المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦ وَٱلۡأَرۡضُ جَمِيعٗا قَبۡضَتُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطۡوِيَّـٰتُۢ بِيَمِينِهِۦۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (67)

وقوله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره } معناه : وما عظموا الله حق عظمته ولا وصفوه بصفاته ، ولا نفوا عنه ما لا يليق به .

واختلف الناس في المعنى بالضمير في قوله : { قدروا } قال ابن عباس : نزل ذلك في كفار قريش الذين كانت هذه الآيات كلها محاورة لهم ورداً عليهم . وقالت فرقة : نزلت الآية في قوم من اليهود تكلموا في صفات الله تعالى وجلاله ، فألحدوا وجسموا وأتوا كل تخليط ، فنزلت الآية فيهم ، وفي الحديث الصحيح : أنه جاء حبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس إليه ، فقال له النبي عليه السلام حدثنا ، فقال : إن الله عز وجل إذا كان يوم القيامة جعل السماوات على أصبع والأرضين على أصبع والجبال على أصبع ، والماء الشجر على أصبع ، وجمع الخلائق على أصبع ، ثم يهزهن فيقول : أنا الملك ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً له ، ثم قرأ هذه الآية{[9930]} .

قال القاضي أبو محمد : فرسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل بالآية ، وقد كانت نزلت . وقوله في الحديث : تصديقاً له ، أي في أنه لم يقل إلا ما رأى في كتب اليهود ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر المعنى ، لأن التجسيم فيه ظاهر واليهود معروفون باعتقاده ، ولا يحسنون حمله على تأويله من أن الأصبع عبارة عن القدرة ، أو من أنها أصبع خلق يخلق لذلك ، ويعضدها تنكير الأصبع{[9931]} .

وروى سعيد بن المسيب أن سبب نزول الآية أن طائفة من اليهود جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد ، هذا الله خلق الأشياء ، فمن خلق الله ؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وساورهم{[9932]} ، ونزلت الآية{[9933]} في ذلك .

وقرأ جمهور الناس : «قدْره » بسكون الدال ، وقرأ الأعمش : بفتح الدال . وقرأ أبو حيوة والحسن وعيسى بن عمرو وأبو نوفل : «وما قدّروا » بشد الدال «حق قدَره » بفتح الدال .

وقوله تعالى : { والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة } معناه : في قبضته . وقال ابن عمر ما معناه : أن الأرض في قبضة اليد الواحد ، { والسماوات مطويات } باليمين الأخرى ، لأنه كلتا يديه يمين ، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال ابن عباس : الأرض جميعاً قبضته ، والسماوات وكل ذلك بيمينه .

وقرأ عيسى بن عمر : «مطوياتٍ » بكسر التاء المنونة ، والناس على رفعها .

وعلى كل وجه ، ف «اليمين » هنا و «القبضة » وكل ما ورد : عبارة عن القدرة والقوة ، وما اختلج في الصدور من غير ذلك باطل ، وما ذهب إليه القاضي من أنها صفات زائدة على صفات الذات قول ضعيف ، ويحسب ما يختلج في النفوس التي لم يحضنها العلم .

قال عز وجل : { سبحانه وتعالى عما يشركون } . أي هو منزه عن جميع الشبه التي لا تليق به .


[9930]:ذكره الواحدي بسنده، عن عبد الله بن مسعود في (أسباب النزول)، وهو في الصحيحين دون سبب النزول، وذكره السيوطي في (الدر المنثور)، وزاد في رواته: سعيد بن منصور، والإمام أحمد، وعبد بن حميد، والترمذي، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، والدارقطني في (الأسماء والصفات). وأخرج نحوه أحمد، والترمذي وصححه، وابن جرير، وابن مردويه، والبيهقي، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[9931]:ما بين العلامتين[…...] لا يوجد إلا في النسخة التونسية لامكتوبة بالخط المغربي، وهي زيادة توضح رأي ابن عطية وفهمه للحديث الشريف.
[9932]:قال ابن الأثير في (النهاية):"أُساوره: أواثبه وأقاتله"، وفي المعجم الوسيط: ساوره: واثبه.
[9933]:الحديث في تفسير الطبري، ولفظه: قال: أتى رهط من اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد، هذا الله خلق الخلق، فمن خلقه؟ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى انتقع لونه، ثم ساورهم غضبا لربه، فجاءه جبريل فسكنه، وقال: اخفض عليك جناحك يا محمد، وجاءه من الله جواب ما سألوه عنه، قال: يقول الله تبارك وتعالى:{قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد}، فلما تلاها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: صف لنا ربك، كيف خلقه؟ وكيف عضده؟ وكيف ذراعه؟ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم أشد من غضبه الأول، ثم ساورهم، فأتاه جبريل فقال مثل مقالته، وأتاه بجواب ما سالوه عنه{ وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون}.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦ وَٱلۡأَرۡضُ جَمِيعٗا قَبۡضَتُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطۡوِيَّـٰتُۢ بِيَمِينِهِۦۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (67)

