ثم قال تعالى ذكره : { وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن }[ 86 ] .
أي : واذكر [ يا محمد ]{[46239]} صاحب الحوت . وهو يونس إذ ذهب مغاضبا .
قال{[46240]} ابن عباس والضحاك{[46241]} : ذهب غاضبا{[46242]} على قومه .
وعن ابن عباس{[46243]} أنه خرج{[46244]} مغاضبا على ربه لما رد العذاب عن قومه وصرفه عنهم{[46245]} . وهذا قول مردود ، لا تغضب الأنبياء على ربها ، لأن الغضب على الله معادة له . ومن قصد الله بالعداوة كفر . ونعيذ الله تعالى يونس صلى الله عليه وسلم من ذلك . وكذلك{[46246]} لا يجوز أن تتأول في قوله تعالى : { فظن أن لن نقدر عليه }[ 86 ] .
إنه من القدرة عليه ، وأنه يفوت الله . كان صلى الله عليه وسلم بالله من ذلك ، إنما هو من التقدير الذي هو التضييق . ظن أن الله لا يضيق عليه مسلكه في خروجه عنهم . طمع{[46247]} برحمة الله له في ترك{[46248]} التضييق عليه . وقد فسرنا هذا المعنى .
وقيل : إنما نقم الله عليه أنه خرج عن قومه فارا من نزول العذاب بهم من غير أن يأمره الله بالخروج ، وهي صغيرة والله يغفر{[46249]} الصغائر لغير الأنبياء ، فكيف للأنبياء . فنادى في بطن الحوت{[46250]} { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين }[ 86 ] .
أي : من{[46251]} الظالمين لنفسي في خروجي عن قومي أن تأمرني بالخروج . فاستجاب الله له{[46252]} ، وأخرجه من بطن الحوت . وتلك معجزة وآية له : تدل على{[46253]} نبوته وفضله .
وقيل{[46254]} : إن الله غفر له صغيرته ، ولم يحبسه في بطن الحوت بذنبه{[46255]} إنما أراد أن يريه قدرته ، ويجعل ذلك آية{[46256]} . وخروجه من بطن الحوت عاقلا حيا معجزة له ، ودليلا على توبته ، لأن الصغائر تغفر باجتناب الكبائر . والكبائر تغفر بالتوبة . وذلك{[46257]} أنهم كذبوه فيما جاءهم به{[46258]} فأوحي الله تعالى إليه أني مرسل إليهم العذاب يوم كذا ، فأخرج من بين أظهرهم . فأعلم قومه بالعذاب الذي يأتيهم ، فقالوا : ارمقوه ، فإن هو خرج من بين أظهركم فهو والله كائن ما وعدكم ، فلما كان الليلة التي وعدوا بالعذاب في صبيحتها ، أدلج ورآه القوم فحذروا وخرجوا من القرية إلى براز من أرضهم ، وفرقوا بين كل دابة وولدها ، ثم عجوا إلى الله جل وعز واستقالوه{[46259]} فأقالهم .
قيل : خرجوا إلى موضع يقال له تل{[46260]} الرماد ، ففرقوا بين الصبيان وأمهاتهم ، وبين الرجال ونسائهم ، وعجوا إلى الله تعالى ذكره وخرجوا بالبهائم ، فرفع الله{[46261]} عنهم العذاب ، وانتظر يونس الخبر عن القرية وأهلها حتى مر به مار فقال : ما فعل أهل القرية ، فقال : فعلوا أن نبيهم لما خرج عنهم عرفوا أنه{[46262]} قد صدقهم ما وعدهم به من العذاب ، فخرجوا من قريتهم إلى براز من الأرض وفرقوا بين ذات كل ولد وولدها ، ثم عجوا إلى الله وتابوا إليه ، فقبل منهم{[46263]} وأخر عنهم العذاب . فقال يونس عند ذلك وغضب : والله لا أرجع إليهم كذابا أبدا ، وعدتهم العذاب في يوم ثم رد عنهم . ومضى على وجهه مغاضبا{[46264]} .
قال الحسن{[46265]} : بلغني أن يونس لما أصاب الذنب ، انطلق مغاضبا لربه{[46266]} ، فاستزله الشيطان . وقاله الشعبي .
فقيل{[46267]} : إنه إنما لم يرجع إليهم لأنه استحيا منهم أن يجدوا عليه الخلف فيما وعدهم به/ .
وقيل{[46268]} : كان من سنتهم قتل من كذب ، فخاف أن يظنوا أنه كذبهم{[46269]} فيقتلوه .
وقيل{[46270]} : معناه : مغاضبا أي : مغاضبا من أجل ربه . أي : غضب على قومه لكفرهم{[46271]} بربه .
