النكت و العيون للماوردي - الماوردي  
{وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَٰضِبٗا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَيۡهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ أَن لَّآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنتَ سُبۡحَٰنَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (87)

قوله تعالى : { وَذَا النُّونِ } وهو يونس بن متى ، سمي بذلك لأنه صاحب الحوت ، كما قال تعالى :

{ فَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ }

[ القلم : 48 ] والحوت النون ، نسب إليه لأنه ابتلعه ، ومنه قول الشاعر :

يا جيد القصر نِعم القصر والوادي *** وجيداً أهله من حاضر بادي

توفي قراقره والوحش راتعة *** والضب والنون والملاح والحادي

يعني أنه يجتمع فيه صيد البر والبحر ، وأهل المال والظهر ، وأهل البدو والحضر .

{ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً } فيه ثلاثة أقاويل :

أحدها : يعني مراغماً للملك ، وكان اسمه حزقيا ولم يكن به بأس ، حكاه النقاش .

الثاني : مغاضباً لقومه ، قاله الحسن .

الثالث : مغاضباً لربه ، قاله الشعبي ، ومغاضبته ليست مراغمة ، لأن مراغمة الله كفر لا تجوز على الأنبياء ، وإنما هي خروجه بغير إذن ، فكانت هي معصيته .

وفي سبب ذهابه لقومه وجهان :

أحدهما : أنه كان في خُلُقِه ضيق ، فلما حملت عليه أثقال النبوة ضاق ذرعه بها ولم يصبر لها ، وكذلك قال الله :

{ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُل }

[ الأحقاف : 35 ] قاله وهب .

الثاني : أنه كان من عادة قومه أن من كذب قتلوه ، ولم يجربوا عليه كذباً ، فلما أخبرهم أن العذاب يحل بهم ورفعه الله عنهم ، قال لا أرجع إليهم كذّاباً ، وخاف أن يقتلوه فخرج هارباً .

{ فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } فيه أربعة تأويلات :

أحدها : فظن أن لن نضيق طرقه ، ومنه قوله [ تعالى ] :

{ وَمَن قَدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ }

[ الطلاق : 7 ] أي ضيق عليه ، قاله ابن عباس .

الثاني : فظن أن لن نعاقبه بما صنع ، قاله قتادة ومجاهد .

الثالث : فظن أن لن نحكم عليه بما حكمنا ، حكاه ابن شجرة ، قال الفراء : معناه لن نُقِدرَ عليه من العقوبة ما قَدَّرْنَا ، مأخوذ من القدر ، وهو الحكم دون القدرة ، وقرأ ابن عباس : نقدّر بالتشديد ، وهو معنى ما ذكره الفراء . ولا يجوز أن يكون محمولاً على العجز عن القدرة عليه لأنه كفر .

الرابع : أنه على معنى استفهام ، تقديره : أفظن أن لن نقدر عليه ، فحذف ألف الاستفهام إيجازاً ، قاله سليمان بن المعتمر .

{ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ } فيه قولان :

أحدهما : أنها ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة جوف الحوت ، قاله ابن عباس وقتادة .

الثاني : أنها [ ظلمة ] الحوت في بطن الحوت{[1989]} ، قاله سالم بن أبي الجعد .

ويحتمل ثالثاً : أنها ظلمة الخطيئة ، وظلمة الشدة ، وظلمة الوحدة .

{ أَن لاَّ إِلهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } يعني لنفسي في الخروج من غير أن تأذن لي ، ولم يكن ذلك من الله عقوبة ، لأن الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا ، وإنما كان تأديباً ، وقد يؤدب من لا يستحق العقاب كالصبيان .


[1989]:أي حوت ابتلع الحوت الأول الذي أصبح يونس في جوفه.