معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَىٰٓ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوۡقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ فِيمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (55)

قوله تعالى : { إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي } . اختلفوا في معنى التوفي ها هنا ، قال الحسن ، والكلبي ، وابن جريح : إني قابضك ورافعك من الدنيا إلي من غير موت يدل عليه قوله تعالى ( فلما توفيتني ) أي قبضتني إلى السماء وأنا حي ، لأن قومه إنما تنصروا بعد رفعه بعد رفعه لا بعد موته ، فعلى هذا التوفي تأويلان ، أحدهما ؛ إني رافعك إلى وافياً ، لم ينالوا منك شيئاً ، من قولهم : توفيت منه ، كذا وكذا ، واستوفيته إذا أخذته تاماً ، والآخر : أني متسلمك من قولهم : توفيت منه كذا أي تسلمته ، وقال الربيع بن انس : المراد بالتوفي النوم ، وكان عيسى قد نام فرفعه الله نائماً إلى السماء ، معناه أني منيمك ورافعك إلي ، كما قال الله تعالى ( وهو الذي يتوفاكم بالليل ) أي ينيمكم ؛ وقال بعضهم : المراد بالتوفي الموت ، روى علي بن طلحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معناه أني مميتك يدل عليه قوله تعالى ( قل يتوفاكم ملك الموت ) فعلى هذا له تأويلان : أحدهما ما قاله وهب ، توفى الله عيسى ثلاث ساعات من النهار ، ثم أحياه ، ثم رفعه الله إليه ، وقال محمد بن إسحاق : إن النصارى يزعمون أن الله تعالى توفاه سبع ساعات من النهار ثم أحياه ورفعه . والآخر ما قاله الضحاك وجماعة : إن في هذه الآية تقديماً وتأخيراً معناه إني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالك من السماء .

أخبرنا عبد الواحد بن احمد المليحي ، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح ، أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، أخبرنا علي بن الجعد ، أخبرنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفس محمد بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عادلاً يكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ويضع الجزية ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد " .

ويروى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول عيسى عليه السلام قال : " وتهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام ، ويهلك الدجال فيمكث في الأرض أربعين سنة ، ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون " .

وقيل للحسين بن الفضل هل تجد نزول عيسى في القرآن ؟ قال نعم . قوله ( وكهلاً ) وهولم يكتهل في الدنيا ، وإنما معناه وكهلاً بعد نزوله من السماء .

قوله تعالى : { ومطهرك من الذين كفروا } أي مخرجك من بينهم ومنجيك منهم .

قوله تعالى : { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة } . قال قتادة والربيع والشعبي ومقاتل والكلبي : هم أهل الإسلام الذين صدقوه واتبعوا دينه في التوحيد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فهم فوق الذين كفروا ظاهرين قاهرين بالعزة والمنعة والحجة ، وقال الضحاك : يعني الحواريين فوق الذين كفروا ، وقيل : هم أهل الروم ، وقيل :أراد بهم النصارى ، أي فهم فوق اليهود إلى يوم القيامة ، فإن اليهود قد ذهب ملكهم وملك النصارى دائم إلى قريب من قيام الساعة ، فعلى هذا يكون الإتباع بمعنى الادعاء والمحبة لا إتباع الدين .

قوله تعالى : { ثم إلي مرجعكم } في الآخرة .

قوله تعالى : { فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون } من الدين وأمر عيسى .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَىٰٓ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوۡقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ فِيمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (55)

استئناف ؛ و ( إذ ) ظرف غير متعلق بشيء ، أو متعلق بمحذوف ، أي اذكُر إذ قال الله : كما تقدم في قوله : { وإذْ قال ربك للملائكة إنّي جاعل في الأرض } [ البقرة : 30 ] وهذا حكاية لأمرِ رفع المسيح وإخفائه عن أنظار أعدائه . وقدّم الله في خطابه إعلامه بذلك استئناساً له ، إذ لم يتم ما يرغبه من هداية قومه . مع العلم بأنه يحب لقاء الله ، وتبشيراً له بأنّ الله مظهر دينَه ؛ لأنّ غاية هم الرسول هو الهدى ، وإبلاغ الشريعة ، فلذلك قال له : { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا } والنداء فيه للاستئناس ، وفي الحديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقبض نبيء حتى يُخَيَّر " .

