المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخۡرَىٰ فَإِذَا هُمۡ قِيَامٞ يَنظُرُونَ} (68)

ثم ذكر تعالى النفخ في الصور ليصعق الأحياء من أهل الدنيا والسماء ، وفي بعض الأحاديث من طريق أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قبل هذه الصعقة الفزع ولم تتضمنها هذه الآية . و : «صعق » في هذه الآية معناه : خر ميتاً . و : { الصور } القرن ، ولا يتصور هنا غير هذا ، ومن يقول { الصور } جمع صورة ، فإنما يتوجه قوله في نفخة البعث .

وقرأ قتادة : «في الصوَر » بفتح الواو ، وهي جمع صورة .

وقوله : { إلا من شاء الله } قال السدي : استثنى جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ، ثم أماتهم بعد هذه الحال ، وروي ذلك عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم{[9934]} وقال : استثنى الأنبياء : وقال ابن جبير : استثنى الشهداء .

وقوله : { ثم نفخ فيه أخرى } هي نفخة البعث . وروي أن بين النفختين أربعين ، لا يدري أبو هريرة سنة أو يوماً أو شهراً أو ساعة{[9935]} . وباقي الآية بين .


[9934]:حديث أنس هذا أخرجه الفريابي، وعبد بن حميد، وأبو نصر السجزي في الإبانة، وابن مردويه، وهو حديث طويل تجده في الدر المنثور.
[9935]:قال البخاري: حدثنا عمر بن حفص بن غياث، حدثنا الأعمش، قال: سمعت أبا صالح، قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ما بين النفختين أربعون)، قالوا: يا أبا هريرة، أربعون يوما؟ قال رضي الله عنه: أبيت، قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون شهرا؟ قال: أبيتُ، ويبلى كل شيء من الإنسان غلا عجب ذنبه فيه يركب الخلق.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا مَن شَآءَ ٱللَّهُۖ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخۡرَىٰ فَإِذَا هُمۡ قِيَامٞ يَنظُرُونَ} (68)

انتقال من إجمال عظمة القدرة يوم القيامة إلى تفصيلها لما فيه من تهويل وتمثيل لمجموع الأحوال يومئذٍ مما ينذر الكافر ويبشر المؤمن ويذكر بإقامة العدل والحق ، ثم تمثيل إزجاء المشركين إلى جهنم وسوق المؤمنين إلى الجنة .

فالجملة من عطف القصة على القصة ، ومناسبة العطف ظاهرة ، وعبر بالماضي في قوله : { ونُفِخَ } وقوله : فَصَعِقَ مجازاً لأنه محقق الوقوع مثل قوله : { أتى أمر اللَّه } [ النحل : 1 ] ، ويجوز أن تكون الواو للحال بتقدير ( قد ) أي والحال قد نفخ في الصور ، فتكون صيغة الماضي في فعلي ( نفخ وصَعق ) مستعملة في حقيقتها . وابتدئت الجملة بحديث النفخ في الصور إذ هو ميقات يوم القيامة وما يتقدمه من موت كل حي على وجه الأرض . وتكرر ذكره في القرآن والسنة .

والصور : بوق ينادى به البعيد المتفرق مثل الجيش ، ومثل النداء للصلاة فقد كان اليهود ينادون به : للصلاة الجامعة ، كما جاء في حديث بدء الأذان في الإسلام . والمراد به هنا نداء الخلق لحضور الحشر أحيائِهم وأَمواتِهم ، وتقدم عند قوله : { يوم ينفخ في الصور } في الأنعام ( 73 ) . وهو علامة لأمر التكوين ، فالأحياء يصعقون فيموتون ( كما يموت المفزوع ) بالنفخة الأولى ، والأموات يصعقون اضطراباً تدبّ بسببه فيهم الحياة فيكونون مستعدين لقبول الحياة ، فإذا نفخت النفخة الثانية حلّت الأرواح في الأجساد المخلوقة لهم على مثال ما بَلي من أجسادهم التي بليت ، أو حلّتْ الأرواح في الأجساد التي لم تزل باقية غير بالية كأجساد الذين صعقوا عند النفخة الأولى ، ويجوز أن يكون بين النفختين زمن تبلَى فيه جميع الأجساد .

والاستثناء من اسم الموصول الأول ، أي إلا مَن أراد الله عدم صعقه وهم الملائكة والأرواح ، وتقدم في سورة النمل ( 87 ) { ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض } .

و { ثم } تؤذن بتراخي الرتبة لأنها عاطفة جملة ، ويجوز أن تفيد مع ذلك المهلَةَ المناسبة لما بين النفختين . و { أُخْرى } صفة لمحذوف ، أي نفخة أخرى ، وهي نفخة مُخالفٌ تأثيرُها لتأثير النفخة الأولى ، لأن الأولى نفخة إهلاك وصعق ، والثانية نفخة إحياء وذلك باختلاف الصوتين أو باختلاف أمرَيْ التكوين . وإنما ذكرت النفخة الثانية في هذه الآية ولم تذكر في قوله في سورة النمل ( 87 ) { ويوم ينفخ ( 1 ) في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء اللَّه وكل أتوه داخرين } لأن تلك في غرض الموعظة بفناء الدنيا وهذه الآية في غرض عظمة شأن الله في يوم القيامة ، وكذلك وصف النفخة بالواحدة في سورة الحاقة ( 13 ، 15 ) { فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة } وذكرت هنا نفختان .

وضمير { هُم } عائد على { من في السموات ومن في الأرض } فيما بقي من مفهومه بعد التخصيص ب { إلا مَن شاء الله } وهم الذين صعقوا صعق ممات وصَعْق اضطراب يهيأ لقبول الحياة عند النفخة .

و { إذا } للمفاجأة للتنبيه على سرعة حلول الحياة فيهم وقيامهم إثره و { قيام } جمع قائم .

وجملة { يَنظُرُونَ } حال . والنظرُ : الإِبصار ، وفائدة هذه الحال الدلالة على أنهم حَيُوا حياة كاملة لا غشاوة معها على أبصارهم ، أي لا دهش فيها كما في قوله تعالى : { فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون } في سورة الصافات ( 19 ) ، أو أريد أنهم ينظرون نظر المقلّب بصره الباحث . ويجوز أن يكون من النظرة ، أو الانتظار .