الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَىٰٓ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوۡقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ فِيمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (55)

{ إِذْ قَالَ اللَّهُ يعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ } اختلفوا في معنى التوفّي ههنا :

فقال كعب والحسن والكلبي ومطر الوراق ومحمد بن جعفر بن الزبير وابن جريج وابن زيد : معناه : إنّي قابضك .

{ وَرَافِعُكَ } : من الدّنيا .

{ إِلَيَّ } : من غير موت ، يدلّ عليه قوله

{ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي } [ المائدة : 117 ] أي قبضتني إلى السماء وأنا حيّ ؛ لأنّ قومه إنّما تنصّروا بعد رفعه لا بعد موته . وعلى هذا القول للتوفّي تأويلان : أحدهما : إنّي رافعك إليّ وافياً لن ينالوا منك . من قولهم : توفّيت كذا واستوفيته أي أخذته تامّاً .

و الآخر : إنّي مسلّمك ، من قولهم : توفيت منه كذا أي سلّمته . وقال الربيع بن أنس : معناه أنّي منيمك ورافعك إليّ من قومك ، يدل عليه قوله :

{ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ } [ الأنعام : 60 ] : أي ينيمكم ؛ لأنّ النوم أخو الموت ، وقوله

{ اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } [ الزمر : 42 ] .

وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : إنّي مميتكم ، يدلّ عليه :

{ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ } [ السجدة : 11 ] ، وقوله

{ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } [ يونس : 46 ] وله على هذا القول تأويلان :

أحدهما : ما قال وهب : توفّى اللّه عيسى ثلاث ساعات من النهار ثم أحياه ورفعهُ . والآخر : ما قاله الضحّاك وجماعة من أهل المعاني : إنّ في الكلام تقديماً وتأخيراً ، معناه إنّي رافعك إليّ .

{ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } : ومتوفّيك بعد إنزالك من السماء كقوله عز وجّل :

{ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } [ طه : 129 ] . وقال الشاعر :

ألا يا نخلةً من ذات عرق *** عليك ورحمةُ اللّهِ السّلام

أي عليك السلام ورحمة الله .

وقال آخر :

جمعت وعيباً نخوة ونميمة *** ثلاث خصال لسن من ترعوي

أي جمعت نخوة ونميمة وعيباً .

وروى أبو هريرة عن النبّي صلى الله عليه وسلم قال : " الأنبياء إخوة لعلاّت شتّى ودينهم واحد ، وأنا أولى النّاس بعيسى بن مريم ؛ لأنّه لم يكن بيني وبينه نبّي ، وإنّه عامل على أُمّتي وخليفتي عليهم ، إذا رأيتموه فاعرفوه فإنّه رجل مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الشعر كأن شعره ممطر وإن لم يصبه بلل ، بين ممصّرتين يدقّ الصليب ويقتل الخنزير ويفيض المال ، وليسلكنّ الروحاء حاجّاً أو معتمراً أو كلتيهما جميعاً ، ويقاتل النّاس على الإسلام حتى يهلك الله في زمانه الملك كلها ويهلك الله في زمانه مسيح الضلالة الكذّاب الدجّال ، ويقع في الأرض الأمنة حتى يرتع الأسود مع الإبل ، والنمور مع البقر ، والذئاب مع الأغنام ، ويلعب الصبيان بالحيّات لا يضرّ بعضهم بعضاً ، ويلبث في الأرض أربعين سنة " .

وفي رواية كعب : " أربعاً وعشرين سنة ، ثم يتزوج ويولد ، ثم يتوفى ويصلي المسلمون عليه ويدفنونه في حجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم " .

وقيل للحسن بن الفضل : هل تجد نزول عيسى ( عليه السلام ) في القرآن .

فقال : نعم .

قوله : { وكهلاً } ، وهو لم يكتهل في الدنيا ، وإنّما معناه { وكهلاً } بعد نزوله من السماء .

وعن محمد بن إبراهيم أنّ أمير المؤمنين أبا جعفر حدّثه عن الآية عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : " كيف تهلك أمّة أنا في أوّلها وعيسى في آخرها والمهدي من أهل بيتي في أوسطها " .

وقال أبو بكر محمد بن موسى الواسطي : معناه أنّي متوفّيك عن شهواتك وحطوط نفسك ، ولقد أحسن فيما قال لأنّ عيسى لمّا رُفع إلى السّماء صار حاله كحال الملائكة .

{ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } : قال البشالي والشيباني : كان عيسى على [ . . . . ] فهبّت ريح فهرول عيسى ( عليه السلام ) فرفعه اللّه عز وجّل في هرولته ، وعليه مدرعة من الشعر .

قال ابن عباس : ما لبس موسى إلا الصوف وما لبس عيسى إلا الشعر حتى رفع .

وقال ابن عمر : رأينا النبي صلى الله عليه وسلم يتبسم في الطواف فقيل له في ذلك . فقال : استقبلني عيسى في الطواف ومعه ملكان .

وقيل : معناه رافعك بالدرجة في الجنّة ومقرّبك إلى الأكرام { وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } : أي مخرجك من بينهم ومُنجيك منهم .

{ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } : قتادة والربيع والشعبي ومقاتل والكلبي : هم أهل الإسلام الذين اتّبعوا دينه وسنّته من أُمّة محمّد ؛ فوالله ما اتّبعه من دعاه رباً { فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } : ظاهرين مجاهرين بالعزة والمنعة والدليل والحجة .

الضحّاك ومحمد بن أبان : يعني الحواريّين فوق الذين كفروا ، وقيل : هم الرّوم .

وقال ابن زيد : وجاعل النّصارى فوق االيهود . فليس بلد فيه أحد من النّصارى إلا وهم فوق اليهود ، واليهود مستذلّون مقهورون ، وعلى هذين القولين يكون معنى الاتّباع الادّعاء والمحبة لا اتّباع الدّين والملّة .

{ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } في الآخرة .

{ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } : من الدين وأمر عيسى ( عليه السلام ) .