فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَىٰٓ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوۡقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ فِيمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (55)

( إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ) قال الفراء إن في الكلام تقديما وتأخيرا تقديره إني رافعك ومطهرك بعد إنزالك من السماء ، قال أبو زيد : متوفيك قابضك ، وقيل الكلام على حاله من غير ادعاء تقديم وتأخير فيه ، والمعنى كما قال في الكشاف : مستوفي أجلك ، ومعناه أني عاصمك من أن يقتلك الكفار ومؤخر أجلك إلى أجل كتبته لك و مميتك حتف أنفك لا قتلا بأيديهم ، عن مطر الوراق قال متوفيك من الدنيا وليس بوفاة موت .

و إنما احتاج المفسرون إلى تأويل الوفاة بما ذكر لأن الصحيح أن الله تعالى رفعه إلى السماء من غير وفاة كما رجحه كثير من المفسرين ، واختاره ابن جرير الطبري .

ووجه ذلك أنه قد صح في الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نزوله وقتله الدجال ، وقيل إن الله سبحانه توفاه ثلاث ساعات من نهار ثم رفعه إلى السماء وفيه ضعف ، وقيل المراد بالوفاة هنا النوم ومثله ( هو الذي يتوفاكم بالليل ) أي ينيمكم وبه قال كثيرون .

وقيل الواو في قوله ( ورافعك ) لا تفيد الترتيب لأنها لمطلق الجمع فلا فرق بين التقديم والتأخير قاله أبو البقاء ، وقال أبو بكر الواسطي : المعنى إني متوفيك عن شهواتك وحظوظ نفسك ، وهذا بالتحريف أشبه منه بالتفسير .

وعن سعيد بن المسيب قال : رفع عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة رفعه الله من بيت المقدس ليلة القدر من رمضان وحملت به أمه ولها ثلاث عشرة سنة ، وولدته بمضي خمس وستين سنة من غلبة الاسكندر على أرض بابل وعاشت بعد رفعه ست سنين .

وأورد على هذا عبارة المواهب مع شرحها للزرقاني وإنما يكون الوصف بالنبوة بعد بلوغ الموصوف بها أربعين سنة إذ هو سن الكمال ولها تبعث الرسل ، ومفاد هذا الحصر الشامل لجميع الأنبياء حتى يحيى وعيسى هو الصحيح ، ففي زاد المعاد للحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى ما يذكر : أن عيسى رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة لا يعرف به أثر متصل يجب المصير إليه ، قال الشامي وهو كما قال ، فإن ذلك إنما يروى عن النصارى ، والمصرح به في الأحاديث النبوية أنه إنما رفع وهو ابن مائة وعشرين سنة .

ثم قال الزرقاني : وقع للحافظ الجلال السيوطي في تكملة تفسير المحلى وشرح النقاية وغيرهما من كتبه الجزم بأن عيسى رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، ويمكث بعد نزوله سبع سنين ، وما زلت أتعجب منه مع مزيد حفظه وإتقانه وجمعه للمعقول والمنقول حتى رأيته في ( مرقاة الصعود ) رجع عن ذلك انتهى .

قلت : وفي حديث أبي داود الطيالسي بدل سبع سنين أربعين سنة ويتوفى ويصلى عليه ، قال السيوطي : فيحتمل أن المراد مجموع لبثه في الأرض قبل الرفع وبعده انتهى ، وفيه ما تقدم .

وأورد على قوله " ليلة القدر " أنها من خصائص هذه الأمة وربما يقال في الجواب لعل الخصوصية على الوجه الذي هي عليه الآن من كون العمل فيها خيرا من العمل في ألف شهر ، ومن كون الدعاء فيها مجابا حالا بعين المطلوب وغير ذلك فلا ينافي أنها كانت موجودة في الأمم السابقة لكن على مزية وفضل أقل مما هي عليه الآن .

( ومطهرك ) أي مبعدك ومخرجك ( من الذين كفروا ) أي من خبث جوارهم وسوء صحبتهم ودنس معاشرتهم برفعك إلى السماء وبعدك عنهم . قال الحسن : طهره من اليهود والنصارى والمجوس ومن كفار قومه ، لأن كونه في جملتهم بمنزلة التنجيس له بهم ، قاله الكرخي .

( وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا ) أي الذين اتبعوا ما جئت به وهم خلص أصحابه الذين لم يبلغوا في الغلو فيه إلى ما بلغ من جعله إلها ، ومنهم المسلمون فإنهم اتبعوا ما جاء به عيسى عليه السلام ووصفوه بما يستحقه من دون غلو فلم يفرطوا في وصفه كما فرطت اليهود ، ولا أفرطوا كما أفرطت النصارى ، وقد ذهب إلى هذا كثير من أهل العلم .

وقيل المراد بالآية أن النصارى الذين هم أتباع عيسى لا يزالون ظاهرين على اليهود غالبين لهم قاهرين لمن وجد منهم فيكون المراد بالذين كفروا هم اليهود خاصة ، وقيل هم الروم لا يزالون ظاهرين على من كفر بالمسيح . وقيل هم المسلمون والنصارى .

وعلى كل حال فغلبة النصارى لطائفة من الكفار أو لكل طوائف الكفار لا ينافي كونهم مقهورين مغلوبين لطوائف المسلمين كما يفيده الآيات الكثيرة بأن هذه الملة الإسلامية ظاهرة على كل الملل قاهرة لها مستعلية عليها .

وقد أفرد الشوكاني هذه الآية بمؤلف سماه ( وبل الغمامة في تفسير ) ( وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ) فمن أراد استيفاء ما في المقام فليرجع إلى ذلك .

وحاصل ما ذكره أن صيغة الذين اتبعوك من صيغ العموم ، وكذلك صيغة الذين كفروا من صيغ العموم ، والواجب العمل بما دل عليه النظم القرآني ، وإذا ورد ما يقتضي تخصيصه أو تقييده أو صرفه عن ظاهره وجب العمل به ، وإن لم يرد ما يقتضي ذلك وجب البقاء على معنى العموم ، وظاهره شمول كل متبع ، وأنه مجعول فوق كل كافر ، وسواء كان الاتباع بالحجة أو بالسيف أو بهما . وفي كل الدين أو بعضه ، وفي جميع الأزمنة والأمكنة والأحوال أو في بعضها .

والمراد بالكافر الذي جعل المتبع فوقه كل كافر سواء كان كفره بالستر لما يعرفه من نبوة عيسى أو بالمكر به ، أو بالمخالفة لدينه ، إما بعدم التمسك بدين من الأديان قط كعبدة الأوثان والنار والشمس والقمر والجاحدين لله والمنكرين للشرائع ، وإما مع التمسك بدين يخالف دين عيسى قبل بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم كاليهود وسائر الملل الكفرية .

فالمتبعون لعيسى بأي وجه من تلك الوجوه هم المجعولون فوق من كان كافرا بأي تلك الأنواع .

ثم بعد البعثة المحمدية لا شك أن المسلمين هم المتبعون لعيسى لإقراره بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتبشيره بها كما في القرآن الكريم والإنجيل ، بل في الإنجيل الأمر لأتباع عيسى باتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم .

فالمتبعون لعيسى بعد البعثة المحمدية هم المسلمون في أمر الدين ، ومن بقي على النصرانية بعد البعثة المحمدية فهو وإن لم يكن متبعا لعيسى في أمر الدين ومعظمه ، لكنه متبع له في الصورة وفي الإسم وفي جزئيات من أجزاء الشريعة العيسوية ، فقد صدق عليهم أنهم متبعون له في الصورة وفي الإسم ، وفي شيء مما جاء به ، وإن كانوا على ضلال ووبال وكفر ، فذلك لا يوجب خروجهم عن العموم المذكور في القرآن الكريم .

ولا يستلزم اندراجهم تحت هذا العموم أنهم على شيء ، بل هم هالكون في الآخرة وإن كانوا مجعولين فوق الذين كفروا ، فذلك إنما هو في هذه الدار ، ولهذا يقول الله جل وعلا بعد قوله ( وجاعل الذين اتبعوك ) الآية ( ثم إلي مرجعكم فأحكم بينك فيما كنتم فيه تختلفون ) إلى قوله ( لا يحب الظالمين ) .

