جامع البيان في تفسير القرآن للإيجي - الإيجي محيي الدين  
{إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَىٰٓ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوۡقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ فِيمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (55)

{ إذ قال الله } ظرف لمكر الله ، { يا عيسى إني متوفّيك } المراد من الوفاة ها هنا النوم{[709]} ، وعليه الأكثرون أو في الآية تقديم وتأخير تقديره إني رافعك إلي ومتوفّيك يعني بعده أو توفاه الله ثلاث ساعات حين رفعه إليه أو سبع{[710]} ساعات ثم أحياه أو متوفيك من الدنيا ، وليس بوفاة موت أي : قابضك من الأرض وافيا لم ينالوا منك شيئا من توفيت مالي ، { ورافعُك{[711]}إليّ{[712]} } إلى محل كرامتي ، { ومُطهّرك من الذين كفروا } : من سوء جوارهم ، { وجاعل الذين اتّبعوك } : هم المسلمون من أمة محمد عليه الصلاة والسلام ومن تبعه من النصارى . أو الحواريون ، { فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة } : بالغلبة والعزة وإلى الآن لم تسمع غلبة{[713]} اليهود ، { ثم إليّ مرجعكم } : أيها التابعون والكافرون ، { فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون{[714]} } من أمر عيسى ودينه .


[709]:صرح بذلك الحسن، وغيره نقله ابن أبي حاتم/12.
[710]:قال ابن إسحاق: النصارى يزعمون أن الله توفاه سبع ساعات ثم أحياه/12 منه والإجماع على أنه حي في السماء ينزل، ويقتل الدجال، ويؤيد الدين/12 وجيز.
[711]:الرفع النقل من أسفل إلى علو/12 وجيز.
[712]:قوله: (ورافعك إلي) هذه الآية الشريفة دلت بظاهرها على أن الله تعالى فوق سماواته، وكذلك قوله تعالى: {بل رفعه الله إليه} (النساء: 158)، وقوله تعالى: (يخافون ربهم من فوقهم) (النحل: 50)، وقوله تعالى: {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه} (السجدة: 5)، وقوله تعالى: {أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض} (الملك: 16)، وقوله تعالى: {ذي المعارج تعرج الملائكة والروح إليه} (المعارج: 4)، وقوله تعالى: وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا} (غافر: 36، 37)، يعني: أظن موسى كاذبا في أن إلهه في السماء ولو لم يكن موسى عليه السلام يدعوه إلى إله في السماء لما قال هذا إذا لو كان قال له إن الإله الذي أدعوك إليه ليس في السماء لكان هذا القول من فرعون عبثا، وكان بناؤه القصر جنوبا. وقال الحافظ شمس الدين بن القيم في إغاثة اللهفان: والأساطين قبله – يعني أساطين الفلاسفة قبل أرسطو – كانوا يقولون بحدوثه يعني: بحدوث العالم، وإثبات الصانع ومباينته للعالم وأنه فوق العالم، وفوق السماوات بذاته كما حكاه أبو الوليد رشيد في كتاب مناهج الأدلة وهو أعلم الناس في زمانه بمقالاتهم، فقال: فيه القول في الجهة وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشاعرة كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله إلى أن قال: والشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء وأن منه تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين وأن من السماوات نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك ثم ذكر تقرير ذلك بالعقول، وبين بطلان الشبهة التي لأجلها نفتها الجهمية ومن وافقهم إلى أن قال: فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل وأن إبطاله إبطال الشرائع،ولم تزل أساطينهم معظمين للرسل والشرائع معترفين بأن ما جاؤوا به طورا آخر وراء طور العقل، وكانوا لا يتكلمون في الإلهيات، ويسلمون باب الكلام إلى الرسل، ويقولون علومنا إنما هي الرياضيات، والطبيعيات وتوابعها إلى آخر ما ذكر. وقال عثمان بن سعيد الدارمي في النقض على المريسي: وقد اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله فوق عرشه فوق سماواته. وقال الإمام أبو سليمان الخطابي في كتاب شعار الإيمان: إن إنكار الفوقية شيء سرقه المتأخرون من الفلاسفة، وفي ذلك رد لكتاب الله وسنة رسوله انتهى. وقال الإمام البخاري في كتاب خلق الأفعال: قال ابن المبارك: (لا نقول كما قالت الجهمية إنه في الأرض ها هنا بل على العرش استوى، وقيل له كيف نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه انتهى ذكره شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحراني/12. وقال الإمام أبو عبد الرحمن بن حنبل رحمه الله: ما فطر العباد إلا على أن ربهم في السماء/12 وقال شاه ولي الله رحمه الله رسالته الذب عن تقي الدين بن تيمية: والحق في هذا المقام أن الله أثبت لنفسه جهة الفوق وأن الأحاديث متظاهرة على ذلك، وقد نقل الترمذي ذلك عن الإمام مالك ونظرائه انتهى/12. قال شيخ الإسلام بن تيمية في الأجوبة المصرية ولهذا تنوع أهل السنة في اسم الجهة فمنهم من يقول: هو في جهة، ومنهم من يقول: لا أطلق لفظ الجهة وربما قال بعضهم: ليس بجهة، وذلك لأن هذا اللفظ بعينه ليس بمنصوص عن الشارع [تحرفت في الأصل إلى: الشارح (بالحاء)] حتى يتفقوا ومعناه محتمل فمن أثبته أراد به أنه فوق العرش ومن نفاه أراد به أنه ليس في نفس الخلق فلفظ الجهة فيه اشتراك وإجمال انتهى/12. وسيأتي إيضاح ذلك في سورة يونس تحت قوله تعالى: {ثم استوى على العرش} (يونس: 3)، إن شاء الله تعالى.
[713]:وشردهم الله تعالى أي تشريد ليس لهم مدينة يختصمون بها وهم مفرقون في أقطار تحت قهر اليهود والنصارى/12 وجيز.
[714]:ثم فصل المحكوم بينهم إلى مؤمن وكافر وذكر جزاء كل منهما فقال: {فأما الذين كفروا} الآية/12 وجيز.