التقدير واذكر «ذا النون » والنون الحوت وصاحبه يونس بن متَّى عليه السلام ، ونسب إلى الحوت الذي التقمه على الحالة التي يأتي ذكرها في موضعها الذي يقتضيه وهو نبي من أهل نينوى وهذا هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، «من قال إني خير من يونس بن متى فقد كذب »{[8257]} ، وفي حديث آخر «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى »{[8258]} ، وهذا الحديث وقوله «لا تفضلوني على موسى »{[8259]} يتوهم أنها يعارضان قوله عليه السلام على المنبر «أنا سيد ولد آدم ولا فخر »{[8260]} والانفصال عن هذا بوجهين أحدهما ذكره الناس وهو أن يكون قوله «أنا سيد ولد آدم » متأخراً في التاريخ وأنها منزلة أعلمه الله تعالى بها لم يكن علمها وقت تلك المقالات الأخر ، والوجه الثاني وهو عندي أحرى مع حال النبي عليه السلام ، أنه إنما نهي عن التفضيل بين شخصين مذكورين وذهب مذهب التواضع ولم يزل سيد ولد آدم ولكنه نهى أن يفضل على موسى كراهية أن تغضب لذلك اليهود فيزيد نفارها عن الإيمان ، وسبب الحديث يقتضي هذا ، وذلك أن يهودياً قال لا والذي فضل موسى على العالمين ، فقال له رجل من الأنصار تقول هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ولطمه فشري الأمر وارتفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنهى عن تفضيله على موسى ونهى عليه السلام عن تفضيله على يونس لئلا يظن أحد بيونس نقص فضيلة بسبب ما وقع له ، فنهيه عليه السلام عن التفضيل على شخص معين وقوله في حديث ثالث «لا تفضلوا بين الأنبياء »{[8261]} وهذا كله مع قوله : «أنا سيد ولد آدم » وإطلاق الفضل له دون اقتران بأحد ، بين صحيح وتأمل هذا ، فإنه يلوح وقد قال عمر رضي الله عنه للحطيئة امدح ممدوحك ولا تفضل بعض الناس على بعض .
قال القاضي أبو محمد : ولفظة سيد ولفظة خير شيئان ، فهذا مبدأ جمع آخر بين الأحاديث يذهب ما يظن من التعارض ، وقوله { مغاضباً } قيل إنه غاضب قومه حين طال عليه أمرهم وتعنتهم فذهب فاراً بنفسه وقد كان الله تعالى أمره بملازمتهم والصبر على دعائهم فكان ذنبه في مخالفة هذا الأمر ، وروي أنه كان شاباً فلم يحمل أثقال النبوءة وتفسخ تحتها كما يتفسخ الربع{[8262]} تحت الحمل ولهذا قيل للنبي صلى الله عليه وسلم { ولا تكن كصاحب الحوت }{[8263]} [ القلم : 48 ] أي اصبر ودم على الشقاء بقومك ، وقالت فرقة إنما غاضب الملك الذي كان على قومه ع وهذا نحو من الأول فيما يلحق منه يونس عليه السلام ، وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره إنما ذهب { مغاضباً } ربه واستفزه إبليس{[8264]} ، ورووا في ذلك أن يونس لما طال عليه أمر قومه طلب من الله تعالى عذابهم فقيل له إن العذاب يجيئهم يوم كذا ، فأخبرهم يونس بذلك فقالوا إن رحل عنا فالعذاب نازل وإن أقام بيننا لم نبال ، فلما كان سحر ذلك اليوم قام يونس فرجل فأيقنوا بالعذاب فخرجوا بأجمعهم إلى البراز{[8265]} ، وفرقوا بين صغار البهائم وأمهاتها وتضرعوا وتابوا ، فرفع الله تعالى عنهم العذاب وبقي يونس في موضعه الذي خرج إليه فنظر فلما عرف أَنهم لم يعذبوا ساءه أن عدوه كاذباً وقال والله لا انصرفت إليهم أَبداً .
