الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَٰضِبٗا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَيۡهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ أَن لَّآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنتَ سُبۡحَٰنَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (87)

ثم قال تعالى ذكره : { وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن }[ 86 ] .

أي : واذكر [ يا محمد ]{[46239]} صاحب الحوت . وهو يونس إذ ذهب مغاضبا .

قال{[46240]} ابن عباس والضحاك{[46241]} : ذهب غاضبا{[46242]} على قومه .

وعن ابن عباس{[46243]} أنه خرج{[46244]} مغاضبا على ربه لما رد العذاب عن قومه وصرفه عنهم{[46245]} . وهذا قول مردود ، لا تغضب الأنبياء على ربها ، لأن الغضب على الله معادة له . ومن قصد الله بالعداوة كفر . ونعيذ الله تعالى يونس صلى الله عليه وسلم من ذلك . وكذلك{[46246]} لا يجوز أن تتأول في قوله تعالى : { فظن أن لن نقدر عليه }[ 86 ] .

إنه من القدرة عليه ، وأنه يفوت الله . كان صلى الله عليه وسلم بالله من ذلك ، إنما هو من التقدير الذي هو التضييق . ظن أن الله لا يضيق عليه مسلكه في خروجه عنهم . طمع{[46247]} برحمة الله له في ترك{[46248]} التضييق عليه . وقد فسرنا هذا المعنى .

وقيل : إنما نقم الله عليه أنه خرج عن قومه فارا من نزول العذاب بهم من غير أن يأمره الله بالخروج ، وهي صغيرة والله يغفر{[46249]} الصغائر لغير الأنبياء ، فكيف للأنبياء . فنادى في بطن الحوت{[46250]} { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين }[ 86 ] .

أي : من{[46251]} الظالمين لنفسي في خروجي عن قومي أن تأمرني بالخروج . فاستجاب الله له{[46252]} ، وأخرجه من بطن الحوت . وتلك معجزة وآية له : تدل على{[46253]} نبوته وفضله .

وقيل{[46254]} : إن الله غفر له صغيرته ، ولم يحبسه في بطن الحوت بذنبه{[46255]} إنما أراد أن يريه قدرته ، ويجعل ذلك آية{[46256]} . وخروجه من بطن الحوت عاقلا حيا معجزة له ، ودليلا على توبته ، لأن الصغائر تغفر باجتناب الكبائر . والكبائر تغفر بالتوبة . وذلك{[46257]} أنهم كذبوه فيما جاءهم به{[46258]} فأوحي الله تعالى إليه أني مرسل إليهم العذاب يوم كذا ، فأخرج من بين أظهرهم . فأعلم قومه بالعذاب الذي يأتيهم ، فقالوا : ارمقوه ، فإن هو خرج من بين أظهركم فهو والله كائن ما وعدكم ، فلما كان الليلة التي وعدوا بالعذاب في صبيحتها ، أدلج ورآه القوم فحذروا وخرجوا من القرية إلى براز من أرضهم ، وفرقوا بين كل دابة وولدها ، ثم عجوا إلى الله جل وعز واستقالوه{[46259]} فأقالهم .

قيل : خرجوا إلى موضع يقال له تل{[46260]} الرماد ، ففرقوا بين الصبيان وأمهاتهم ، وبين الرجال ونسائهم ، وعجوا إلى الله تعالى ذكره وخرجوا بالبهائم ، فرفع الله{[46261]} عنهم العذاب ، وانتظر يونس الخبر عن القرية وأهلها حتى مر به مار فقال : ما فعل أهل القرية ، فقال : فعلوا أن نبيهم لما خرج عنهم عرفوا أنه{[46262]} قد صدقهم ما وعدهم به من العذاب ، فخرجوا من قريتهم إلى براز من الأرض وفرقوا بين ذات كل ولد وولدها ، ثم عجوا إلى الله وتابوا إليه ، فقبل منهم{[46263]} وأخر عنهم العذاب . فقال يونس عند ذلك وغضب : والله لا أرجع إليهم كذابا أبدا ، وعدتهم العذاب في يوم ثم رد عنهم . ومضى على وجهه مغاضبا{[46264]} .

قال الحسن{[46265]} : بلغني أن يونس لما أصاب الذنب ، انطلق مغاضبا لربه{[46266]} ، فاستزله الشيطان . وقاله الشعبي .

فقيل{[46267]} : إنه إنما لم يرجع إليهم لأنه استحيا منهم أن يجدوا عليه الخلف فيما وعدهم به/ .

وقيل{[46268]} : كان من سنتهم قتل من كذب ، فخاف أن يظنوا أنه كذبهم{[46269]} فيقتلوه .

وقيل{[46270]} : معناه : مغاضبا أي : مغاضبا من أجل ربه . أي : غضب على قومه لكفرهم{[46271]} بربه .

