المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِۦٓ أَعۡمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ أَعۡمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلٗا} (72)

وقوله { ومن كان } ، الآية ، قال محمد بن أبي موسى{[7645]} : الإشارة بهذه إلى النعم التي ذكرها في قوله { ولقد كرمنا بني آدم } أي من عمي عن شكر هذه النعم والإيمان لمسديها ، فهو في أمور الآخرة وشأنها { أعمى } .

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل { أعمى } الثاني أن يكون بمنزلة الأول ، على أنه تشبيه بأعمى البصر ، ويحتمل أن يكون صفة تفضيل ، أي أشد عمى ، والعمى في هذه الآية هو عمى القلب في الأول والثاني ، وقال ابن عباس ومجاهد قتادة وابن زيد : الإشارة بهذه إلى الدنيا ، أي من كان في هذه الدار أعمى عن النظر في آيات الله وعبره والإيمان بأنبيائه ، فهو في الآخرة أعمى ؛ إما أن يكون على حذف مضاف ، أي في شأن الآخرة ، وإما أن يكون : فهو في يوم القيامة أعمى ، على معنى أنه حيران ، لا يتوجه له صواب ، ولا يلوح له نجح ، قال مجاهد «فهو في الآخرة أعمى » عن حجته .

قال القاضي أبو محمد : والظاهر عندي أن الإشارة ب { هذه } إلى الدنيا ، أي من كان في دنياه هذه ووقت إدراكه وفهمه أعمى عن النظر في آيات الله ، فهو في يوم القيامة أشد حيرة وأعمى ، لأنه قد باشر الخيبة ، ورأى مخايل العذاب ، وبهذا التأويل ، تكون معادلة للتي قبلها ، من ذكر من يؤتى كتابه بيمينه ، وإذا جعلنا قوله { في الآخرة } بمعنى في شأن الآخرة ، لم تطرد المعادلة بين الآيتين . وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم : «أعمى » في الموضعين ، بغير إمالة ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم بخلاف عنه في الموضعين بإمالة ، وقرأ أبو عمرو بإمالة الأول وفتح الثاني ، وتأوله بمعنى أشد عمى ، ولذلك لم يمله ، قال أبو علي : لأن الإمالة إنما تحسن في الأواخر ، و { أعمى } ليس كذلك لأن تقديره أعمى من كذا ، فليس يتم إلا في قولنا من كذا ، فهو إذاً ليس بآخر ، ويقوي هذا التأويل قوله عطفاً عليه { وأضل سبيلاً } فإنما عطف { أضل } الذي هو أفعل من كذا على ما هو شبيه به ، وإنما جعله في الآخرة { أضل سبيلا } ، لأن الكافر في الدنيا يمكن أن يؤمن فينجو ، وهو في الآخرة ، لا يمكنه ذلك ، فهو { أضل سبيلاً } ، وأشد حيرة ، وأقرب إلى العذاب ، وقول سيبويه رحمه الله : لا يقال أعمى من كذا كما يقال ما أبداه{[7646]} ، إنما هو في عمى العين الذي لا تفاضل فيه ، وأما في عمى القلب فيقال ذلك لأنه يقع فيه التفاضل ، وذكر مكي في هذه الآية ، أن العمى الأول هو عمى العين عن الهدى وهذا بين الاختلال ، والله المعين .


[7645]:قال عنه الحافظ ابن حجر العسقلاني في تقريب التهذيب: "مستور، من الرابعة".
[7646]:قال سيبويه: إن عمى العين خلقة بمنزلة اليد والرجل، فلا يقال: ما أعماه، كما لا يقال: ما أيداه، لأنه لا يقبل التفاضل.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِۦٓ أَعۡمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ أَعۡمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلٗا} (72)

عطف { ومن كان في هذه أعمى } عطف القسيم على قسيمه فهو من حَيز « أما » التفصيلية ، والتقدير : وأما من كان في هذه أعمى ، ولما كان القسيم المعطوف عليه هم من أوتوا كتابهم باليمين علم أن المعطوف بضد ذلك يؤتى كتابه بالشمال فاستغني عن ذكر ذلك وأتي له بصلة أخرى وهي كونه أعمى حكماً آخر من أحواله الفظيعة في ذلك اليوم .

والإشارة ب { هذه } إلى معلوم من المقام وهو الدنيا ، وله نظائر في القرآن . والمراد بالعمى في الدنيا الضلالة في الدين ، أطلق عليها العمى على وجه الاستعارة .

والمراد بالعمى في الآخرة ما ينشأ عن العمى من الحيرة واضطراب البال ، فالأعْمَى أيضاً مستعار لمشابه الأعمى بإحدى العلاقتين .

ووصف { أعمى } في المرتين مراد به مجرد الوصف لا التفضيل . ولما كان وجه الشبه في أحوال الكافر في الآخرة أقوى منه في حاله في الدنيا أشير إلى شدة تلك الحالة بقوله : { وأضل سبيلاً } القائم مقام صيغة التفضيل في العمَى لكون وصف ( أعمى ) غير قابل لأن يصاغ بصيغة التفضيل لأنه جاء بصيغة التفضيل في حال الوصف .

وعدل عن لفظ ( أشد ) ونحوه ما يتوسل به إلى التفضيل عند تعذر اشتقاق صيغة ( أفعل ) ليتأتى ذكر السبيل ، لما في الضلال عن السبيل من تمثيل حال العمى وإيضاحه ، لأن ضلال فاقد البصر عن الطريق في حال السير أشد وقعاً في الأضرار منه وهو قابع بمكانه ، فعدل عن اللفظ الوجيز إلى التركيب المطنب لما في الإطناب من تمثيل الحال وإيضاحه وإفظاعه وهو إطناب بديع . وقد أفيد بذلك أن عماه في الدارين عمى ضلال عن السبيل الموصل . ومعنى المفاضلة راجع إلى مفاضلة إحدى حالتيه على الأخرى في الضلال وأثره لا إلى حال غيره . فالمعنى : وأضل سبيلا منه في الدنيا .

ووجه كون ضلاله في الآخرة أشد أن ضلاله في الدنيا كان في مكنته أن ينجو منه بطلب ما يرشده إلى السبيل الموصل من هدي الرسول والقرآن مع كونه خلياً عن لحاق الألم به ، وأما ضلاله في الآخرة فهو ضلال لا خلاصَ منه وهو مقارن للعذاب الدائم ، فلا جرم كان ضلاله في الآخرة أدخل في حقيقة الضلال وماهيته .