المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ وَرَفَعۡنَا فَوۡقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيۡنَٰكُم بِقُوَّةٖ وَٱسۡمَعُواْۖ قَالُواْ سَمِعۡنَا وَعَصَيۡنَا وَأُشۡرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡعِجۡلَ بِكُفۡرِهِمۡۚ قُلۡ بِئۡسَمَا يَأۡمُرُكُم بِهِۦٓ إِيمَٰنُكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} (93)

{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }( 93 )

وقد تقدم ذكر أخذ الميثاق ورفع الطور .

وقوله تعالى : { خذوا ما آتيناكم بقوة } يعني التوراة والشرع ، و { بقوة } أي بعزم ونشاط وجد . { واسمعوا } معناه هنا : وأطيعوا ، وليس معناه الأمر بإدراك القول فقط . ( {[954]} )

وقالت طائفة من المفسرين : إنهم قالوا { سمعنا وعصينا } . ونطقوا بهذه الألفاظ مبالغة في التعنت والمعصية( {[955]} ) . وقالت طائفة : ذلك مجاز ولم ينطقوا ب { سمعنا وعصينا } ، ولكن فعلهم اقتضاه ، كما قال الشاعر [ الرجز ] :

امتلأ الحوض وقال قطني( {[956]} ) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وهذا أيضاً احتجاج عليهم في كذب قولهم { نؤمن بما أنزل علينا } [ البقرة : 91 ] ، وقوله تعالى : { وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم } التقدير حب العجل ، والمعنى جعلت قلوبهم تشربه ، وهذا تشبيه ومجاز ، عبارة عن تمكن أمر العجل في قلوبهم( {[957]} ) ، وقال قوم : إن معنى قوله

{ وأشربوا في قلوبهم العجل } شربهم الماء الذي ألقى فيه موسى برادة العجل ، وذلك أنه برده بالمبرد ورماه في الماء ، وقيل لبني إسرائيل : اشربوا من ذلك الماء فشرب جميعهم ، فمن كان يحب العجل خرجت برادة الذهب على شفتيه .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا قول يرده قوله تعالى : { في قلوبهم }( {[958]} ) ، وروي أن الذين تبين فيهم حب العجل أصابهم من ذلك الماء الجن( {[959]} ) ، وقوله تعالى { بكفرهم } يحتمل أن تكون باء السبب ، ويحتمل أن تكون بمعنى مع ، وقوله تعالى : { قل بِئسما } الآية أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يوبخهم بأنه بئس هذه الأشياء التي فعلتم وأمركم بها إيمانكم الذي زعمتم في قولكم { نؤمن بما أنزل علينا }

[ البقرة : 91 ] ، و «ما » في موضع رفع والتقدير : بئس الشيء قتل( {[960]} ) واتخاذ عجل وقول { سمعنا وعصينا } ، يجوز أن تكون «ما » في موضع نصب ، و { إن كنتم مؤمنين } شرط( {[961]} ) . وقد يأتي الشرط والشارط يعلم أن الأمر على أحد الجهتين ، كما قال الله تعالى عن عيسى عليه السلام : { إن كنت قلته فقد علمته }( {[962]} ) [ المائدة : 116 ] ، وقد علم عيسى عليه السلام أنه لم يقله ، وكذلك { إن كنتم مؤمنين } ، والقائل يعلم أنهم غير مؤمنين ، لكنه إقامة حجة بقياس بيّن ، وقال قوم { إن } هنا نافية بمنزلة «ما » كالتي تقدمت ، وقرأ الحسن ومسلم بن جندب : «يأمركم بهو إيمانكم » برفع الهاء( {[963]} ) .


[954]:- يعني أن المراد سماع القلب لا سماع الأذن، وسميت الطاعة سمعا على جهة المجاز، لأن طاعة الأمر تتوقف على سماعه، والمعنى: اعملوا بما سمعتم، والتزموه في حياتكم.
[955]:- يعني أن المفسرين اختلفوا في قوله تعالى: [قالوا سمعنا وعصينا] أكان ذلك بلسان المقال أم بلسان الحال؟ كما قال الشاعر: امتلأ الحوض وقال قطني ........................
[956]:- تمامه: ............................ مهلا رويدا قد ملأت بطني. من كلام بعض الماتحين. رأى حوضه قد امتلأ فقال: امتلأ حوضي، وقال: يكفيني، يعلم بذلك الماتح لينصرف إلى دلو غيره، وهذا ما يسمى عندهم بلسان الحال، فإن الحوض لا يتكلم.
[957]:- أي تغلغله في قلوبهم كما يتغلغل شرب الماء في الأعضاء حتى يصل إلى أعماقها ولذلك شبه حبهم للعجل بشرب الماء دون الأكل، لأن الطعام يجاور الأعضاء ولا يتغلغل فيها كما يتغلغل الشراب، فالمجاز استعارة، والاستعارة مبنية على التشبيه، جعلت قلوبهم- لتمكن حب العجل منها –كأنها تشربه، ثم استعير لفظ (اشربوا) استعارة تبعية، ولا يدل قوله: [وأشربوا] على أن غيرهم فعل بهم ذلك، بل هم الذين كسبوا ذلك، فأشربوا من الشراب كما أن (أُنسيت كذا) من النسيان.
[958]:-  وجه الرد أن القصد من هذا السياق أنه ظهر على شفاههم ووجوههم، والمذكور في الآية أنهم أشربوا العجل في قلوبهم.
[959]:- في تفسير (ق): وروي أنه ما شربه أحد إلا جن، حكاه القشيري اهـ. وفي بعض النسخ: (الجبن).
[960]:- أي: قتل الأنبياء.
[961]:- والتقدير: بئس شيئا يأمركم به إيمانكم قتلُ الأنبياء، واتخاذ العجل، وقول: سمعنا وعصينا.
[962]:- من الآية (116) من سورة المائدة.
[963]:- أي ووصلها بالواو للإشباع، و هي لغة.