" معناه: افعلوا ما تريدون، على وجه التهديد لهم، وأنه إذا كان الله ناصره وعليه توكله لا يبالي بمن عاداه وأراد به السوء، فإن الله يكفيه أمره.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أنزل الله هذه الآية على وجه التسلية لنبيِّه -صلى الله عليه وسلم- لِمَا كان يمسُّه من مقاساة الشِّدَّة من قومه، فإنَّ أيامَ نوحٍ- وإنْ طالَت- فما لَبِثَتْ كثيراً إلا وقد زالت... ثم بيَّنَ أنه كان يتوكل على ربِّه مهما فعلوا. ولم يحتشم عبدٌ- ما وَثِقَ بربِّه- منْ كلِّ ما نَزَلَ به...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{كَبُرَ عَلَيْكُمْ}: عظم عليكم وشقّ وثقل. ومنها قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} [البقرة: 45]. ويقال: تعاظمه الأمر.
{مَّقَامِي}: مكاني، يعني نفسه، كما تقول: فعلت كذا لمكان فلان: وفلان ثقيل الظل. ومنه: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ} [الرحمن: 46] بمعنى خاف ربه. أو قيامي ومكثي بين أظهركم مدداً طوالاً أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً، أو مقامي وتذكيري؛ لأنهم كانوا إذا وعظوا الجماعة قاموا على أرجلهم يعظونهم، ليكون مكانهم بيناً وكلامهم مسموعاً، كما يحكى عن عيسى صلوات الله عليه أنه كان يعظ الحواريين قائماً وهم قعود. {فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ} من أجمع الأمر، وأزمعه، إذا نواه وعزم عليه.
والواو بمعنى «مع» يعني: فأجمعوا أمركم مع شركائكم...
فإن قلت: كيف جاز إسناد الإجماع إلى الشركاء؟ قلت: على وجه التهكم، كقوله: {قُلِ ادعوا شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ} [الأعراف: 195]
فإن قلت: ما معنى الأمرين؟ أمرهم الذي يجمعونه، وأمرهم الذي لا يكون عليهم غمة؟ قلت: أمّا الأمر الأوّل فالقصد إلى إهلاكه، يعني: فأجمعوا ما تريدون من إهلاكي واحتشدوا فيه وابذلوا وسعكم في كيدي. وإنما قال ذلك إظهاراً لقلة مبالاته، وثقته بما وعده ربه من كلاءته وعصمته إياه، وأنهم لن يجدوا إليه سبيلاً. وأما الثاني ففيه وجهان، أحدهما: أن يراد مصاحبتهم له وما كانوا فيه معه من الحال الشديدة عليهم المكروهة عندهم، يعني: ثم أهلكوني لئلا يكون عيشكم بسببي غصة وحالكم عليكم غمة: أي غماً وهماً، والغم والغمة، كالكرب والكربة. والثاني أن يراد به ما أريد بالأمر الأوّل، والغمة السترة من غمه إذا ستره... يعني: ولا يكن قصدكم إلى إهلاكي مستوراً عليكم ولكن مكشوفاً مشهوراً تجاهرونني به. {ثُمَّ اقضوا إِلَىَّ} ذلك الأمر الذي تريدون بي، أي: أدّوا إليَّ قطعه وتصحيحه، كقوله تعالى: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر} [الحجر: 66] أو أدّوا إليّ ما هو حق عليكم عندكم من هلاكي كما يقضي الرجل غريمه. {وَلاَ تُنظِرُونَ} ولا تمهلوني...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والمعنى: يا قوم إن كنتم تستضعفون حالي ودعائي لكم إلى الله فإني لا أبالي بكم لتوكلي على الله تعالى فافعلوا ما قدرتم عليه
اعلم أنه سبحانه لما بالغ في تقرير الدلائل والبينات، وفي الجواب عن الشبه والسؤالات، شرع بعد ذلك في بيان قصص الأنبياء عليهم السلام لوجوه: أحدها: أن الكلام إذا أطال في تقرير نوع من أنواع العلوم، فربما حصل نوع من أنواع الملالة فإذا انتقل الإنسان من ذلك الفن من العلم إلى فن آخر، انشرح صدره وطاب قلبه ووجد في نفسه رغبة جديدة وقوة حادثة وميلا قويا. وثانيها: ليكون للرسول عليه الصلاة والسلام ولأصحابه أسوة بمن سلف من الأنبياء، فإن الرسول إذا سمع أن معاملة هؤلاء الكفار مع كل الرسل ما كانت إلا على هذا الوجه خف ذلك على قلبه، كما يقال: المصيبة إذا عمت خفت. وثالثها: أن الكفار إذا سمعوا هذه القصص، وعلموا أن الجهال، وإن بالغوا في إيذاء الأنبياء المتقدمين إلا أن الله تعالى أعانهم بالآخرة ونصرهم وأيدهم وقهر أعداءهم، كان سماع هؤلاء الكفار لأمثال هذه القصص سببا لانكسار قلوبهم، ووقوع الخوف والوجل في صدورهم، وحينئذ يقللون من أنواع الإيذاء والسفاهة. ورابعها: أنا قد دللنا على أن محمدا عليه الصلاة والسلام لما لم يتعلم علما، ولم يطالع كتابا ثم ذكر هذه الأقاصيص من غير تفاوت، ومن غير زيادة ومن غير نقصان، دل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم إنما عرفها بالوحي والتنزيل.
