السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَٰضِبٗا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَيۡهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ أَن لَّآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنتَ سُبۡحَٰنَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (87)

القصة الثامنة : قصة يونس عليه الصلاة والسلام المذكورة في قوله تعالى : { وذا النون } أي : واذكر صاحب الحوت وهو يونس بن متى ويبدل منه { إذ ذهب مغاضباً } واختلفوا في معنى ذلك ، فقال الضحاك : مغاضباً لقومه ، وهو رواية العوفي وغيره عن ابن عباس قال : كان قوم يونس يسكنون فلسطين ، فغزاهم ملك فسبى منهم تسعة أسباط ونصفاً وبقي سبطان ونصف ، فأوحى الله تعالى إلى شعيب النبيّ عليه السلام أن سر إلى حزقيل الملك وقل له يوجه نبياً قوياً إلى هؤلاء فإني ألقي في قلوبهم الرعب حتى يرسلوا معه بني إسرائيل فقال له الملك فمن ترى ؟ وكان في مملكته خمسة أنبياء فقال يونس : فإنه قويّ أمين ، فدعا الملك يونس وأمره أن يخرج فقال يونس : هل أمرك الله بإخراجي قال : لا قال : فهل سماني لك ، قال : لا ، قال : فهاهنا أنبياء غيري أقوياء فألحوا عليه ، فخرج من بينهم مغاضباً للنبيّ والملك ولقومه ، فأتى بحر الروم فركبه ، وقال عروة بن الزبير وسعيد بن جبير وجماعة ذهب عن قومه مغاضباً لربه إذا كشف عن قومه العذاب بعد ما وعدهم به وكره أن يكون بين قوم قد جربوا عليه الخلف فيما وعدهم واستحيا منهم ، ولم يعلم السبب الذي رفع به العذاب عنهم ، و كان غضبه أنفة من ظهور خلف وعده وأن يسمى كذاباً لا كراهية الحكم لله تعالى .

وفي بعض الأخبار أنه كان من عادة قومه أن يقتلوا من جرب عليه الكذب ، فخشي أن يقتلوه لما لم يأتهم العذاب للميعاد ، فغضب والمغاضبة هاهنا من المفاعلة التي تكون من واحد كالمنافرة والمعاقبة ، فمعنى قوله مغاضباً أي : غضباناً .

وقال الحسن : إنما غاضب ربه من أجل أنه أمره بالمسير إلى قوم لينذرهم بأسه ويدعوهم إليه ، فسأل ربه أن ينظره ليذهب ، فقيل له : إن الأمر أسرع من ذلك حتى سأله أن ينظره إلى أن يأخذ نعلاً يلبسها ، فلم ينظره ، وكان في خلقه ضيق ، فذهب مغاضباً ، وعن ابن عباس قال : أتى جبريل يونس فقال : انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم ، قال التمس دابة قال : الأمر أعجل من ذلك ، فغضب فانطلق إلى السفينة وقال وهب : إنّ يونس كان عبداً صالحاً ، وكان في خلقه ضيق ، فلما حمل عليه أثقال النبوّة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل ، فقذفها بين يديه وخرج هارباً ، فلذلك أخرجه الله تعالى من أولي العزم ، فقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم { فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل } [ الأحقاف ، 35 ] ، وقال : { ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم } [ القلم ، 48 ] { فظن أن لن نقدر عليه } أي : لن نقضي عليه بالعقوبة قاله مجاهد وقتادة والضحاك ، وقال عطاء وكثير من العلماء معناه ، فظن أن لن نضيق عليه الحبس من قوله تعالى : { الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } [ الرعد ، 26 ] وعن ابن عباس أنه دخل على معاوية فقال : لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها ، فلم أجد لنفسي خلاصاً إلا بك ، قال : وما هي يا معاوية ؟ فقرأ هذه الآية فقال : أو يظن نبيّ الله أن لن يقدر عليه ، قال هذا من القدر الذي معناه الضيق لا من القدرة ، وقال ابن زيد : هو استفهام معناه أفظن أنه يعجز ربه فلا يقدر عليه { فنادى } أي : فاقتضت حكمتنا أن عاتبناه حتى يستسلم ، فألقى نفسه في البحر ، فالتقمه الحوت ، فمكث فيه أربعين من بين يوم وليلة ، وقال عطاء : سبعة أيام .

وقيل : إن الحوت ذهب به مسيرة ستة آلاف سنة ، وقيل : بلغ به تخوم الأرض السابعة ، ومنعناه أن يكون له طعاماً ، فنادى { في الظلمات } ظلمة الليل وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت وقيل : في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت كقوله تعالى : { ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات } [ البقرة ، 17 ] وقوله : { يخرجهم من النور إلى الظلمات } [ البقرة ، 257 ] ، وقيل : ابتلع حوته حوت أكبر منه فجعل في ظلمتي بطن الحوتين ، وظلمة البحر { أن لا إله إلا أنت } ولما نزهه عن الشريك عمم فقال تعالى : { سبحانك } أي : تنزهت عن كل نقص فلا يقدر على الإنجاء مما أنا فيه إلا أنت ، ثم أفصح بطلب الخلاص بقوله ناسباً إلى نفسه من النقص ما نزه الله عن مثله { إني كنت من الظالمين } أي : في خروجي من بين قومي قبل الإذن فاعف عني كما هي سيرة القادرين . روي عن أبي هريرة مرفوعاً «أوحى الله تعالى إلى الحوت أن خذه ، ولا تخدش له لحماً ، ولا تكسر له عظماً ، فأخذه ثم هوى به إلى مسكنه في البحر ، فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حساً فقال في نفسه : ما هذا ، فأوحى الله تعالى إليه أنّ هذا تسبيح دواب البحر ؛ قال : فسبح هو في بطن الحوت فسمع الملائكة تسبيحه فقالوا : يا ربنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة ، وفي رواية صوتاً معروفاً من مكان مجهول ، فقال ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت ، فقالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح قال نعم فشفعوا فيه عند ذلك ، فأمر الحوت فقذفه في الساحل كما قال تعالى { فنبذناه بالعراء وهو سقيم }

فذلك قوله تعالى : { فاستجبنا له }