لما جرى الكلام على أن الله تعالى خلق كل شيء وأن له مقاليد السماوات والأرض وهو مُلك عوالم الدنيا ، وذيل ذلك بأن الذين كفروا بدليل الوحدانية هم الخاسرون ، وانتقلَ الكلام هنا إلى عظمة مُلك الله تعالى في العالم الأخروي الأبدي ، وأن الذين كفروا بآيات الله الدالة على ملكوت الدنيا قد خسروا بترك النظر ، فلو اطلعوا على عظيم ملك الله في الآخرة لقدّروه حقّ قدره فتكون الواو عاطفة جملة { والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة } على جملة { له مقاليد السموات والأرض } [ الزمر : 63 ] ويكون قوله : { وما قدروا الله } الخ معترضاً بين الجملتين ، اقتضاها التناسب مع جملة { والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون } [ الزمر : 63 ] .

ويجوز أن تكون معطوفة على جملة الله خالق كل شيء [ الزمر : 62 ] فتكون جملة { وما قدروا الله حق قدره } وجملة { والأرض جميعاً قبضته } كلتاهما معطوفتين على جملة { الله خالق كل شيء } [ الزمر : 62 ] . والمعنى : هو هو ، إلا أن الحال أوضح إفصاحاً عنه .

ويجوز أن تكون جملة { والأرض جميعاً قبضته } عطفَ غرض على غرض انتُقل به إلى وصف يوم القيامة وأحوال الفريقين فيه ، وجملة { وما قدروا الله حق قدره } اعتراضاً ، وهو تمثيل لحال الجاهل بعظمة شيء بحال من لم يحقق مقدار صُبرة فنقصها عن مقدارها ، فصار معنى { ما قدروا الله : } ما عرفوا عظمته حيث لم ينزهوه عما لا يليق بجلاله من الشريك في إلهيته .

و { حقَّ قدره } من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي ما قدروا الله قدرَه الحقَّ ، فانتصب { حَقَّ } على النيابة عن المفعول المطلق المبيّن للنوع ، وتقدم نظير هذا في سورة الأنعام .

وجميع : أصله اسم مفعول مثل قتيل ، قال لبيد :

عريت وكان بها الجَميع فأبكروا *** منها وغودر نؤيها وثمامها

وبذلك استعمل توكيداً مثلَ ( كلّ ) و ( أَجمَع ) قال تعالى : { يوم يبعثهم اللَّه جميعاً } في سورة [ المجادلة : 6 ] . وقد وقع { جميعاً } هنا حالاً من { الأرض } واسم { الأرض } مؤنث فكان تجريد ( جميع ) من علامة التأنيث جرياً على الوجه الغالب في جريان فعيل بمعنى مفعول على موصوفه ، وقد تلحقه علامة التأنيث كقول امرىء القيس :

فلو أنها نفس تموت جميعةٌ *** ولكنها نفس تَسَاقَطُ أنفسا

وانتصب { جميعاً } هنا على الحال من { الأرض } وتقدم نظيره آنفاً في قوله : { قل لله الشفاعة جميعاً } [ الزمر : 44 ] .

والقبضة بفتح القاف المرّة من القَبْض ، وتقدم في قوله : { فقبضت قبضة من أثر الرسول } في سورة [ طه : 96 ]

والإِخبار عن الأرض بهذا المصدر الذي هو بمعنى المفعول كالخَلق بمعنى المخلوق للمبالغة في الاتصاف بالمعنى المصدري وإنما صيغ لها وزن المرة تحقيراً لها في جانب عظمة ملك الله تعالى ، وإنما لم يُجَأْ بها مضمومة القاف بمعنى الشيء المقبوض لئلا تفوت المبالغة في الاتصاف ولا الدلالة على التحقير فالقَبضة مستعارة للتناول استعارة تصريحية ، والقبضة تدل على تمام التمكن من المقبوض وأن المقبوض لا تصرّف له ولا تحرّك .