واعلم أنه تعالى ذكر في هذه السورة من قصص الأنبياء عليهم السلام ثلاثة.
فالقصة الأولى: قصة نوح عليه السلام، وهي المذكورة في هذه الآية، وفيها وجهان من الفائدة: الأول: أن قوم نوح عليه السلام لما أصروا على الكفر والجحد عجل الله هلاكهم بالغرق. فذكر الله تعالى قصتهم لتصير تلك القصة عبرة لهؤلاء الكفار، وداعية إلى مفارقة الجحد بالتوحيد والنبوة. والثاني: أن كفار مكة كانوا يستعجلون العذاب الذي يذكره الرسول عليه السلام لهم وكانوا يقولون له كذبت، فإنه ما جاءنا هذا العذاب، فالله تعالى ذكر لهم قصة نوح عليه السلام لأنه عليه السلام كان يخوفهم بهذا العذاب وكانوا يكذبونه فيه، ثم بالآخرة وقع كما أخبر فكذا ههنا.
المسألة الثانية: أن نوحا عليه السلام قال لقومه: {إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت} وهذا جملة من الشرط والجزاء، أما الشرط فهو مركب من قيدين:
القيد الأول: قوله: {إن كان كبر عليكم مقامي} قال الواحدي في البسيط يقال: كبر يكبر كبرا في السن، وكبر الأمر والشيء إذا عظم يكبر كبرا وكبارة. قال ابن عباس: ثقل عليكم وشق عليكم وعظم أمره عندكم والمقام بفتح الميم مصدر كالإقامة. يقال: أقام بين أظهرهم مقاما وإقامة، والمقام بضم الميم الموضع الذي يقام فيه، وأراد بالمقام ههنا مكثه ولبثه فيهم وبالجملة فقوله: {كبر عليكم مقامي} جار مجرى قولهم: فلان ثقيل الظل.
واعلم أن سبب هذا الثقل أمران: أحدهما: أنه عليه السلام مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما. والثاني: أن أولئك الكفار كانوا قد ألفوا تلك المذاهب الفاسدة والطرائق الباطلة. والغالب أن من ألف طريقة في الدين فإنه يثقل عليه أن يدعى إلى خلافها، ويذكر له ركاكتها، فإن اقترن بذلك طول مدة الدعاء كان أثقل وأشد كراهية، فإن اقترن به إيراد الدلائل القاهرة على فساد تلك المذهب كانت النفرة أشد فهذا هو السبب في حصول ذلك الثقل.
والقيد الثاني: هو قوله: {وتذكيري بآيات الله}.
واعلم أن الطباع المشغوفة بالدنيا الحريصة على طلب اللذات العاجلة تكون شديدة النفرة عن الأمر بالطاعات والنهي عن المعاصي والمنكرات، قوية الكراهة لسماع ذكر الموت وتقبيح صورة الدنيا ومن كان كذلك فإنه يستثقل الإنسان الذي يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر وفي الآية وجه آخر وهو أن يكون قوله: {إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله} معناه أنهم كانوا إذا وعظوا الجماعة قاموا على أرجلهم يعظونهم ليكون مكانهم ظاهرا وكلامهم مسموعا، كما يحكى عن عيسى عليه السلام أنه كان يعظ الحواريين قائما وهم قعود.
واعلم أن هذا هو الشرط المذكور في هذه الآية، أما الجزاء ففيه قولان:
القول الأول: أن الجزاء هو قوله: {فعلى الله توكلت} يعني أن شدة بغضكم لي تحملكم على الإقدام على إيذائي وأنا لا أقابل ذلك الشر إلا بالتوكل على الله.
واعلم أنه عليه السلام كان أبدا متوكلا على الله تعالى، وهذا اللفظ يوهم أنه توكل على الله في هذه الساعة، لكن المعنى أنه إنما توكل على الله في دفع هذا الشر في هذه الساعة.