وقوله : { إني متوفيك } ظاهر معناه : إنّي مميتك ، هذا هو معنى هذا الفعل في مواقع استعماله لأنّ أصل فعل توفَّى الشيءَ أنه قَبَضه تاماً واستوفاه . فيقال : توفاه اللَّه أي قدّر موته ، ويقال : توفاه ملك الموت أي أنفذ إرادة الله بموته ، ويطلق التوفّي على النوم مجازاً بعلاقة المشابهة في نحو قوله تعالى : { وهو الذي يَتَوَفَّاكم بالليل } [ الأنعام : 60 ] وقوله { الله يتوفَّى الأنفسَ حينَ موتها والتي لم تَمُتْ في منامها فيُمْسِك التي قضى عليها الموتَ ويرسل الأخرى إلى أجل مسمّى } [ الزمر : 42 ] . أي وأما التي لم تمت الموت المعروف فيميتها في منامها موتاً شبيهاً بالموت التام كقوله : { هو الذي يتوفاكم بالليل } ثم قال { حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا } فالكل إماتة في التحقيق ، وإنما فَصَل بينهما العرف والاستعمال ، ولذلك فرّع بالبيان بقوله : فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمّى ، فالكلام منتظم غاية الانتظام ، وقد اشتبه نظمه على بعض الأفهام . وأصرح من هذه الآية آية المائدة : فلمَا توفيتَني كنت أنتَ الرقيب عليهم لأنه دل على أنه قد توفّى الوفاة المعروفة التي تحول بين المرء وبين علم ما يقع في الأرض ، وحملُها على النوم بالنسبة لِعيسى لا معنى له ؛ لأنهُ إذا أراد رفعَه لم يلزم أن ينام ؛ ولأنّ النوم حينئذ وسيلة للرفع فلا ينبغي الاهتمام بذكره وترك ذكر المقصد ، فالقول بأنها بمعنى الرفع عن هذا العالم إيجاد معنى جديد للوفاة في اللغة بدون حجة ، ولذلك قال ابن عباس ، ووهب بن منبه : إنها وفاة موت وهو ظاهر قول مالك في جامع العتبية قال مالك : مات عيسى وهو ابن إحدى وثلاثين سنة قال ابن رشد في البيان والتحصيل : « يحتمل أنّ قوله : مات وهو ابن ثلاث وثلاثين على الحقيقة لا على المجاز » .

وقال الربيع : هي وفاة نوم رفعه الله في منامه ، وقال الحسن وجماعة : معناه إنّي قابضك من الأرض ، ومخلصك في السماء ، وقيل : متوفيك متقبل عملك .

والذي دعاهم إلى تأويل معنى الوفاة ما ورد في الأحاديث الصحيحة : أنّ عيسى ينزل في آخر مدّة الدنيا ، فأفهم أنّ له حياة خاصة أخصّ من حياة أرواح بقية الأنبياء ، التي هي حياة أخصّ من حياة بقية الأرواح ؛ فإنّ حياة الأرواح متفاوتة كما دلّ عليه حديث " أرواح الشهداء في حواصل طيور خضْرٍ " ورووا أنّ تأويل المعنى في هذه الآية أولى من تأويل الحديث في معنى حياته وفي نزوله ، فمنهم من تأوّل معنى الوفاة فجعله حيا بحياته الأولى ، ومنهم من أبقى الوفاة على ظاهرها ، وجعل حياته بحياة ثانية ، فقال وهب بن منبه : توفاه الله ثلاثَ ساعات ورفعه فيها ، ثم أحياه عنده في السماء . وقال بعضهم : توفّي سبع ساعات . وسكت ابن عباس ومالكٌ عن تعيين كيفية ذلك ، ولقد وُفِّقا وسُدِّدا . ويجوز أن تكون حياته كحياة سائر الأنبياء ، وأن يكون نزوله إن حمل على ظاهره بعثاً له قبل إبان البعث على وجه الخصوصية ، وقد جاء التعبير عن نزوله بلفظ « يبعث الله عيسى فيقتل الدجال » رواه مسلم عن عبد الله بن عمر ، ولا يموت بعد ذلك بل يخلص من هنالك إلى الآخرة .

