روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{بَلَىٰۚ مَنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ فَلَهُۥٓ أَجۡرُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (112)

{ بلى } رد لقولهم الذي زعموه وإثبات لما تضمنه من نفي دخول غيرهم الجنة . والقول بأنه رد لما أشار إليه { قُلْ هَاتُواْ برهانكم } [ البقرة : 111 ] من نفي أن يكون لهم برهان مما لا وجه له ولا برهان عليه { مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } أي انقاد لما قضى الله تعالى وقدر ، أو أخلص له نفسه أو قصده فلم يشرك به تعالى غيره ، أو لم يقصد سواه فالوجه إما مستعار للذات وتخصيصه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء ومعدن الحواس وإما مجاز عن القصد لأن القاصد للشيء مواجه له { وَهُوَ مُحْسِنٌ } حال من ضمير { أَسْلَمَ } أي والحال إنه محسن في جميع أعماله ، وإذا أريد بما تقدم الشرك يؤول المعنى إلى : ( آمن وعمل الصالحات ) وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان بقوله : { أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك } { فَلَهُ أَجْرُهُ } أي الذي وعد له على ذلك لا الذي يستوجبه كما قاله الزمخشري رعاية لمذهب الاعتزال ، والتعبير عما وعد بالأجر إيذاناً بقوة ارتباطه بالعمل { عِندَ رَبّهِ } حال من أجره والعامل فيه معنى الاستقرار ، والعندية للتشريف ، والمراد عدم الضياع والنقصان ، وأتى بالرب مضافاً إلى ضمير { مَنْ أَسْلَمَ } إظهاراً لمزيد اللطف به وتقريراً لمضمون الجملة ، والجملة جواب { مِنْ } إن كانت شرطية وخبرها إن كانت موصولة والفاء فيها لتضمنها معنى الشرط ، وعلى التقديرين يكون الرد ب ( لي ) وحده وما بعده كلام مستأنف كأنه قيل : إذا بطل ما زعموه فما الحق في ذلك ، وجوز أن تكون ( مَن ) موصولة فاعل ليدخلها محذوفاً ، و( بلى ) مع ما بعدها رد لقولهم ، ويكون { فَلَهُ أَجْرُهُ } معطوفاً على ذلك المحذوف عطف الاسمية على الفعلية لأن المراد بالأولى التجدد ، وبالثانية الثبوت ، وقد نص السكاكي بأن الجملتين إذا اختلفتا تجدداً وثبوتاً يراعى جانت المعنى فيتعاطفان { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } تقدم مثله والجمع في الضمائر الثلاثة باعتبار معنى ( من ) كما أن الإفراد في الضمائر الأول باعتبار اللفظ ، ويجوز في مثل هذا العكس إلا أن الأفصح أن يبدأ بالحمل على اللفظ ثم بالحمل على المعنى لتقدم اللفظ عليه في الإفهام .

( ومن باب الإشارة ) :فإن { مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ } وخلص ذاته من جميع لوازمها وعوارضها لله تعالى بالتوحيد الذاتي عند المحو الكلي وهو مستقيم في أحواله بالبقاء بعد الفناء مشاهد ربه في أعماله راجع من الشهود الذاتي إلى مقام الإحسان الصفاتي الذي هو المشاهدة للوجود الحقاني { فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبّهِ } [ البقرة : 2 11 ] أي ما ذكرتم من الجنة وأصفى لاختصاصه بمقام العندية التي حجبتم عنها ولهم زيادة على ذلك هي عدم خوفهم من احتجاب الذات وعدم حزنهم على ما فاتهم من جنة الأفعال والصفات التي حجبتم بالوقوف عندها