والقول الثاني: وهو قول الأكثرين إن جواب الشرط هو قوله: {فأجمعوا أمركم وشركاءكم} وقوله: {فعلى الله توكلت} كلام اعترض به بين الشرط وجوابه كما تقول في الكلام إن كنت أنكرت علي شيئا فالله حسبي فاعمل ما تريد، واعلم أن جواب هذا الشرط مشتمل على قيود خمسة على الترتيب.
القيد الأول: قوله: {فأجمعوا أمركم} وفيه بحثان:
البحث الأول: قال الفراء: الإجماع الإعداد والعزيمة على الأمر...
فإذا أردت جمع التفرق قلت: جمعت القوم فهم مجموعون، وقال أبو الهيثم: أجمع أمره، أي جعله جميعا بعد ما كان متفرقا، قال: وتفرقه، أي جعل يتدبره فيقول: مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا فلما عزم على أمر واحد فقد جمعه، أي جعله جميعا فهذا هو الأصل في الإجماع، ومنه قوله تعالى: {وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم} ثم صار بمعنى العزم حتى وصل بعلى فقيل: أجمعت على الأمر، أي عزمت عليه، والأصل أجمعت الأمر.
البحث الثاني: روى الأصمعي عن نافع {فاجمعوا أمركم} بوصل الألف من الجمع وفيه وجهان: الأول: قال أبو علي الفارسي: فاجمعوا ذوي الأمر منكم فحذف المضاف، وجرى على المضاف إليه ما كان يجري على المضاف لو ثبت. الثاني: قال ابن الأنباري: المراد من الأمر ههنا وجوه كيدهم ومكرهم، فالتقدير: ولا تدعوا من أمركم شيئا إلا أحضرتموه.
والقيد الثاني: قوله: {وشركاءكم} وفيه أبحاث:
البحث الأول: الواو ههنا بمعنى مع، والمعنى: فأجمعوا أمركم مع شركائكم...
البحث الثاني: يحتمل أن يكون المراد من الشركاء الأوثان التي سموها بالآلهة، ويحتمل أن يكون المراد منها من كان على مثل قولهم ودينهم، فإن كان المراد هو الأول فإنما حث الكفار على الاستعانة بالأوثان بناء على مذهبهم من أنها تضر وتنفع، وإن كان المراد هو الثاني فوجه الاستعانة بها ظاهر...
إنه [نوح] عليه السلام قال: في أول الأمر فعلى الله توكلت فإني واثق بوعد الله جازم بأنه لا يخلف الميعاد ولا تظنوا أن تهديدكم إياي بالقتل والإيذاء يمنعني من الدعاء إلى الله تعالى، ثم إنه عليه السلام أورد ما يدل على صحة دعوته فقال: « فأجمعوا أمركم» فكأنه يقول لهم أجمعوا كل ما تقدرون عليه من الأسباب التي توجب حصول مطلوبكم ثم لم يقتصر على ذلك بل أمرهم أن يضموا إلى أنفسهم شركاءهم الذين كانوا يزعمون أن حالهم يقوى بمكانتهم وبالتقرب إليهم، ثم لم يقتصر على هذين بل ضم إليهما ثالثا وهو قوله: {ثم لا يكن أمركم عليكم غمة} وأراد أن يبلغوا فيه كل غاية في المكاشفة والمجاهرة، ثم لم يقتصر على ذلك حتى ضم إليها رابعا فقال: {ثم اقضوا إلي} والمراد أن وجهوا كل تلك الشرور إلى، ثم ضم إلى ذلك خامسا. وهو قوله: {ولا تنظرون} أي عجلوا ذلك بأشد ما تقدرون عليه من غير إنظار فهذا آخر هذا الكلام، ومعلوم أن مثل هذا الكلام يدل على أنه عليه السلام كان قد بلغ الغاية في التوكل على الله تعالى وأنه كان قاطعا بأن كيدهم لا يصل إليه ومكرهم لا ينفذ فيه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تقدم سؤالهم الإتيان بما يقترحون من الآيات، ومضت الإشارة إلى أن تسييرهم في الفلك من أعظم الآيات وإن كانوا لإلفهم له قد نسوا ذلك، وتناسجت الآي كما سلف إلى أن بين