فالحاصل أن المجعولين فوق الذين كفروا هم أتباع عيسى قبل النبوة المحمدية ، وهو النصارى والحواريون ، وبعد النبوة المحمدية هم المسلمون والنصارى والحواريون ، والأولون هم الأتباع حقيقة ، وغيرهم هم الأتباع في الصورة ، وقد جعل الله الجميع فوق الذين كفروا من اليهود وسائر الطوائف الكفرية .

وقد كان الواقع هكذا فإن الملة النصرانية قبل البعثة المحمدية كانت قاهرة لجميع الملل الكفرية ظاهرة عليها ، غالبة لها ، وبعد البعثة المحمدية صارت جميع الأمم الكفرية نهبى بين الملة الإسلامية والملة النصرانية ما بين قتيل وأسير ومسلم للجزية وهذا يعرفه كل من له إلمام بأخبار العالم .

ولكن الله تعالى جعل الملة الإسلامية قاهرة للملة النصرانية مستظهرة عليها وفاء بوعده في كتابه العزيز كما في الآيات المشتملة على الأخبار بأن جنده هم الغالبون ، وحزبه هم المنصورون ، ومن ذلك قوله تعالى ( فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين ) ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) .

وقد أخبر الصادق المصدوق بظهور أمته على جميع الأمم وقهر ملته لجميع الأمم . وبالجملة إنا إذا جردنا النظر الى الملة الإسلامية والملة النصرانية فقد ثبت في الكتاب والسنة ما يدل على استظهار الملة الإسلامية على الملة النصرانية ، وإن نظرنا إلى جميع الملل فالملة الإسلامية والملة النصرانية هما فوق سائر الملل الكفرية لهذه الآية .

ولا ملجئ إلى جعل الضمير المذكور في الآية وهو الكاف لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما تكلفه جماعة من المفسرين ، لأن جعله لعيسى كما يدل عليه السياق ، بل هو الظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه ، لا يستلزم إخراج الملة المحمدية بعد البعثة ، إذ هم متبعون لعيسى كما عرفت سابقا .

ولا خلاف بين أهل الإسلام أن الملة النصرانية كانت قبل البعثة المحمدية هي القاهرة لجميع الملل الكفرية ، فلم يبق في تحويل الضمير عن مرجعه الذي لا يحتمل السياق غيره فائدة إلا تفكيك النظم القرآني والإخراج له عن الأساليب البالغة في البلاغة إلى حد الإعجاز .

ومن تدبر هذا الوجه الذي حررناه علم أنه قد أعطى التركيب القرآني ما يليق ببلاغته من بقاء عموم الموصول الأول والموصول الثاني وعدم التعرض لتخصيصه بما ليس بمخصص ، وتقييده بما ليس بمقيد ، وعدم الخروج عن مقتضى الظاهر في مرجع الضمائر وعدم ظن التعارض بين ما هو متحد الدلالة : انتهى .

وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن عيسى عليه السلام ينزل في آخر الزمان فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويحكم بين العباد بالشريعة المحمدية ، ويكون المسلمون أنصاره وأتباعه إذ ذاك ، فلا يبعد أن يكون في هذه الآية إشارة إلى هذه الحالة{[326]} .

( إلى يوم القيامة ) غاية للجعل أو للاستقرار المقدر في الظرف لا على معنى أن ذلهم ينتهي يوم القيامة ، بل على معنى أن المسلمين يعلونهم إلى تلك الغاية ، فأما بعدها فيفعل الله بهم ما يريد كما ذكره بقوله ( فأما الذين كفروا ) الخ .

وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لاتزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يبالون بمن خالفهم حتى يأتي أمر الله {[327]} " قال النعمان من قال إني أقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل فإن تصديق ذلك في كتاب الله ( وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ) .

وأخرج ابن عساكر عن معاوية مرفوعا نحوه ، ثم قرأ معاوية الآية .

عن ابن زيد قال النصارى فوق اليهود إلى يوم القيامة ليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق اليهود في شرق ولا غرب ، وهم في البلدان كلها مستلذون .

( ثم إلي مرجعكم ) أي مرجع الفريقين : الذين اتبعوا عيسى والذين كفروا به ، والمرجع الرجوع ، وتقديم الظرف للقصر ( فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ) أي من أمور الدين .


[326]:مسلم /2940.
[327]:مسلم 1920، ابن ماجه المقدمة.