فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَٰضِبٗا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَيۡهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ أَن لَّآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنتَ سُبۡحَٰنَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (87)

{ وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ( 87 ) فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين ( 88 ) وزكريا إذ نادى ربه ربّ لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين ( 89 ) فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين ( 90 ) } .

{ و } اذكر { ذا النون } هو يونس بن متى على وزن شتى اسم لوالده على ما ذكره صاحب القاموس ، أو اسم لأمه على ما قاله ابن الأثير وغيره .

وقال الشهاب : ومتى اسم أبيه على الصحيح ، وسمي ذا النون لابتلاع الحوت له ، فإن النون اسم للحوت وجمعه أنوان ونينان ، والحوت السمكة ، وجمعه حيتان ، وقيل سمي به لأنه رأى صبيا مليحا ، فقال : دسموا نونته لئلا تصيبه العين وعن ابن الأعرابي أن نونة الصبي هي الثقبة التي تكون في ذقن الصبي الصغير ومعنى دسموا سودوا .

{ إذ ذهب مغاضبا } أي اذكره وقت ذهابه مغاضبا أي مراغما لقومه لا لربه ، وقال الحسن والشعبي وسعيد ابن جبير : مغاضبا لربه ، واختاره ابن جرير والقتيبي ، وحكى عن ابن مسعود ، قال النحاس : وربما أنكر هذا من لا يعرف اللغة ، وهو قول صحيح ، والمعنى مغاضبا لأجل ربه ، كما تقول : غضبت لك أي من أجلك ، وقال الضحاك ، مغاضبا لقومه ، وحكى عن ابن عباس .

وقالت فرقة منهم الأخفش إنما خرج مغاضبا للملك الذي كان في وقته واسمه حزقيا ، وقيل لم يغاضب ربه ولا قومه ولا الملك ، ولكنه مأخوذ من غضب إذا أنف ، وذلك أنه لما وعد قومه بالعذاب وكانوا يسكنون فلسطين وخرج عنهم ، تابوا وكشف الله عنهم العذاب ، فلما رجع وعلم أنهم لم يهلكوا أنف من ذلك وحرج عنهم .

{ فظن أن لن نقدر عليه } بفتح النون وكسر الدال ؛ واختلف في معنى الآية على هذه القراءة ، فقيل : معناها أنه وقع في ظنه أن الله تعالى لا يقدر على معاقبته ، وقد حكى هذا القول عن الحسن وسعيد بن جبير ، وهو قول مردود ؛ فإن هذا الظن بالله كفر ؛ ومثل ذلك لا يقع من الأنبياء عليهم السلام .

وذهب جمهور العلماء إلى أن معناها فظن أن لن نضيق عليه كقوله : { يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } أي يضيق ، ومنه قوله : { ومن قدر عليه رزقه } ، يقال يقدر وقدر وقتر أي ضيق ، وقيل هو من القدر الذي هو القضاء والحكم دون القدرة والاستطاعة أي فظن أن لن نقضي عليه العقوبة ، قاله قتادة ومجاهد ، واختاره الفراء والزجاج .

قال ثعلب : هو من القدير ليس من القدرة يقال منه قدر الله لك الخير يقدره قدرا ؛ ويؤيده قراءة عمر بن عبد العزيز والزهري ، نقدّر بضم النون وتشديد الدال من التقدير ، وحكى هذا عن ابن عباس ، ويؤيده قراءة قتادة والأعرج يقدّر مبنيا للمفعول من التقدير ، وقرئ يقدر مخففا مبنيا للمفعول .

وقد اختلف العلماء في تأويل الحديث الصحيح في قول الرجل الذي لم يعمل خيرا قط لأهله أن يحرقوه إذا مات ، ثم قال فوالله لئن قدر الله عليّ ، الحديث{[1214]} كما اختلفوا في تأويل هذه الآية والكلام في هذا يطول ، وقد ذكرنا ههنا ما لا يحتاج معه الناظر إلى غيره .

{ فنادى في الظلمات } الفاء فصيحة أي كان ما كان من التقام الحوت له فنادى ، والمراد بالظلمات ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت ، قاله ابن مسعود .

وكان نداؤه هو قوله : { أن } أي بأن { لا إله إلا أنت سبحانك } يعني تنزيها من أن يعجزك شيء { إني كنت من الظالمين } الذين يظلمون أنفسهم ، وأول هذا الدعاء تهليل وأوسطه تسبيح وآخره إقرار بالذنب .

وقال الحسن وقتادة : هذا القول من يونس اعتراف بذنبه وتوبة من خطيئته قال ذلك وهو في بطن الحوت ، قيل مكث فيه أربعين يوما وليلة ، وقيل سبعة وقيل ثلاثة كما في الخازن ، وفي البيضاوي أربع ساعات .


[1214]:مسلم 2756- البخاري 1635.