هذا أن متاع المفترين الكذبَ قليل تخويفاً من شديد السطوة وعظيم الأخذ، عقب ذلك بقصة قوم نوح لأنهم كانوا أطول الأمم الظالمة مدة وأكثرهم عدة، ثم أخذوا أشد أخذ فزالت آثارهم وانطمست أعلامهم ومنارهم فصاروا كأنهم لم يكونوا أصلاً ولا أظهروا قولاً ولا فعلاً، فقال تعالى عاطفاً على قوله {قل إن الذين} مسلياً لنبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لأن المصيبة إذا عمت خفت، وتخويفاً للكفار ليرجعوا أو يخفوا من أذاهم: {واتل} أي اقرأ قراءة متتابعة مستعلية {عليهم نبأ نوح} أي خبره العظيم مذكراً بأول كون الفلك وأنه كان إذ ذاك آية غريبة خارقة للعادة عجيبة، وأن قوم نوح لم ينفعهم ذلك ولا أغنى عنهم افتراءهم وعنادهم مع تطاول الأمد وتباعد المدد، بل صار أمرهم إلى زوال، وأخذ عنيف ونكال {كأن لم يلبثوا إلاّ ساعة من النهار يتعارفون بينهم} [يونس: 45] مع نجاة رسولهم وخيبة مأمولهم، قد لبث فيهم ما لم يلبثه نبي في قولهم ولا رسول في أمته ألف سنة إلاّ خمسين عاماً، وما آمن معه إلاّ قليل {إذ قال لقومه} أي بعد أن دعاهم إلى الله فأطال دعاءهم ومتعوا في الدنيا كثيراً وأملى لهم طويلاً فما زادهم ذلك إلا نفوراً {يا قوم} أي يا من يعز عليّ خلافهم ويشق عليّ ما يسوءهم لتهاونهم بحق ربهم مع قوتهم على الطاعة {إن كان كبر} أي شق وعظم مشقة صارت جبلة {عليكم} ولما كانت عادة الوعاظ والخطباء أن يكونوا حال الخطبة واقفين، قال: {مقامي} أي قيامي، ولعله خص هذا المصدر لصلاحيته لموضع القيام وزمانه فيكون الإخبار بكراهته لأجل ما وقع فيه من القيام أدل على كراهة القيام {وتذكيري} أي بكم {بآيات الله} أي الذي له الجلال والإكرام، فإن ذلك لا يصدني عن مجاهدتي بما يكبر عليكم من ذلك خوفاً منكم لأن الله أمرني به وأنا أخاف عذابه إن تركت، ولا أبالي بكراهيتكم لذلك خوف عاقبة قصدكم لي بالأذى {فعلى} أي فإني على {الله} أي الذي له العزة كلها وحده {توكلت} فإقامة ذلك مقام الجزاء من إطلاق السبب -الذي هو التوكل- على المسبب -الذي هو انتفاء الخوف- مجازاً مرسلاً، إعلاماً لهم بعظمة الله وحقارتهم بسبب أنهم أعرضوا عن الآيات وهم يعرفونها، بما دل عليه التعبير بالتذكير، فدل ذلك على عنادهم بالباطل، والمبطل لا يخشى أمره لأن الباطل لا ثبات له، ودل على ذلك بقوله: {فأجمعوا أمركم} أي في أذاي بالإهلاك وغيره، أعزموا عليه وانووه واجزموا به، والواو بمعنى "مع "في قوله: {وشركآءكم} ليدل على أنه لا يخافهم وإن كانوا شركاءهم أحياء كائنين من كانوا وكانت كلمتهم واحدة لا فرقة فيها بوجه.
ولما كان الذي يتستر بالأمور بما يفوته بعض المقاصد لاشتراط التستر، أخبرهم أنه لا يمانعهم سواء أبدوا أو أخفوا فقال: {ثم لا يكن} أي بعد التأبي وطول زمان المجاوزة في المشاورة {أمركم} أي الذي تقصدونه بي {عليكم غمة} أي خفياً يستتر عليكم شيء منه بسبب ستر ذلك عني لئلا أسعى في معارضتكم، فلا تفعلوا ذلك بل جاهروني به مجاهرة فإنه لا معارضة لي بغير الله الذي يستوي عنده السر والعلانية؛ والتعبير ب {ثم} إشارة إلى التأني وإتقان الأمر للأمان من معارضته بشيء من حول منه أو قوة {ثم اقضوا} ما تريدون، أي بتوه بتة المقضي إليه واصلاً {إلي}.