وروي أنه كان من دينهم قتل الكذاب فغضب حينئذ على ربه وخرج على وجهه حتى دخل في سفينة في البحر ع وفي هذا القول من الضعف ما لا خفاء به مما لا يتصف به نبي ، واختلف الناس في قوله تعالى : { فظن أَن لن نقدر عليه } فقالت فرقة : استفزه إبليس ووقع في ظنه إمكان أن لا يقدر الله عليه بمعاقبة .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :وهذا قول مردود ، وقالت فرقة ظن أَن لن يضيق عليه في مذهبه من قوله تعالى : { يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر }{[8266]} [ الإسراء : 30 ] ، وقالت فرقة هو من القدر ، أي ظن أن لن يقدر الله عليه بعقوبة{[8267]} ، وقالت فرقة الكلام بمعنى الاستفهام ، أَي : أفظن أن لن يقدر الله عليه ؟ ، وحكى منذر بن سعيد أَن بعضهم قرأ «أفظن » بالألف ، وقرأ الزهري «تُقَدّر » بضم النون وفتح القاف وشد الدال{[8268]} ، وقرأ الحسن «يقدر » وعنه أَيضاً «نقدر »{[8269]} ، وبعد هذا الكلام حذف كثير أقتضب لبيانه في غير هذه الآية ، المعنى فدخل البحر وكذا حتى التقمه الحوت وصار في ظلمة جوفه ، واختلف الناس في جمع { الظلمات } ما المراد به فقالت فرقة ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة الحوت ، وقالت فرقة ظلمة البحر وظلمة الحوت التقم الحوت الأول الذي التقم يونس .
قال أبو محمد رحمه الله :ويصح أن يعبر ب { الظلمات } عن جوف الحوت الأول فقط كما قال في غيابات الجب{[8270]} وفي كل جهاته ظلمة فجمعها سائغ ، وروي أن يونس سجد في جوف الحوت حين سمع تسبيح الحيتان في قعر البحر ثم قال في دعائه «اللهم إني قد اتخذت لك مسجداً في موضع لم يتخذه أحد من قبلي » و { أن } مفسرة نحو قوله تعالى { أن امشوا }{[8271]} [ ص : 6 ] وفي هذا نظر وقوله تعالى : { من الظالمين } يريد فيما خالف فيه من ترك مداومة قومه والصبر عليهم هذا أحسن الوجوه وقد تقدم ذكر غيره .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وذا النون} يعني: يونس بن متى، عليه السلام، {إذ ذهب مغاضبا} يعني: مراغما لقومه... ففارقهم من غير أن يؤمنوا.
{فظن أن لن نقدر عليه} فحسب يونس أن لن نعاقبه بما صنع. {فنادى}: فدعا ربه {في الظلمات} يعني: ظلمات ثلاث ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، فنادى: {أن لا إله إلا أنت} يوحد ربه، عز وجل، {سبحانك} نزه تعالى أن يكون ظلمه، ثم أقر على نفسه بالظلم، فقال: {إني كنت من الظالمين} يقول يونس عليه السلام: إني ظلمت نفسي.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: واذكر يا محمد ذا النون، يعني صاحب النون. والنون: الحوت. وإنما عَنَى بذي النون: يونس بن متى، وقد ذكرنا قصته في سورة يونس بما أغنى عن ذكره في هذا الموضع.
وقوله:"إذْ ذَهَبَ مُغاضِبا" يقول: حين ذهب مغاضبا.
