لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَىٰٓ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوۡقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ فِيمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (55)

قوله عز وجل : { إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي } اختلفوا في معنى التوفي هنا على طريقين : فالطريق الأول أن الآية على ظاهرها من غير تقديم ولا تأخير وذكروا في معناها وجوهاً :

الأول : معناه أني قابضك ورافعك إلي من غير موت من قولهم توفيت الشيء واستوفيته إذا أخذته وقبضته تاماً ، والمقصود منه هنا أن لا يصل أعداؤه من اليهود إليه بقتل ولا غيره .

الوجه الثاني : أن المراد بالتوفي النوم ومنه قوله عز وجل : { الله يتوفى الأنفس حين موتها } والتي لم تمت في منامها فجعل النوم وفاة ، وكان عيسى قد نام فرفعه الله وهو نائم لئلا يلحقه خوف ، فمعنى الآية أني منيمك ورافعك إلي .

الوجه الثالث أن المراد بالتوفي حقيقة الموت ، قال ابن عباس : معناه أني مميتك قال وهب بن منبه : إن الله توفى عيسى ثلاث ساعات من النهار ثم أحياه ثم رفعه إليه ، وقيل إن النصارى يزعمون أن الله توفاه سبع ساعات من النهار ثم أحياه ورفعه إليه .

الوجه الرابع : أن الواو في قوله ورافعك إلي لا تفيد الترتيب والآية تدل على أن الله تعالى يفعل به ما ذكر فأما كيف يفعل ؟ ومتى يفعل ؟ فالأمر فيه موقوف على الدليل . وقد ثبت في الحديث أن عيسى سينزل ويقتل الدجال وسنذكره إن شاء الله تعالى .

الوجه الخامس : قال أبو بكر الواسطي : معناه أني متوفيك عن شهواتك وعن حظوظ نفسك ورافعك إلي ذلك أن عيسى عليه السلام لما رفع إلى السماء صارت حالته حالة الملائكة في زوال الشهوة .

الوجه السادس : أن معنى التوفي أخذ الشيء وافياً ولما علم الله تعالى أن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله إليه هو روحه دون جسده كما زعمت النصارى أن المسيح رفع لاهوته يعني روحه وبقي في الأرض ناسوته يعني جسده فرد الله عليهم بقوله إني متوفيك ورافعك إلي فأخبر الله تعالى أنه رفع بتمامه إلى السماء بروحه وجسده جميعاً .

الطريق الثاني : أن في الآية تقديماً وتأخيراً تقديره أني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالك إلى الأرض ، وقيل لبعضهم هل تجد نزول عيسى إلى الأرض في القرآن ؟ قال : نعم قوله تعالى وكهلاً وذلك لأنه لم يكتهل في الدنيا وإنما معناه وكهلاً بعد نزوله من السماء .

( ق ) عن أبي هريرة أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً مقسطاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد " ، زاد وفي رواية : " حتى تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها " ثم يقول أبو هريرة : " اقرؤوا إن شئتم ( وإن من أهل الكتاب إلاّ ليؤمنن به قبل موته ) ، وفي رواية " كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم . وفي رواية فأمكم منكم ، قال ابن أبي ذؤيب : تدري ما أمكم منكم ؟ قلت فأخبرني ؟ قال فأمكم كتاب ربكم عز وجل وبسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم . وفي إفراد مسلم من حديث النواس بن سمعان قال : " فبينما هما إذ بعث الله المسيح ابن مريم عليه السلام فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس بيني وبينه يعني عيسى نبي وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ينزل بين ممضرتين كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل فيقاتل الناس على الإسلام ، فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويهلك الله الملل في زمانه كلها إلاّ الإسلام ويهلك المسيح الدجال ثم يمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون " أخرجه أبو داود . ونقل بعضهم أن عيسى عليه السلام يدفن في حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقوم أبو بكر وعمر يوم القيامة بين نبيين محمد وعيسى عليهما السلام .

قوله عز وجل : { ومطهرك من الذين كفروا } يعني مخرجك من بينهم ومنجيك منهم { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة } يعني وجاعل الذين اتبعوك في التوحيد وصدقوا قولك وهم أهل الإسلام من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فوق الذين كفروا بالعز والنصر والغلبة بالحجة الظاهرة . وقيل : هم الحواريين الذين اتبعوا عيسى على دينه وقيل : هم النصارى فهم فوق اليهود وذلك لأن ملك اليهود قد ذهب ولم يبق لهم مملكة وملك النصارى باق فعلى هذا القول يكون الاتباع بمعنى المحبة والادعاء لا اتباع الدين لأن النصارى وإن أظهروا متابعة عيسى عليه السلام فهم أشد مخالفة له وذلك أن عيسى عليه السلام لم يرض بما هم عليه من الشرك ، والقول الأول هو الأصح لأن الذين اتبعوه هم الذين شهدوا له بأنه عبد الله ورسوله وكلمته وهم المسلمون وملكهم باق إلى يوم القيامة { ثم إليَّ مرجعكم } يعني يقول الله عز وجل : إلي مرجع الفريقين في الآخرة الذين اتبعوا عيسى وصدقوا به والذين كفروا به { فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون } يعني من الحق في أمر عيسى .