وقال الحسن{[46272]} : أمر بالسير إلى قوم لينذرهم بأس{[46273]} الله ، ويدعوهم إليه{[46274]} ، فسأل ربه أن ينظره ليتأهب للشخوص إليهم . فقيل له الأمر أسرع من ذلك ، ولم ينظر حتى سأل أن ينظر إلى أن{[46275]} يأخذ نعلا يلبسها . وكان رجلا في خلقه ضيق .

فقال : أعجلني ربي أن آخذ نعلا{[46276]} فذهب مغاضبا .

وقال وهب اليماني{[46277]} : إن يونس بن متى كان عبدا صالحا وكان في خلقه ضيق . فلما حملت عليه أثقال النبوة – ولهها أثقال لا يحملها إلا قليل من الناس – تَفَسَّخَ تحتها تَفَسُّخَ الربع تحت الحمل فقذفها من يديه{[46278]} ، وخرج هاربا منها .

وقال الأخفش{[46279]} : إنما غاضب{[46280]} بعض الملوك .

واختار الطبري{[46281]} أن يكون المعنى{[46282]} مغاضبا لربه .

واختار النحاس أن يكون مغاضبا لقومه .

وقال ابن عباس{[46283]} : إنما أرسل يونس بعدما نبذه الحوت ، لقوله : { فنبذناه بالعراء وهو سقيم }{[46284]} . ثم قال : { وأرسلناه إلى مائة ألف ويزدون } .

وقوله : { فظن أن لن نقدر عليه } أي : فظن أن لن نعاقبه بالتضييق عليه . يقال : قدرت على فلان : ضيقت عليه{[46285]} . ومنه قوله : { ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله }{[46286]} .

قال ابن عباس{[46287]} : معناه : فظن أن لن نأخذه بالعذاب الذي أصابه .

وعنه{[46288]} أيضا : أن المعنى : ظن أن لن نقضي عليه عقوبة ، ولا بلاء فيما صنع بقومه إذ غضب لعيهم وفر منهم .

وقال مجاهد وقتادة والضحاك{[46289]} : المعنى : فظن أن لن نعاقبه .

وهذه الأقوال : هي الاختيار لبعد إضافة تعجيز الله جل ذكره إلى نبي ، وقد قاله : جماعة ، وقولهم مرغوب عنه .

قال سعيد بن أبي الحسن{[46290]} : استزله الشيطان حتى ظن أن لن يقدر عليه ، وكان له سلف عبادة وتسبيح ، فأبى الله أن يدعه{[46291]} للشيطان فأخذه فقذفه في بطن الحوت ، فأقام فيه أربعين بين يوم وليلة وأمسك الله نفسه ، فلم يقتله هناك ، فتاب إلى ربه في بطن الحوت وراجع نفسه . وقال : { سبحانك إني كنت من الظالمين } فاستخرجه الله من بطن الحوت برحمته{[46292]} لما كان سلف له من العبادة والتسبيح ، فجعله من الصالحين .

وقال ابن زيد{[46293]} : معنى الآية على تقدير الاستفهام ، التقدير أفظن أن لن نقدر [ عليه ]{[46294]} .

ثم قال تعالى : { فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين }[ 86 ] .

يعني : فنادى يونس في ظلمة الليل وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت . قاله : ابن عباس وابن جريج وقتادة ومحمد بن كعب{[46295]} .

وقيل{[46296]} : إن الحوت الذي ابتلع يونس ابتلعه حوت آخر . فتلك الظلمات بطن حوت في بطن حوت في ظلمة البحر .

وقوله : { إني كنت من الظالمين } اعتراف منه بذنبه وتوبته منه .

قال عوف الأعرابي{[46297]} : لما صار يونس في بطن الحوت ، ظن أنه قد مات ، ثم حرك رجليه ، فلما تحركت{[46298]} ، سجد مكانه ، ثم نادى : يا رب ، اتخذت لك مسجدا في موضع ما اتخذه أحد .

وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال{[46299]} : " لما أراد الله حبس يونس في بطن الحوت ، أوحى الله جل وعز إلى الحوت أن خذه ، ولا تخدش له لحما ، ولا تكسر له عظما . فأخذه ثم هوى به{[46300]} إلى مسكنه ، فلما انتهى به إلى أسفل الأرض{[46301]} ، سمع يونسا حسا ، فقال : ما هذا ؟ فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوت : هذا تسبيح دواب البحر . فسبح وهو في بطن الحوت " .

قال : " سمعت الملائكة تسبيحه فقالوا : يا ربنا ، إنا لنسمع{[46302]} صوتا ضعيفا بأرض غريبة{[46303]} . قال ذلك عبدي يونس ، عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر . قالوا{[46304]} : العبد الصالح الذي كان يصعد إلينا منه كل يوم وليلة{[46305]} عمل صالح ؟ قال{[46306]} : نعم . قال{[46307]} : فشفعوا له عند ذلك ، فأمر الحوت فقذفه في الساحل ، كما قال : ( وهو سقيم ) " .