واختلف أهل التأويل في معنى ذهابه مغاضبا، وعمن كان ذهابه، وعلى من كان غضبه؛
فقال بعضهم: كان ذهابه عن قومه وإياهم غاضب... وقال آخرون: ذهب عن قومه مغاضبا لربه، إذ كشف عنهم العذاب بعدما وعدهموه... وهذا القول، أعني قول من قال: ذهب عن قومه مغاضبا لربه، أشبه بتأويل الآية، وذلك لدلالة قوله: "فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ "على ذلك. على أن الذين وجهوا تأويل ذلك إلى أنه ذهب مغاضبا لقومه، إنما زعموا أنهم فعلوا ذلك استنكارا منهم أن يغاضب نبيّ من الأنبياء ربه واستعظاما له. وهم بقيلهم أنه ذهب مغاضبا لقومه قد دخلوا في أمر أعظم مما أنكروا، وذلك أن الذين قالوا: ذهب مغاضبا لربه اختلفوا في سبب ذهابه كذلك، فقال بعضهم: إنما فعل ما فعل من ذلك كراهة أن يكون بين قوم قد جربوا عليه الخلف فيما وعدهم، واسْتَحْيَا منهم، ولم يعلم السبب الذي دفع به عنهم البلاء. وقال بعض من قال هذا القول: كان من أخلاق قومه الذي فارقهم قتل من جرّبوا عليه الكذب، عسى أن يقتلوه من أجل أنه وعدهم العذاب، فلم ينزل بهم ما وعدهم من ذلك... وليس في واحد من هذين القولين من وصف نبيّ الله يونس صلوات الله عليه شيء إلا وهو دون ما وصفه بما وصفه الذين قالوا: ذهب مغاضبا لقومه لأن ذهابه عن قومه مغاضبا لهم، وقد أمره الله تعالى بالمُقام بين أظهرهم، ليبلغهم رسالته ويحذّرهم بأسه وعقوبته على تركهم الإيمان به والعمل بطاعته لا شك أن فيه ما فيه. ولولا أنه قد كان صلى الله عليه وسلم أتى ما قاله الذين وصفوه بإتيان الخطيئة، لم يكن الله تعالى ذكره ليعاقبه العقوبة التي ذكرها في كتابه ويصفه بالصفة التي وصفه بها، فيقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: "وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الحُوتِ إذْ نادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ" ويقول: "فالْتَقَمَهُ الحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلا أنهُ كانَ مِنَ المُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ".
وقوله: "فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ" اختلف أهل التأويل في تأويله؛ فقال بعضهم: معناه: فظنّ أن لن نعاقبه بالتضييق عليه. من قولهم قدرت على فلان: إذا ضيقت عليه، كما قال الله جلّ ثناؤه: "وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللّهُ"... عن ابن عباس: "فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ" يقول: ظنّ أن لن نقضيَ عليه عقوبة ولا بلاء فيما صنع بقومه في غضبه إذ غضب عليهم وفراره. وعقوبته أخذ النون إياه...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فظنّ أنه يُعجز ربه فلا يقدر عليه... وقال آخرون: بل ذلك بمعنى الاستفهام، وإنما تأويله: أفظنّ أن لن نقدر عليه؟... وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب، قول من قال: عَنَى به: فظنّ يونس أن لن نحبسه ونضيق عليه، عقوبة له على مغاضبته ربه.
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الكلمة، لأنه لا يجوز أن يُنْسب إلى الكفر وقد اختاره لنبوّته، ووَصْفُه بأن ظنّ أن ربه يعجز عما أراد به ولا يقدر عليه، وَصْفٌ له بأنه جهل قدرة الله، وذلك وصف له بالكفر، وغير جائز لأحد وصفه بذلك. وأما ما قاله ابن زيد، فإنه قول لو كان في الكلام دليل على أنه استفهام حسن، ولكنه لا دلالة فيه على أن ذلك كذلك. والعرب لا تحذف من الكلام شيئا لهم إليه حاجة إلا وقد أبقت دليلاً على أنه مراد في الكلام، فإذا لم يكن في قوله: "فَظَنّ أنْ لَنْ نَقْدرَ عَلَيْهِ" دلالة على أن المراد به الاستفهام كما قال ابن زيد، كان معلوما أنه ليس به وإذ فسد هذان الوجهان، صحّ الثالث وهو ما قلنا.