وهذا إيماء إلى تعطيل حركة الأرض وانقماع مظاهرها إذ تصبح في عالم الآخرة شيئاً موجوداً لا عمل له وذلك بزوال نظام الجاذبية وانقراض أسباب الحياة التي كانت تمد الموجودات الحية على سطح الأرض من حيوان ونبات .

وطَيُّ السماوات : استعارة مكنية لتشويش تنسيقها واختلال أَبعاد أجرامها ، فإن الطي ردّ ولفّ بعض شُقق الثوب أو الوَرق على بعض بعد أن كانت مبسوطة منتشرة على نسق مناسب للمقصود من نشره فإذا انتهى المقصود طوي المنشور ، قال تعالى : { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب كما بدأنا أول خلق نعيده } [ الأنبياء : 104 ] . وإثبات الطي تخييل .

والباء في { بِيَمِينِه } للآلة والسببية . واليمين : وصف لليد ولا يدَ هنا وإنما هي كناية عن القدرة لأن العمل يكون باليد اليمين قال الشاعر أنشده الفرّاء والمبرد ، قال القرطبي :

ولما رأيتُ الشمس أشرقَ نورها *** تَناولتُ منها حَاجتي بيمين

أي بقدرة . وضمير ( منها ) يعود على مذكور في أبيات قبله .

والمقصود من هاتين الجملتين تمثيل عظمة الله تعالى بحال من أخذ الأرض في قَبضته ومن كانت السماوات مطويةً أفلاكها وآفاقها بيده تشبيه المعقول بالمتخيَّل وهي تمثيلية تنحل أجزاؤها إلى استعارتين ، وفيها دلالة على أن الأرض والسماوات باقية غير مضمحلة ولكن نظامهما المعهود اعتراه تعطيل ، وفي « الصحيح » عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يقبض الله الأرض ويطوي السماوات بيمينه ثم يقول أَنَا المَلِك أَين ملوك الأرض " وعن عبد الله بن مسعود قال : جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد إنّا نجد أن الله يجعل السماوات على إِصبَع ، والأرضينَ على إصبع ، والشجَر على إصبع ، والماءَ والثَّرى على إصبع ، وسائر الخلق على اصبَع . فيقول أنا الملك ، فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } .

ومعنى قوله : ثم قرأ هذه الآية ، نزلت قبل ذلك لأنها مما نزل بمكة . والحَبر من أحبار يهود المدينة ، وقول الراوي : تصديقاً لقول الحَبر ، مُدرَج في الحديث من فهم الراوي كما جزم به أبو العباس القرطبي في كتابه : « المفهم على صحيح مسلم » ، وقال الخطّابي رَوى هذا الحديث غيرُ واحد عن عبد الله بن مسعود من طريق عَبِيدة فلم يذكروا قوله تصديقاً لقول الحَبر ، ولعله من الراوي ظَنٌّ وحسبان . اهـ ، أي فهو من إدراج إبراهيم النخعي رواية عن عَبِيدَة . وإنما كان ضحك النبي صلى الله عليه وسلم استهزاء بالحَبر في ظنه أن الله يفعل ذلك حقيقة وأن له يداً وأصابع حسب اعتقاد اليهود التجسيم ولذلك أعقبه بقراءة { وما قدروا الله حق قدره } لأن افتتاحها يشتمل على إبطال ما توهمه الحَبر ونظراؤه من الجسمية ، وذلك معروف من اعتقادهم وقد ردّه القرآن عليهم غيرَ مرة مما هو معلوم فلم يحتج النبي صلى الله عليه وسلم إلى التصريح بإبطاله واكتفى بالإِشارة التي يفهمها المؤمنون ، ثم أشار إلى أن ما توهمه اليهودي توزيعاً على الأصابع إنما هو مجاز عن الأخذ والتصرف .

وفي بعض روايات الحديث فنزل قوله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره } وهو وهَم من بعض رواته وكيف وهذه مكية وقصة الحبر مدنية .

وجملة { سبحانه وتعالى عما يشركون } إنشاء تنزيه لله تعالى عن إشراك المشركين له آلهةً وهو يؤكد جملة { وما قدروا الله حق قدره } .