فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَٰضِبٗا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَيۡهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ أَن لَّآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنتَ سُبۡحَٰنَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (87)

{ وَذَا النون } أي واذكر ذا النون ، وهو يونس بن متى ، ولقب ذا النون لابتلاع الحوت له . فإن النون من أسماء الحوت ، وقيل : سمي ذا النون لأنه رأى صبياً مليحاً فقال : دسموا نونته ، لئلا تصيبه العين . وحكى ثعلب عن ابن الأعرابي أن نونة الصبيّ هي الثقبة التي تكون في ذقن الصبي الصغير ، ومعنى دسموا سوّدوا { إِذ ذَهَبَ مغاضبا } أي اذكر ذا النون وقت ذهابه مغاضباً ، أي مراغماً . قال الحسن والشعبي وسعيد بن جبير : ذهب مغاضباً لربه ، واختاره ابن جرير والقتيبي والمهدوي . وحكى عن ابن مسعود : قال النحاس : وربما أنكر هذا من لا يعرف اللغة ، وهو قول صحيح . والمعنى : مغاضباً من أجل ربه ، كما تقول غضبت لك ، أي من أجلك . وقال الضحاك : ذهب مغاضباً لقومه ، وحكي عن ابن عباس . وقالت فرقة منهم الأخفش : إنما خرج مغاضباً للملك الذي كان في وقته واسمه حزقيا وقيل : لم يغاضب ربه ولا قومه ولا الملك ، ولكنه مأخوذ من غضب إذا أنف ، وذلك أنه لما وعد قومه بالعذاب وخرج عنهم تابوا وكشف الله عنهم العذاب فلما رجع وعلم أنهم لم يهلكوا أنف من ذلك فخرج عنهم ، ومن استعمال الغضب في هذا المعنى قول الشاعر :

وأغضب أن تهجى تميم بعامر *** . . .

أي آنف { فَظَنَّ أَن لَن نَقْدِرَ عَلَيْهِ } قرأ الجمهور { نقدر } بفتح النون وكسر الدال . واختلف في معنى الآية على هذه القراءة . فقيل : معناها : أنه وقع في ظنه أن الله تعالى لا يقدر على معاقبته . وقد حكي هذا القول عن الحسن وسعيد بن جبير ، وهو قول مردود ، فإن هذا الظنّ بالله كفر ، ومثل ذلك لا يقع من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . وذهب جمهور العلماء أن معناها : فظنّ أن لن نضيق عليه ، كقوله : { يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ } [ الشورى : 12 ] ، أي يضيق ، ومنه قوله : { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [ الطلاق : 7 ] . يقال : وقَدَر وقُدِر وقَتَر وقُتِر ، أي ضيق . وقيل : هو من القدر الذي هو القضاء والحكم ، أي فظنّ أن لن نقضي عليه العقوبة ، قاله قتادة ومجاهد ، واختاره الفراء والزجاج ، مأخوذ من القدر وهو الحكم دون القدرة والاستطاعة . قال أحمد بن يحيى ثعلب : هو من التقدير ليس من القدرة ، يقال منه : قدّر الله لك الخير يقدره قدراً ، وأنشد ثعلب :

فليست عشيات اللوى برواجع *** لنا أبداً ما أروق السلم النضر

ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى *** تباركت ما تقدر مع ذلك الشكر

أي ما تقدره وتقضي به ، ومما يؤيد ما قاله هؤلاء قراءة عمر بن عبد العزيز والزهري : «فظنّ أن لن نقدّر » بضم النون وتشديد الدال من التقدير . وحكى هذه القراءة الماوردي عن ابن عباس ، ويؤيد ذلك أيضاً قراءة عبيد بن عمير وقتادة والأعرج : «أن لن يقدّر » بضم الياء والتشديد مبنياً للمفعول ، وقرأ يعقوب وعبد الله بن أبي إسحاق والحسن : «يقدر » بضم الياء وفتح الدال مخففاً مبنياً للمفعول .

وقد اختلف العلماء في تأويل الحديث الصحيح في قول الرجل الذي لم يعمل خيراً قط لأهله أن يحرقوه إذا مات ، ثم قال : فوالله لئن قدّر الله عليّ ، الحديث كما اختلفوا في تأويل هذه الآية ، والكلام في هذا يطول وقد ذكرنا ها هنا ما لا يحتاج معه الناظر إلى غيره . والفاء في قوله : { فنادى فِي الظلمات } فصيحة أي كان ما كان من التقام الحوت له ، فنادى في الظلمات ، والمراد بالظلمات : ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت ، وكان نداؤه : هو قوله : { أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سبحانك إِنّي كُنتُ مِنَ الظالمين } أي بأن لا إله إلا أنت . . . إلخ ، ومعنى { سبحانك } تنزيهاً لك من أن يعجزك شيء ، إني كنت من الظالمين الذين يظلمون أنفسهم ، قال الحسن وقتادة : هذا القول من يونس اعتراف بذنبه وتوبة من خطيئته ، قال ذلك وهو في بطن الحوت .

/خ88