وقوله: "فَنَادَى في الظّلُماتِ" اختلف أهل التأويل في المعنيّ بهذه الظلمات، فقال بعضهم: عُني بها ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت... وقال آخرون: إنما عَنَى بذلك أنه نادى في ظلمة جوف حوت في جوف حوت آخر في البحر. قالوا: فذلك هو الظلمات...
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أخبر عن يونس أنه ناداه في الظلمات: "إن لا إلهَ إلا أنْتَ سُبْحانَكَ إنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ" وَلا شك أنه قد عنى بإحدى الظلمات: بطن الحوت، وبالأخرى: ظلمة البحر، وفي الثالثة اختلاف، وجائز أن تكون تلك الثالثة ظلمة الليل، وجائز أن تكون كون الحوت في جوف حوت آخر. ولا دليل يدلّ على أيّ ذلك من أيّ، فلا قول في ذلك أولى بالحق من التسليم لظاهر التنزيل.
وقوله: "لا إلَهَ إلاّ أنْتَ سُبْحانَكَ" يقول: نادى يونس بهذا القول معترفا بذنبه تائبا من خطيئته "إنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ" في معصيتي إياك...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إذ ذهب مغاضبا} اختلف فيه: قال بعضهم: مغاضبا لربه أي حزينا له، لأنه كان أراد أن يهلك الله قومه لما أيس من إيمان قومه، وقد كثر عنادهم ومكابرتهم، فخرج حزينا لذلك...
وقال بعضهم: {إذ ذهب مغاضبا} لقومه، وذلك يخرج على وجوه: أحدها: خرج من عندهم لما أيس من إيمان قومه؛ خرج مكيدة لقومه لأنه السنة فيهم أنه إذا خرج رسول الله من بين أظهرهم نزل بهم العذاب؛ خرج من عندهم ليخافوا العذاب، فيؤمنوا. والثاني: خرج إشفاقا على نفسه لئلا يقتل لما أن قومه هموا بقتله؛ خرج لئلا يقتل إشفاقا على نفسه كما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهر قومه لما هموا بقتله. لكن رسول الله خرج بإذن، ويونس بغير إذن. والثالث: خرج من عندهم لما أكثروا العناد والمكابرة، وأيس من إيمانهم، خرج ليفرغ نفسه لعبادة ربه إذ كان مأمورا بعبادة ربه ودعا قومه إلى ذلك. فلما أيس من إيمانهم خرج كما ذكرنا بغير إذن من ربه، وإن كان في خروجه منفعة له ولقومه، فعوقب لذلك، والله أعلم...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{أَن لاَّ إِلهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} يعني لنفسي في الخروج من غير أن تأذن لي، ولم يكن ذلك من الله عقوبة، لأن الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا، وإنما كان تأديباً.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ويقال إن يونس عليه السلام صَحِبَ الحوتَ أياماً قلائل فإلى القيامة يقال له: ذا النون، ولم تبطل عنه هذه النسبة.. فما ظَنُّكَ بِعَبْدٍ عَبَدَه -سبحانه- سبعين سنة، ولازم قلبه محبته ومعرفته طولَ عمره... ترى أيبطل هذا؟ لا يُظَنُّ بِكَرَمِهِ ذلك!
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
برم بقومه لطول ما ذكرهم فلم يذكروا وأقاموا على كفرهم، فراغمهم وظنّ أنّ ذلك يسوغ حيث لم يفعله إلا غضباً لله وأنفة لدينه وبغضاً للكفر وأهله، وكان عليه أن يصابر وينتظر الإذن من الله في المهاجرة عنهم، فابتلي ببطن الحوت. ومعنى مغاضبته لقومه: أنه أغضبهم بمفارقته لخوفهم حلول العقاب عليهم عندها...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وهذا هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، «من قال إني خير من يونس بن متى فقد كذب»... وفي حديث آخر «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى».