وقد قيل في تأويله : إنّ عطف { ورافعك إلي } على التقديم والتأخير ؛ إذ الواو لا تفيد ترتيب الزمان أي إنّي رافعك إليّ ثم متوفيك بعد ذلك ، وليس في الكلام دلالة على أنه يموت في آخر الدهر سوى أنّ في حديث أبي هريرة في كتاب أبي داود : " ويمكث ( أي عيسى ) أربعين سنة ثم يُتوفى فيصلّي عليه المسلمون " والوجه أن يحمل قوله تعالى : { إني متوفيك } على حقيقته ، وهو الظاهر ، وأن تؤوّل الأخبار التي يفيد ظاهرها أنه حيّ على معنى حياة كرامة عند الله ، كحياة الشهداء وأقوى ، وأنه إذا حمل نزوله على ظاهره دون تأويل ، أنّ ذلك يقوم مقام البعض ، وأنّ قوله في حديث أبي هريرة ثم يتوفّى فيصلي عليه المسلمون مدرج من أبي هريرة لأنّه لم يروه غيره ممن رووا حديث نزول عيسى ، وهم جَمْع من الصحابة ، والروايات مختلفة وغير صريحة . ولم يتعرض القرآن في عدّ مزاياه إلى أنه ينزل في آخر الزمان .

والتطهير في قوله : { ومطهرك } مجازي بمعنى العصمة والتنزيه ؛ لأنّ طهارة عيسى هي هي ، ولكن لو سُلط عليه أعداؤُه لكان ذلك إهانة له .

وحذف متعلق « كفروا » لظهوره أي الذين كفروا بك وهم اليهود ، لأنّ اليهود ما كفروا بالله بل كفروا برسالة عيسى ، ولأنّ عيسى لم يبعث لغيرهم فتطهيرُه لا يظنّ أنّه تطهيرٌ من المشركين بقرينة السياق .

والفوقية في قوله : { فوق الذين كفروا } بمعنى الظهور والانتصار ، وهي فوقية دنيوية بدليل قوله : { إلى يوم القيامة } .

والمراد بالذين اتبعوه : الحواريون ومن اتبعه بعد ذلك ، إلى أن نُسخت شريعته بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم .

وجملة { ثم إليّ مرجعكم } عطف على جملة { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا } إذ مضمون كلتا الجملتين من شأن جزاءِ اللَّهِ متّبِعي عيسى والكافرين به .

وثم للتراخي الرتبي ؛ لأنّ الجزاء الحاصل عند مرجع الناس إلى الله يوم القيامة ، مع ما يقارنه من الحكم بين الفريقين فيما اختلفوا فيه ، أعظمُ درجةً وأهم من جعل متبعي عيسى فوق الذين كفروا في الدنيا .

والظاهر أنّ هذه الجملة مما خاطب الله به عيسى ، وأنّ ضمير مرجعكم ، وما معه من ضمائر المخاطبين ، عائد إلى عيسى والذين اتبعوه والذين كفروا به .

ويجوز أن يكون خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، فتكون ثم للانتقال من غرض إلى غرض ، زيادة على التراخي الرتبي والتراخي الزمني .

والمَرْجعِ مصدر ميمي معناه الرجوع . وحقيقة الرجوع غير مستقيمة هنا فتعيّن أنّه رجوع مجازي ، فيجوز أن يكون المرادُ به البعثَ للحساب بعد الموت ، وإطلاقه على هذا المعنى كثير في القرآن بلفظه وبمرادفه نحو المصير ، ويجوز أن يكون مراداً به انتهاء إمهال الله إياهم في أجلٍ أراده فينفذ فيهم مراده في الدنيا .

ويجوز الجمع بين المعنيين باستعمال اللفظ في مجازيه ، وهو المناسب لجمع العذابين في قوله : { فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة } وعلى الوجهين يجري تفسير حكم الله بينهم فيما هم فيه يختلفون .