ولما كان ذلك ظاهراً في الإنجاز وليس صريحاً، صرح به في قوله: {ولا تنظرون} أي ساعة ما، وكل ذلك لإظهار قلة المبالاة بهم للاعتماد على الله لأنه لا يعجزه شيء ومعبوداتهم لا تغني شيئاً؛ ثم سبب عن ذلك قوله: {فإن توليتم}
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وفي ذلك من تقرير ما سبق من كون الكل لله سبحانه، واختصاص العزة به تعالى، وانتفاء الخوف على أوليائه وحزنهم، وتشجيع النبي صلى الله عليه وسلم وحمله على عدم المبالاة بهم وبأقوالهم وأفعالهم ما لا يخفى...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذا سياق جديد متصل بما سبق من مقاصد هذه السورة أتم الاتصال، بتفصيله لبعض ما فيها من إجمال، وهو الاحتجاج على مشركي مكة وما حولها وسائر من تبلغهم الدعوة من المكذبين، بأن الله تعالى سيخذلهم وينصر رسوله عليهم كما نصر من قبله من الرسل على أقوامهم المجرمين، فأهلكهم وأنجى المؤمنين.
فقد تقدم في أوائلها قوله: {ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا} إلى آخر الآية 14، ثم قال في الرد على تكذيبهم إياه بما وعدهم من العذاب {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يونس: 39] ثم قال: {ولِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [يونس: 47] جاء هذا في سياق إقامة الحجج العقلية على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوى الوحي، وكون القرآن من عند الله لا من عنده ورأيه وكلامه، والحجج على مضمون الدعوى من التوحيد والرسالة والبعث والجزاء والتفنن فيها، والتكرار البليغ لمقاصدها، وإنذار أولئك المكذبين بها، فناسب أن يفصل لهم شيئا من ذلك الإجمال من هذا الوجه، فجاء به معطوفا؛ لأنه مرتبط به متمم له، بخلاف سرد قصص الرسل في سورة الأعراف حيث بدأه بقوله: {لقد أرسلنا نوحا إلى قومه} [الأعراف: 59]؛ لأن هذه القصص أوردت هناك مستقلة، لا تفسيرا ولا تفصيلا لجمل قبلها، وأما مناسبة هذه الآيات لما قبلها مباشرة بكونها من جنس موضوعها العام فلا تدل على هذه الخصوصية العلمية التي بها كانت البلاغة فلسفة عقلية نفسية.
قال عز وجل: {واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} أي واقرأ أيها الرسول على هؤلاء المشركين المكذبين لك من قومك -فيما أوعدتهم من عقاب الله لهم على سابق سنته في المكذبين لرسله من قبلك- خبر نوح ذي الشأن العظيم {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ} أي نبأه حين قال لهم هذا القول فكذبوه، فأغرقناهم ونجيناه هو ومن آمن معه، وجعلناهم خلائف الأرض، لا جميع أنباء قصته معهم (المفصلة في سورة هود التي نزلت قبل هذه السورة ووضعت بعدها في المصحف)، ليعلموا من هذا النبأ الخاص سنته تعالى في نصر رسله على المكذبين من قبلهم، وأنه كذلك ينصرك عليهم، فيهلك المكذبين لك المغرورين بكثرتهم وقوتهم، وقلة من اتبعك وضعفهم، وأن هؤلاء الضعفاء سيكونون خلائف الأرض في قومهم وغير قومهم من سكان الأرض، قال نوح عليه السلام لقومه بعد أن طال مكثه فيهم يدعوهم إلى توحيد الله وعبادته وحده والإصلاح في الأرض فملوا مقامه، وسئموا وعظه، وائتمروا به: يا قومي إن كان قد كبر -أي شق وعظم- عليكم قيامي فيكم، أو مكاني من القيام بما أقوم به من دعوتكم إلى عبادة ربكم، وتذكيري إياكم بآياته الدالة على وحدانيته، ووجوب عبادته وشكره، والرجاء في ثوابه للمؤمنين المتقين، أو الخوف من عقابه للمشركين المجرمين التذكير يطلق على الإعلام بالآيات والدلائل في أنفس الناس وفي الآفاق فيدركها العقل وتقتضيها الفطرة، حتى يكون بيانها تذكيرا أو كالتذكير لمن فقهها بشيء كان يعرفه بالقوة، فعرفه بالفعل، ويطلق على الوعظ والنصح المشتمل على عواقب الأمور، وسيأتي في السورة التالية قوله لهم: {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم} [هود: 34] الآية.
{فَعَلَى اللّهِ تَوكَّلْتُ} دون غيره من المؤمنين الذين تستضعفونهم، أي إن كان كبر عليكم ذلك وأردتم التقصي منه بالإيقاع بي فإنني قد وكلت أمري إلى الله الذي أرسلني، واعتمدت عليه وحده بعد أن أديت رسالته بقدر طاقتي.
{فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ و َشُرَكَاءكُمْ} من أجمع الأمر كالسفر والصيام وغيرهما، وأجمع عليه إذا عزم عليه عزما لا تردد فيه. قيل أصله جمع ما تفرق من أسبابه ومقدماته، وأجمع القوم على الشيء اتفقوا عليه كلهم لم يشذ أحد منهم، أي أجمعوا ما تريدون من أمركم من شركائكم الذين تعبدونهم من دون الله لا تتفرقوا فيه، وقيل: التقدير وادعوا شركاءكم ليعينوكم كما تزعمون، كما أدعو ربي وأتوكل عليه.
{ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ} الذي تعتزمونه {عَلَيْكُمْ غُمَّةً} أي خفيا، فيه شيء من الحيرة أو اللبس الذي يقتضي التردد في الإنفاذ، بعد العزم والإجماع، بل كونوا على علم وبصيرة فيه لكيلا تتحولوا عنه بظهور الخطأ أو التردد في كونه هو الصواب.
{ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ} ذلك الأمر بعد إجماعه واعتزامه وبعد استبانته التامة التي لا غمة فيها ولا التباس بأن تنفذوه بالفعل، فالقضاء يطلق بمعنى أداء الشيء وتنفيذه وإتمامه ومنه {فلما قضي موسى الأجل} [القصص: 39] {فمنهم من قضى نحبه} [الأحزاب: 23] {فلما قضى زيد منها وطرا} [الأحزاب: 37] وتعديته بإلى لإفادة إبلاغه وإيصاله إلى متعلقه بالفعل، كما قال في أوائل السورة {ولَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11]، ويطلق بمعنى الحكم بالشيء وإذا عدي هذا بإلى يفيد تبليغ خبره كقوله تعالى: {وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب} [الإسراء: 4] الخ، وقوله: {وقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} [الحجر: 66] {ولاَ تُنظِرُونِ} أي لا تمهلوني بتأخير هذا القضاء وتنفيذه بعد استيفاء تلك المقدمات كلها.
هذه الآية من أبلغ آيات القرآن عبارة، وأجمعها على إيجازها للمعاني الكثيرة من علم النفس، ودرجة إيمان الأنبياء المرسلين وثقتهم بالله عز وجل، وشجاعتهم واحتقارهم لكل ما في الحياة الدنيا من أسباب الخوف من غيره والرجاء فيما سواه، وبيان خاتمهم لسنته تعالى فيهم وفي أقوامهم، وحسن وعظه لهم بوحي ربه تعالى، فهو يضرب لحاله ومقامه معهم مثل نوح مع قومه في غرور كل منهم بكثرتهم وقوتهم وتكذيبهم واحتقارهم لرسوله ولمن آمن معه من الضعفاء والفقراء، ولما يعتز به كل من الرسولين من التوكل على الله، والاعتماد عليه في النصر والعزة وحسن العاقبة، والجزم بإهلاك المصرين على تكذيبه ونجاة المؤمنين المتبعين له بجعلهم خلائف الأرض وأصحاب السلطان فيها.
صورت الآية لأهل مكة البلغاء هذه المعاني بمطالبة نوح عليه السلام لقومه على كثرتهم وقوتهم المشهور في تواريخ الأمم وظواهر الكتب المقدسة أنهم جميع أهل الأرض بأن يفعلوا ما استطاعوا من الإيقاع به واكتفاء أمره، والاستراحة من دعوته، مطالبة القوي العزيز المدل ببأسه، المعتصم بإيمانه بوعد ربه وتوكله عليه، للضعيف العاجز عن تنفيذ مراده مهما يكن من استيفائه لجميع أسبابه الطبيعية والكسبية، إذ أمرهم في المرتبة الأولى بإجماع أمرهم بالعزيمة الصادقة وقوة الإرادة الجازمة حتى لا يكون شيء من موجباتها متفرقا بينهم، وأن يضموا إلى هذه القوة النفسية الكسبية قوة الإيمان المعنوية بشركائهم وآلهتهم، ولما كانت العزيمة الصادقة المجمعة قد يعرض لها الوَهن أو العلل المقتضية للفسخ قبل التنفيذ نهاهم أن يكون في أمرهم الذي أجمعوا شيء من الغمة والخفاء الذي يقتضي ذلك.