وقال الحسن{[46272]} : أمر بالسير إلى قوم لينذرهم بأس{[46273]} الله ، ويدعوهم إليه{[46274]} ، فسأل ربه أن ينظره ليتأهب للشخوص إليهم . فقيل له الأمر أسرع من ذلك ، ولم ينظر حتى سأل أن ينظر إلى أن{[46275]} يأخذ نعلا يلبسها . وكان رجلا في خلقه ضيق .
فقال : أعجلني ربي أن آخذ نعلا{[46276]} فذهب مغاضبا .
وقال وهب اليماني{[46277]} : إن يونس بن متى كان عبدا صالحا وكان في خلقه ضيق . فلما حملت عليه أثقال النبوة – ولهها أثقال لا يحملها إلا قليل من الناس – تَفَسَّخَ تحتها تَفَسُّخَ الربع تحت الحمل فقذفها من يديه{[46278]} ، وخرج هاربا منها .
وقال الأخفش{[46279]} : إنما غاضب{[46280]} بعض الملوك .
واختار الطبري{[46281]} أن يكون المعنى{[46282]} مغاضبا لربه .
واختار النحاس أن يكون مغاضبا لقومه .
وقال ابن عباس{[46283]} : إنما أرسل يونس بعدما نبذه الحوت ، لقوله : { فنبذناه بالعراء وهو سقيم }{[46284]} . ثم قال : { وأرسلناه إلى مائة ألف ويزدون } .
وقوله : { فظن أن لن نقدر عليه } أي : فظن أن لن نعاقبه بالتضييق عليه . يقال : قدرت على فلان : ضيقت عليه{[46285]} . ومنه قوله : { ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله }{[46286]} .
قال ابن عباس{[46287]} : معناه : فظن أن لن نأخذه بالعذاب الذي أصابه .
وعنه{[46288]} أيضا : أن المعنى : ظن أن لن نقضي عليه عقوبة ، ولا بلاء فيما صنع بقومه إذ غضب لعيهم وفر منهم .
وقال مجاهد وقتادة والضحاك{[46289]} : المعنى : فظن أن لن نعاقبه .
وهذه الأقوال : هي الاختيار لبعد إضافة تعجيز الله جل ذكره إلى نبي ، وقد قاله : جماعة ، وقولهم مرغوب عنه .
قال سعيد بن أبي الحسن{[46290]} : استزله الشيطان حتى ظن أن لن يقدر عليه ، وكان له سلف عبادة وتسبيح ، فأبى الله أن يدعه{[46291]} للشيطان فأخذه فقذفه في بطن الحوت ، فأقام فيه أربعين بين يوم وليلة وأمسك الله نفسه ، فلم يقتله هناك ، فتاب إلى ربه في بطن الحوت وراجع نفسه . وقال : { سبحانك إني كنت من الظالمين } فاستخرجه الله من بطن الحوت برحمته{[46292]} لما كان سلف له من العبادة والتسبيح ، فجعله من الصالحين .
وقال ابن زيد{[46293]} : معنى الآية على تقدير الاستفهام ، التقدير أفظن أن لن نقدر [ عليه ]{[46294]} .
ثم قال تعالى : { فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين }[ 86 ] .
يعني : فنادى يونس في ظلمة الليل وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت . قاله : ابن عباس وابن جريج وقتادة ومحمد بن كعب{[46295]} .
وقيل{[46296]} : إن الحوت الذي ابتلع يونس ابتلعه حوت آخر . فتلك الظلمات بطن حوت في بطن حوت في ظلمة البحر .
وقوله : { إني كنت من الظالمين } اعتراف منه بذنبه وتوبته منه .
قال عوف الأعرابي{[46297]} : لما صار يونس في بطن الحوت ، ظن أنه قد مات ، ثم حرك رجليه ، فلما تحركت{[46298]} ، سجد مكانه ، ثم نادى : يا رب ، اتخذت لك مسجدا في موضع ما اتخذه أحد .
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال{[46299]} : " لما أراد الله حبس يونس في بطن الحوت ، أوحى الله جل وعز إلى الحوت أن خذه ، ولا تخدش له لحما ، ولا تكسر له عظما . فأخذه ثم هوى به{[46300]} إلى مسكنه ، فلما انتهى به إلى أسفل الأرض{[46301]} ، سمع يونسا حسا ، فقال : ما هذا ؟ فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوت : هذا تسبيح دواب البحر . فسبح وهو في بطن الحوت " .
قال : " سمعت الملائكة تسبيحه فقالوا : يا ربنا ، إنا لنسمع{[46302]} صوتا ضعيفا بأرض غريبة{[46303]} . قال ذلك عبدي يونس ، عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر . قالوا{[46304]} : العبد الصالح الذي كان يصعد إلينا منه كل يوم وليلة{[46305]} عمل صالح ؟ قال{[46306]} : نعم . قال{[46307]} : فشفعوا له عند ذلك ، فأمر الحوت فقذفه في الساحل ، كما قال : ( وهو سقيم ) " .