[46239]:زيادة من ز.
[46240]:ز: فقال.
[46241]:انظر: جامع البيان 17/76 وعرائس المجالس: 407 وزاد المسير 5/380 والقرطبي 11/330.
[46242]:ز: مغاضبا.
[46243]:انظر: تفسير الفخر 22/214.
[46244]:خرج سقطت من ز.
[46245]:ز: وصرف عنه. (تحريف).
[46246]:ز: وكذا.
[46247]:ز: طمعا.
[46248]:ز: تلك. (تحريف).
[46249]:ز: يعفو. (تحريف).
[46250]:ز: أن لا إله إلا أنت.
[46251]:من سقطت من ز.
[46252]:ز: فاستجبنا له.
[46253]:على سقطت من ز.
[46254]:القول لابن عباس في جامع البيان 17/76.
[46255]:بذنبه سقطت من ز.
[46256]:آية سقطت من ز.
[46257]:ز: وذكره (تحريف).
[46258]:به سقطت من ز.
[46259]:ز: واشتعالهم. (تحريف).
[46260]:ز: على. (تحريف).
[46261]:الله سقطت من ز.
[46262]:ع: أنهم. والمثبت في النص من ز.
[46263]:ز: توبتهم.
[46264]:وهو تتمة للقصة السابقة عن ابن عباس. انظر: جامع البيان 17/77.
[46265]:انظر: جامع البيان 17/77 وعرائس المجالس: 409 وتفسير القرطبي 11/329.
[46266]:ز: غاضبا إلى ربه.
[46267]:انظر: الفخر الرازي 22/213.
[46268]:انظر: الفخر الرازي 22/213.
[46269]:ز: كذلك.
[46270]:القول لأبي النقاش في زاد المسير 5/382.
[46271]:ز: بكفرهم.
[46272]:انظر: جامع البيان 17/78 وعرائس المجالس: 407 والقرطبي 11/329.
[46273]:ز: بأمر.
[46274]:ز: إليهم.
[46275]:ز: حتى. (تحريف).
[46276]:قوله : (يلبسها...نعلا) سقط من ز.
[46277]:ولعله من الإسرائيليات التي نقلها وهب بن منبه. انظر: في جامع البيان 17/77 وزاد المسير 5/382.
[46278]:ز: في (تحريف).
[46279]:انظر: معاني الأخفش 2/312.
[46280]:ز: غالب. (تحريف).
[46281]:انظر: جامع البيان 17/78.
[46282]:المعنى سقطت من ز.
[46283]:انظر: عرائس المجالس: 407.
[46284]:الصافات آية 145.
[46285]:ز: عمله. (تحريف).
[46286]:الطلاق آية 7.
[46287]:انظر: جامع البيان 17/78 وتفسير القرطبي 11/331.
[46288]:انظر: المصدر السابق.
[46289]:انظر: جامع البيان 17/78-79 والدر المنثور 4/333.
[46290]:انظر: جامع البيان 17/79 وزاد المسير 5/383 والقرطبي 11/331. والقائل هو سعيد بن أبي الحسن واسمه يسار الأنصاري مولاهم البصري (ت 108 هـ) انظر: ترجمته في تهذيب التهذيب 4/16.
[46291]:ز: يدعوه. (تحريف).
[46292]:ترجمته سقطت من ز.
[46293]:انظر: جامع البيان 17/79 وعرائس المجالس: 409 وزاد المسير 5/383 وتفسير الفخر الرازي 22/215.
[46294]:زيادة من ز.
[46295]:انظر: جامع البيان 17/80 وزاد المسير 5/383 وتفسير القرطبي 11/333 وابن كثير 3/192 والدر المنثور 4/333.
[46296]:القول لسالم بن أبي الجعد في جامع البيان 17/80 وزاد المسير 5/383 وابن كثير 3/192.
[46297]:ز: عرف الأعراب. (تحريف) وانظر قول عوف في جامع البيان 17/81 وتفسير القرطبي 11/333. والقائل هو عوف بن أبي جميلة العبدي أبو سهل البصري المعروف بالأعرابي (ت 146 هـ). انظر: تهذيب التهذيب 8/166.
[46298]:ز: تحرك.
[46299]:انظر: جامع البيان 17/81 والقرطبي 15/123 وابن كثير 3/192.
[46300]:به سقطت من ز.
[46301]:ز: أسفل الأرضين السبع.
[46302]:ز: نسمع.
[46303]:ز: في الأرض قريبة. (تحريف).
[46304]:ز: فقالوا.
[46305]:وليلة سقطت من ز.
[46306]:ز: قالوا.
[46307]:قال سقطت من ز.