غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَٰضِبٗا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقۡدِرَ عَلَيۡهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ أَن لَّآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنتَ سُبۡحَٰنَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (87)

51

ولا خلاف أن ذا النون هو يونس لأن النون هو السمكة والاسم إذا دار بين أن يكون لقباً محضاً وبين أن يكون مقيداً فحمله على المقيد أولى . واختلفوا في أن وقوعه في بطن الحوت كان قبل اشتغاله بأداء الرسالة أو بعد .

أما القول الأوّل فعن ابن عباس أن يونس وقومه كانوا من فلسطين فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفاً وبقي سبطان ونصف ، فأوحى الله تعالى إلى شعيب عليه السلام أن اذهب إلى حزقيل الملك وقل له حتى يوجه نبياً قوياً فإني ألقي في قلوب أولئك أن يرسلوا معه بني إسرائيل . فقال له الملك : من ترى وكان في مملكته خمسة من الأنبياء ؟ فقال : يونس بن متى . فإنه قويّ أمين . فدعاه الملك وأمره أن يخرج فقال له يونس : هل أمرك الله بإخراجي ؟ قال : لا . قال : فههنا أنبياء غيري فألحوا عليه فخرج مغاضباً للملك ولقومه فأتى بحر الروم فوجد قوماً هناك وسفينة فركب معهم فاضطربت السفينة حتى كادوا أن يغرقوا فقال الملاحون : ههنا رجل عاصٍ أو عبد آبق لأن السفينة لا تفعل هذا من غير ريح ، إلا وفيها رجل عاصٍ ، ومن عادتنا في مثل هذا البلاء أن نقترع فمن خرجت له القرعة ألقيناه في البحر حتى تسلم السفينة . فاقترعوا ثلاث مرات فوقعت القرعة كلها على يونس . فقال : أنا الرجل العاصي والعبد الآبق وألقى نفسه في البحر فابتلعه حوت ، فأوحى الله تعالى إلى الحوت لا تؤذ منه شعرة فإني جعلت بطنك سجناً له ولم أجعله طعاماً لك . ثم نجاه الله من بطن الحوت فنبذه بالعراء كالفرخ المنتوف ليس عليه شعر ولا جلد ، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين يستظل بها ويأكل من ثمرتها حتى اشتد ، فلما يبست الشجرة حزن عليها يونس فقيل له . أتحزن على شجرة ولم تحزن على مائة ألف أو يزيدون حيث لم تذهب إليهم ولم تطلب سلامتهم ؟ . فتوجه يونس نحوهم حتى دخل أرضهم وهم منه غير بعيد فقال لملكهم : إن الله أرسلني إليك لترسل معي بني إسرائيل . فقالوا : ما نعرف ما تقول ولو علمنا أنك صادق لفعلنا ولقد أتيناكم في دياركم وسبيناكم ، فلو كان كما تقول لمنعنا الله منكم . فطاف فيهم ثلاثة أيام يدعوهم إلى ذلك فأبوا عليه فأوحى الله إليه قل لهم : إن لم تؤمنوا جاءكم العذاب . فأبلغهم فأبوا فخرج من عندهم فلما فقدوه ندموا على فعلهم فانطلقوا يطلبونه فلم يقدروا عليه . فقال علماؤهم : اطلبوه فإِن كان في المدينة فليس ما ذكره بشيء ، وإن كان قد خرج فهو كما قال . فطلبوه فلم يجدوه ، فلما أيسوا أغلقوا باب مدينتهم فلم يدخلها بقرهم وغنمهم وعزلوا الوالدة عن ولدها وكذا الصبيان والأمهات ، فلما طلع الصبح رأوا العذاب ينزل من السماء فشقوا جيوبهم ووضعت الحوامل ما في بطونها وصاح الصبيان وثغت المواشي فرفع الله عنهم فبعثوا إلى يونس وآمنوا به وبعثوا معه بني إسرائيل .

