السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَىٰٓ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوۡقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ فِيمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (55)

وقوله تعالى :

{ إذ قال الله } ظرف لخير الماكرين أو لمكر الله أو لمضمر مثل اذكر { يا عيسى إني متوفيك } أي : مستوفي أجلك ومعناه إني عاصمك من أن يقتلك الكافر ومؤخرك إلى أجل كتبته لك ومميتك حتف أنفك لا قتلاً بأيديهم أو قابضك من الأرض . من توفيت مالي أي : قبضته أو متوفيك نائماً كما قال تعالى : { وهو الذي يتوفاكم بالليل } ( الأنعام ، 60 ) أي : يميتكم ، إذ روي أنه رفع نائماً أو مميتك عن الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت { ورافعك إليّ } أي : إلى محل كرامتي ومقرّ ملائكتي ، إذ روي أنّ الله تعالى رفعه وكساه الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وطار مع الملائكة فهو معهم حول العرش وكان إنسياً سماوياً أرضياً ، وقال محمد بن إسحاق : النصارى يزعمون أن الله تعالى توفاه سبع ساعات من النهار ثم أحياه ورفعه . وقال الضحاك : إنّ في الآية تقديماً وتأخيراً معناه إني رافعك إليّ { ومطهرك من الذين كفروا } أي : مخرجك من بينهم ومنجيك منهم ومتوفيك بعد إنزالك من السماء .

روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : ( والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ) .

وروى الشيخان حديث : ( أنه ينزل قرب الساعة ويحكم بشريعة نبينا ويقتل الدجال والخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية ) وفي حديث مسلم أنه يمكث سبع سنين ، وفي حديث عند أبي داود والطيالسي «أربعين سنة » ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ، فيحمل على أنّ مجموع لبثه في الأرض قبل الرفع وبعده أربعون ، وقيل للحسين بن الفضل : هل تجد نزول عيسى في القرآن ؟ قال : نعم قوله تعالى : { ويكلم الناس في المهد وكهلاً }

( آل عمران ، 46 ) وهو لم يتكهل في الدنيا وإنما معناه كهلاً بعد نزوله من السماء انتهى . وهذا إنما يأتي على القول بأنه رفع شاباً ، وأما على القول بأنه رفع بعد ثلاث وثلاثين فلا دليل فيه إذ الكهولة من الثلاثين إلى الأربعين { وجاعل الذين اتبعوك } أي : صدقوا بنبوّتك من النصارى ومن المسلمين ؛ لأنه متبعوه في أصل الإسلام ، وإن اختلفت الشرائع { فوق الذين كفروا } بك من اليهود والنصارى أي : يغلبونهم بالحجة والسيف { إلى يوم القيامة } وقيل : المراد بالذين اتبعوه النصارى وبالذين كفروا اليهود إذ لم نسمع غلبة اليهود عليهم ولم يتفق لهم ملك ودولة وملك النصارى قائم إلى قريب من قيام الساعة وعلى هذا يكون الإتباع بمعنى الادعاء في المحبة لا اتباع الدين { ثم إليّ مرجعكم } الضمير لعيسى ومن آمن معه ومن كفر به وغلب المخاطب على الغائبين { فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون } من أمر الدين .