المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{بَلَىٰۚ مَنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ فَلَهُۥٓ أَجۡرُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (112)

{ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } ( 112 )

وقول اليهود { لن } نفي حسنت بعده { بلى } ، إذ هي رد بالإيجاب في جواب النفي( {[1134]} ) ، حرف مرتجل لذلك ، وقيل : هي «بل » زيدت عليها الياء لتنزيلها على حد النسق الذي في «بل » ، و { أسلم } معناه استسلم وخضع ودان ، ومنه قول زيد ابن عمرو بن نفيل :

[ المتقارب ] .

وأسلمت وجهي لمن أسلمت . . . له المزن تحمل عذباً زلالا( {[1135]} )

وخص الوجه بالذكر لكونه أشرف ما يرى من الإنسان وموضع الحواس وفيه يظهر العز والذل ، ولذلك يقال وجه الأمر أي معظمه وأشرفه ، قال الأعشى : [ السريع ] :

وأول الحكم على وجهه . . . ليس قضائي بالهوى الجائر( {[1136]} )

ويصح أن يكون الوجه في هذه الآية المقصد ، { وهو محسن } جملة في موضع الحال( {[1137]} ) ، وعاد الضمير في { له } على لفظ { من }( {[1138]} ) ، وكذلك في قوله { أجره } ، وعاد في { عليهم } على المعنى ، وكذلك في { يحزنون } ، وقرأ ابن محيصن «فلا خوف » دون تنوين في الفاء المرفوعة ، فقيل : ذلك تخفيف ، وقيل : المراد فلا الخوف فحذفت الألف واللام ، والخوف هو لما يتوقع ، والحزن هو لما قد وقع .

وقوله تعالى : { وقالت اليهود } الآية ، معناه ادعى كل فريق أنه أحق برحمة الله من الآخر .

وسبب الآية أن نصارى نجران اجتمعوا مع يهود المدينة عند النبي صلى الله عليه وسلم فتسابوا ، وكفر اليهود بعيسى وبملته وبالإنجيل ، وكفر النصارى بموسى وبالتوراة .

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا من فعلهم كفر كل طائفة بكتابها ، لأن الإنجيل يتضمن صدق موسى وتقرير التوراة ، والتوراة تتضمن التبشير بعيسى وبصحة نبوته ، وكلاهما تضمن صدق محمد صلى الله عليه وسلم ، فعنفهم الله تعالى على كذبهم ، وفي كتبهم خلاف ما قالوا .

وفي قوله : { وهم يتلون الكتاب } تنبيه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم على ملازمة القرآن والوقوف عند حدوده ، كما قال الحر بن قيس( {[1139]} ) في عمر بن الخطاب ، وكان وقافاً عند كتاب الله ، و { الكتاب } الذي يتلونه قيل : التوراة والإنجيل ، فالألف واللام للجنس ، وقيل : التوراة لأن النصارى تمتثلها ، فالألف واللام للعهد .


[1134]:- أي الإتباث لما نفوه من دخول غيرهم الحنة.
[1135]:- المزن: جمع مزنة وهي السحابة البيضاء. والبيت ضمن أبيات هي: وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخرا ثقالا  دحاها فلما رآها اســـتـــوت على الماء أرسى عليها الجبالا  وأسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عـــــذبا زلالا  إذا هي سيـــقـت إلى بلـــدة أطاعت فصبت عليها ســجالا  
[1136]:- البيت من قصيدة يهجو بها علقمة بن علالة، ويمدح عامر بن الطفيل في المنافرة التي جرت بينهما، ومطلع القصيدة: شاقتك من قتله أطلالها بالشط فالوتر إلى حاجر
[1137]:- قال أبو (ح) في البحر المحيط: "وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة الإحسان الشرعي حين سئل عن ماهيته المحيط: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). وقد فسر الإحسان بالإخلاص ، وفسر بالإيمان، وفسر بالقيام بالأوامر والانتهاء عن المناهي". اهـ 1/352. ويفهم من الآية أن العمل المقبول له شرطان: الإخلاص، وهو مفهوم من قوله عز وجل: (بلى من أسلم وجهه لله)، والصواب، أي موافقة الشريعة، وهو مفهوم من قوله سبحانه: (وهو محسن)، فمن كان عمله خالصا وموافقا للشريعة كان له أجره عند ربه.
[1138]:- وهذا هو الأفصح، وهو أن يبدأ أولا بالحمل على اللفظ، ثم يثنى بالحمل على المعنى. قاله أبو (ح).
[1139]:- الحر بن قيس هو ابن أخي غيينة بن حصن الفزاري، كان ضمن الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رجوعه من تبوك، وانظر حديثه في باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتاب الاعتصام من صحيح البخاري.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{بَلَىٰۚ مَنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ فَلَهُۥٓ أَجۡرُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (112)

{ بلى } إبطال لدعواهما . و ( بلي ) كلمة يجاب بها المنفي لإثبات نقيض النفي وهو الإثبات سواء وقعت بعد استفهام عن نفي وهو الغالب أو بعد خبر منفي نحو { أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى } [ القيامة : 3 ، 4 ] ، وقول أبي حية النميري :

يخبرك الواشون أن لن أحبكم *** بلى وستور الله ذات المحارم

وقوله : { من أسلم } جملة مستأنفة عن ( بلى ) لجواب سؤال من يتطلب كيف نقض نفي دخول الجنة عن غير هذين الفريقين أريد بها بيان أن الجنة ليست حكرة لأحد ولكن إنما يستحقها من أسلم إلخ لأن قوله : { فله أجره } هو في معنى له دخول الجنة وهو جواب الشرط لأن ( من ) شرطية لا محالة . ومن قدر هنا فعلاً بعد { بلى } أي يدخلها من أسلم فإنما أراد تقدير معنى لا تقدير إعراب إذ لا حاجة للتقدير هنا .

وإسلام الوجه لله هو تسليم الذات لأوامر الله تعالى أي شدة الامتثال لأن أسلم بمعنى ألقى السلاح وترك المقاومة قال تعالى : { فإن حاجّوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعني } [ آل عمران : 20 ] . والوجه هنا الذات عبر عن الذات بالوجه لأنه البعض الأشرف من الذات كما قال الشنفرى :

*إذا قطعوا رأسي وفي الرأس أكثري{[157]} *

ومن إطلاق الوجه على الذات قوله تعالى : { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } [ الرحمن : 27 ] . وأطلق الوجه على الحقيقة تقول جاء بالأمر على وجهه أي على حقيقته قال الأعشى :

وأول الحكم على وجهه *** ليس قضاء بالهوى الجائر

ووجوه الناس أشرافهم ويجوز أن يكون { أسلم } بمعنى أخلص مشتقاً من السلامة أي جعله سالماً ومنه { ورجلاً سلماً لرجل } [ الزمر : 29 ] .

وقوله : { وهو محسن } جيء به جملة حالية لإظهار أنه لا يغني إسلام القلب وحده ولا العمل بدون إخلاص بل لا نجاة إلا بهما ورحمة الله فوق ذلك إذ لا يخلو امرؤ عن تقصير .

وجمع الضمير في قوله : { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } اعتباراً بعموم ( من ) كما أفرد الضمير في قوله : { وجهه لله وهو محسن } اعتباراً بإفراد اللفظ وهذا من تفنن العربية لدفع سآمة التكرار .


[157]:- مصراع بيت وتمامه: * وغودر عند الملتقى ثم سائري *