فإن قيل: إن إجماع العزم في الأمر لا يكون بعد الجزم بالعلم بالمقتضى له الباعث عليه، إذ لو كان الأمر غمة امتنع إجماعه كما يمتنع إجماع الصيام من الليل في أول رمضان إذا غم الهلال في ليلة الثلاثين من شعبان، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين" رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة ورواه غيرهم عن غيره، فالأمر بإجماع الأمر يغني عن النهي أن يكون غمة، فما حكمة ذكره بعده، وعطفه عليه بثم الدالة على تأخره عنه في الرتبة؟ قلت: يكفي في إجماع الأمر على الإيقاع بنوح عليه السلام أن يعتقدوا أنه مصلحة لهم غير معارضة بمفسدة أرجح منها، وهذا لا يمنع أن يعرض لهم قبل تنفيذه شيء من الغمة والحيرة المقتضية للفسخ أو التردد، فمن ثم اقتضت المبالغة في أمر التعجيز المذكور أن يؤكد بهذا النهي عن الغمة في المستقبل، واقتضت البلاغة أن يعطف بثم؛ لأن مرتبته متأخرة عن مرتبة ذلك الأمر وما يستلزمه من العلم بالمقتضي له، كما أن مرتبة قضاء ذلك الأمر وتنفيذه متأخرة عن مرتبة الأمر الأول والنهي كلتيهما، ولذلك عطفا عليها معا بثم، وأكد هذا الأمر الثاني بالنهي عن الإنظار معطوفا بالواو التي تفيد مطلق الجمع لاتحاد زمنهما ورتبتهما فلا ترتيب بينهما.
وقرأ نافع (فاجمَعوا أمركم) بوصل الهمزة وفتح الميم من الجمع، أي اجمعوا ما تفرق منه، وعلى هذا يكون قوله: {وشركاءَكم} مفعولا به معطوفا عليه، لا مفعولا معه، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأبو عبد الرحمن السلمي وعيسى الثقفي: {وشركاءُكم} بالرفع، أي أنتم وشركاءكم، وهذه القراءة شاذة مخالفة لخط المصحف الإمام، فلا تتلى في الصلاة. وقرئ "أفضوا إلي "من الإفضاء إلى الشيء، وهو الوصول والانتهاء إليه مباشرة، والظاهر أنها تصحيف، وإن كان المعنى المراد واحدا لا يختلف.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وقد بادأ قومه بتسفيه آرائهم، وفساد دينهم، وعيب آلهتهم. وقد حملوا من بغضه، وعداوته ما هو أعظم من الجبال الرواسي، وهم أهل القدرة والسطوة، وهو يقول لهم: اجتمعوا أنتم وشركاؤكم ومن استطعتم، وأبدوا كل ما تقدرون عليه من الكيد، فأوقعوا بي إن قدرتم على ذلك، فلم يقدروا على شيء من ذلك. فعلم أنه الصادق حقًا، وهم الكاذبون فيما يدعون.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن الحلقة التي تعرض هنا من قصة نوح، هي الحلقة الأخيرة: حلقة التحدي الأخير، بعد الإنذار الطويل والتذكير الطويل والتكذيب الطويل. ولا يذكر في هذه الحلقة موضوع السفينة ولا من ركب فيها ولا الطوفان، ولا التفصيلات في تلك الحلقة، لأن الهدف هو إبراز التحدي والاستعانة باللّه وحده، ونجاة الرسول ومن معه وهم قلة، وهلاك المكذبين له وهم كثرة وقوة. لذلك يختصر السياق هنا تفصيلات القصة إلى حلقة واحدة. ويختصر تفصيلات الحلقة الواحدة إلى نتائجها الأخيرة، لأن هذا هو مقتضى السياق في هذا الموضع... إنه التحدي الصريح المثير، الذي لا يقوله القائل إلا وهو مالئ يديه من قوته، واثق كل الوثوق من عدته، حتى ليغري خصومه بنفسه، ويحرضهم بمثيرات القول على أن يهاجموه! فماذا كان وراء نوح من القوة والعدة؟ وماذا كان معه من قوى الأرض جميعاً؟ كان معه الإيمان.. القوة التي تتصاغر أمامها القوى، وتتضاءل أمامها الكثرة، ويعجز أمامها التدبير. وكان وراءه اللّه الذي لا يدع أولياءه لأولياء الشيطان! إنه الإيمان باللّه وحده ذلك الذي يصل صاحبه بمصدر القوة الكبرى المسيطرة على هذا الكون بما فيه ومن فيه. فليس هذا التحدي غروراً، وليس كذلك تهوراً، وليس انتحاراً. إنما هو تحدي القوة الحقيقية الكبرى للقوى الهزيلة الفانية التي تتضاءل وتتصاغر أمام أصحاب الإيمان وأصحاب الدعوة إلى اللّه لهم أسوة حسنة في رسل اللّه.. وإنه لينبغي لهم أن تمتلئ قلوبهم بالثقة حتى تفيض. وإن لهم أن يتوكلوا على اللّه وحده في وجه الطاغوت أياً كان! ولن يضرهم الطاغوت إلاّ أذى -ابتلاء من اللّه لا عجزاً منه سبحانه عن نصرة أوليائه، ولا تركاً لهم ليسلمهم إلى أعدائه. ولكنه الابتلاء الذي يمحص القلوب والصفوف. ثم تعود الكرة للمؤمنين. ويحق وعد اللّه لهم بالنصر والتمكين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ففي ذكر عاقبة قوم نوح عليه السلام تعريض للمشركين بأن عاقبتهم كعاقبة أولئك أو أنهم إنما يمتعون قليلاً ثم يؤخذون أخذة رابية، كما متع قوم نوح زمناً طويلاً ثم لم يفلتوا من العذاب في الدنيا، فذكر قصة نوح مع قومه عِظة للمشركين وملقياً بالوجل والذعر في قلوبهم، وفي ذلك تأنيس للرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين بأنهم إسوة بالأنبياء، والصالحين من أقوامهم... وخَص بالذكر من أحواله فيهم تذكيره إياهم بآيات الله، لأن ذلك من أهم شؤونه مع قومه،... وآيات الله: دلائل فضله عليهم، ودلائل وحدانيته، لأنهم لما أشركوا بالله فقد نسوا تلك الدلائل، فكان يذكرهم بها، وذلك يُبرمهم ويحرجهم...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
فعن قصة نوح عليه السلام نبه كتاب الله إلى أن نوحا بعدما طالت إقامته بين قومه، وطال تذكيره لهم دون جدوى دعاهم إلى اتخاذ موقف صريح وحاسم تجاه الدعوة التي جاءهم بها، وأشعرهم بأنه لا ينبغي لهم الاستمرار على التردد والغموض، فإما أن يعلنوا قبول دعوته نهائيا، على أساس أن دعوته حق وصدق، وإما أن يعلنوا رفضها بالمرة، ويتحملوا جميع النتائج الناشئة عن وقوفهم في وجهها، وأخبرهم نوح عليه السلام أنه لا يتهيب أي موقف يتخذونه ضده، فهو متوكل على الله، معتصم بحبله، ممتثل لأمره...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وتلك هي مهمّة الرسول، أن يفتح العقول للتأمّل والتفكير، وأن يفتح الساحة للحوار والمناقشة، بعيداً عن كل الضغوط النفسية والعمليّة، لأنه هو الذي يتحمل مسؤولية شق الطريق إلى الهدف، فلا يمكن أن يتراجع تحت تأثير أيّة حالةٍ مضادةٍ، ولهذا وقف نوح معهم الموقف الذي يوحي بالقوّة المرتكزة على قاعدة التوكل على الله ومواجهة كل التحديات في الساحة من قبلهم {فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} في موقفي في حركة الرسالة نحو الدعوة والتغيير مهما كانت ردود فعلكم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إِنّ نوحاً رسول الله الكبير صمد مقابل أعداءه الأقوياء المعاندين وواجههم بقاطعية وحزم وفي منتهى الشجاعة والشهامة مع أصحابه القليلين الذين كانوا معه، وكان يستهزئ بقواهم ويريهم عدم اهتمامه بخططهم وأفكارهم وأصنامهم، وبهذه الطريقة كان يوجه ضربة نفسية عنيفة إِلى أفكارهم. وإِذا علمنا أنّ هذه الآيات نزلت في مكّة في الوقت الذي كان يعيش فيه النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ظروفاً تشبه ظروف نوح، وكان المؤمنون قلّة، سيتّضح أنّ القرآن يريد أن يعطي للنّبي أيضاً نفس هذا الدرس بأنّ لا يهتم بقدرة العدو، بل يسير ويتقدم بكل حزم وجرأة وشجاعة، لأنّ الله يسنده وينصره، ولا تستطيع أية قوّة أن تقف في مقابل قدرته. ومع أنّ بعض المفسّرين اعتبر تعبير نوح هذا أو أمثاله في تاريخ سائر الأنبياء نوعاً من الإِعجاز، لأنّهم مع عدم امتلاكهم الإِمكانيات الظاهرية فإِنّهم كانوا يهدّدون العدو بالهزيمة، وأعلنوا خبر انتصارهم النهائي، وهذا لا يمكن قبوله إلاّ عن طريق الإِعجاز، إلاّ أنّ هذا على كل حال درس كبير لكل القادة الإِسلاميين بأن لا يخافوا ولا ينهاروا أمام عظمة الأعداء وكثرتهم، بل إِنّهم باتكالهم على الله كانوا يدعون هؤلاء إِلى الميدان بكل حزم واقتدار ويستصغرون قوتهم، فكان هذا عاملا مهمّاً في تقوية معنويات الأتباع والمؤيدين، وتدمير معنويات العدو وانهيارها...