القول الثاني وعليه أكثر المفسرين : أن قصة الحوت كانت بعد دعائه أهل نينوى وتبليغه رسالة الله إليهم كما مر في سورة يونس . واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بهذه القصة من وجوه : الأوّل أنه ذهب مغاضباً لربه هكذا فسره ابن عباس وابن مسعود والحسن والشعبي وسعيد وابن جبير ووهب واختاره ابن قتيبة ومحمد بن جرير ، ومن المعلوم أن مغاضبة الله من أعظم الذنوب . ولئن سلم أنه كان مغاضباً لقومه فذلك أيضا محظور لأنه كان يجب أن يصبر معهم . الثاني قوله { فظن أن لن نقدر عليه } وهو شك في قدرة الله . الثالث اعترافه بأنه من الظالمين والظلم من صفات الذم . الرابع : إخبار الله تعالى في موضع آخر بقوله { فالتقمه الحوت وهو مليم } [ الصافات : 142 ] والمليم ذو الملامة . الخامس : قوله للنبي صلى الله عليه وسلم

ولا تكن كصاحب الحوت } [ القلم : 48 ] وقال في موضع آخر { فاصبر كما صبر ألوا العزم } [ الأحقاف : 35 ] والجواب أنه عليه السلام غضب لأجل ربه أنفة لدينه وبغضاً للكفر وأهله ، وغاضب قومه بمفارقته كي يخوّفهم حلول العقاب عليهم عندها . فغاية ما في الباب أن تلك المغاضبة ترك الأولى وهو الصبر على مشاق الرسالة بعد أدائها إلى أن يأذن الله له في المهاجرة . وعن الثاني أن معنى . { لن نقدر عليه } لن نضيق كقوله { الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } [ الرعد : 26 ] { ومن قدر عليه رزقه } [ الطلاق : 7 ] فهو من القدر لا من القدرة ، ويجوز أن يكون من القدر بمعنى القضاء . قال الزجاج : يقال قدر الله الشيء قدراً وقدره تقديراً . والمعنى فظن أن لن نقضي عليه بشدة وهو قول مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي وابن عباس في رواية واختاره الفراء والزجاج . يقال : قدر الله عليه الضراء وقدر له السراء كما يقال : قدر القاضي على فلان أوله . ولئن سلمنا أنه من القدرة فالمراد القدرة بالفعل أي فظن أن لن نعمل فيه قدرتنا ، فالقدرة غير وإعمالها غير ، فظن انتفاء الأول كفر دون الثاني أو هو وارد على سبيل التمثيل والاستعارة أي كانت حاله ممثلة بحال من ظن أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لأمر الله ، أو هو استفهام بمعنى التوبيخ معناه أفظن أن لن نقدر عليه : عن ابن زيد . سلمنا الكل لكن هذه الواقعة لعلها قبل رسالته كما حكينا ومثل هذا الظن في حق غير الأنبياء لا يبعد بوسوسة الشيطان ، ولكن المؤمن يرده بعد ذلك بالبرهان . وعن البواقي أن الكل راجع إلى ترك الأولى ونحن لا ننكر ذلك وكفى بذكر يونس في عدد الأنبياء الصابرين الصالحين دليلاً على أنه لم يصدر عنه شيء ينافي عصمته والله تعالى أعلم .

أما قوله { فنادى في الظلمات } فمعنى الجمع راجع إلى شدة الظلمة وتكاثفها أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت كقوله { يخرجونهم من النور إلى الظلمات }

[ البقرة : 257 ] وقيل : ظلمات بطن الحوت والبحر والليل . وقيل : ابتلع حوته حوت أكبر منه فحصل في ظلمتي بطن الحوتين وظلمة البحر . وقيل : إن الحوت إذا عظم غوصه في البحر كان ما فوقه من البحر ظلمة في ظلمة . ومعنى { أن لا إله إلا أنت } أي لا إله إلا أنت أو بأنه لا إله إلا أنت { سبحانك } تنزيه له عن كل النقائص . منها الظن المذكور على أي وجه فرض ، ومنها العجز عن تخليصه ، ومنها خلو ذلك الفعل عن حكمة كاملة . { إني كنت من الظالمين } بالفرار من غير إذن وأنا الآن من التائبين وفيه من حسن الطلب ما فيه فلذلك قال : { فاستجبنا له } .

/خ91