أما قوله "سبحانك "فهو تنزيه عن كل النقائص ومنها العجز، وهذا يدل على أنه ما كان مراده من قوله: {فظن أن لن نقدر عليه} أنه ظن العجز، وإنما قال: {سبحانك} لأن تقديره سبحانك أن تفعل ذلك جورا أو شهوة للانتقام، أو عجزا عن تخليصي عن هذا الحبس، بل فعلته بحق الإلهية وبمقتضى الحكمة.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
روى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعاء ذي النون في بطن الحوت "لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين "لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له).
في هذه الآية شرط الله لمن دعاه أن يجيبه كما أجابه، وينجيه كما أنجاه، وهو قوله: "وكذلك ننجي المؤمنين" وليس ههنا صريح دعاء، وإنما هو مضمون قوله: "إني كنت من الظالمين" فاعترف بالظلم فكان تلويحا.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وهذه الأمة العظيمة، الذين آمنوا بدعوة يونس، من أكبر فضائله. ولكنه عليه الصلاة والسلام، ذهب مغاضبا، وأبق عن ربه لذنب من الذنوب، التي لم يذكرها الله لنا في كتابه، ولا حاجة لنا إلى تعيينها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن في هذه الحلقة من قصة يونس -عليه السلام- لفتات ولمسات نقف أمامها لحظات. إن يونس لم يصبر على تكاليف الرسالة، فضاق صدرا بالقوم، وألقى عبء الدعوة، وذهب مغاضبا، ضيق الصدر، حرج النفس؛ فأوقعه الله في الضيق الذي تهون إلى جانبه مضايقات المكذبين. ولولا أن ثاب إلى ربه! واعترف بظلمه لنفسه ودعوته وواجبه. لما فرج الله عنه هذا الضيق. ولكنها القدرة حفظته ونجته من الغم الذي يعانيه. وأصحاب الدعوات لا بد أن يحتملوا تكاليفها، وأن يصبروا على التكذيب بها، والإيذاء من أجلها. وتكذيب الصادق الواثق مرير على النفس حقا. ولكنه بعض تكاليف الرسالة. فلا بد لمن يكلفون حمل الدعوات أن يصبروا ويحتملوا، ولا بد أن يثابروا ويثبتوا. ولا بد أن يكرروا الدعوة ويبدئوا فيها ويعيدوا. إنهم لا يجوز لهم أن ييأسوا من صلاح النفوس واستجابة القلوب، مهما واجهوا من إنكار وتكذيب، ومن عتو وجحود. فإذا كانت المرة المائة لم تصل إلى القلوب، فقد تصل المرة الواحدة بعد المائة.. وقد تصل المرة الواحدة بعد الألف.. ولو صبروا هذه المرة وحاولوا ولم يقنطوا لتفتحت لهم أوصاد القلوب! إن طريق الدعوات ليس هينا لينا. واستجابة النفوس للدعوات ليست قريبة يسيرة. فهناك ركام من الباطل والضلال والتقاليد والعادات، والنظم والأوضاع، يجثم على القلوب. ولا بد من إزالة هذا الركام. ولا بد من استحياء القلوب بكل وسيلة. ولا بد من لمس جميع المراكز الحساسة. ومن محاولة العثور على العصب الموصل.. وإحدى اللمسات ستصادف مع المثابرة والصبر والرجاء. ولمسة واحدة قد تحول الكائن البشري تحويلا تاما في لحظة متى أصابت اللمسة موضعها. وإن الإنسان ليدهش أحيانا وهو يحاول ألف محاولة، ثم إذا لمسة عابرة تصيب موضعها في الجهاز البشري فينتفض كله بأيسر مجهود، وقد أعيا من قبل على كل الجهود!...
إن الداعية أداة في يد القدرة. والله أرعى لدعوته وأحفظ. فليؤد هو واجبه في كل ظرف، وفي كل جو، والبقية على الله. والهدى هدى الله. وإن في قصة ذي النون لدرسا لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتأملوه. وإن في رجعة ذي النون إلى ربه واعترافه بظلمه لعبرة لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتدبروها.