محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَىٰٓ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوۡقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ فِيمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (55)

ثم أخبر تعالى ببشارته بالعصمة من مكرهم بقوله :

5

( إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون55 ) .

( إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ) أي مستوفي مدة إقامتك بين قومك . والتوفي ، كما يطلق على الإماتة ، كذلك يطلق على استيفاء الشيء ، كما في كتب اللغة . ولو ادعى أن التوفي حقيقة في الأول ، والأصل في الإطلاق الحقيقة فنقول : لا مانع من تشبيه سلب تصرفه عليه السلام بأتباعه وانتهاء مدته المقدرة بينهم بسلب الحياة . وهذا الوجه ظاهر جدا ، وله نظائر في الكتاب العزيز ، قال تعالى : ( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ) . قال الزمخشري : يريد ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها ، أي يتوفاها حين تنام للنائمين بالموتى . ومنه قوله تعالى : ( وهو الذي يتوفاكم بالليل ) . حيث لا يميزون ولا / يتصرفون ، كما أن الموتى كذلك –انتهى كلامه-

ثم بين سبحانه في بشارته بالرفعة إلى محل كرامته وموطن ملائكته ومعدن النزاهة عن الأدناس فقال : ( ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ) أي من مكرهم وخبث صحبتهم ، وقد دلت هذه الآية بظاهرها على أن الله تعالى فوق سماواته كقوله تعالى : ( بل رفعه الله إليه ، وكان عزيزا حكيما ) . وقوله تعالى : ( يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون ) . وقوله تعالى : ( يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه ) . وقوله تعالى : ( ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور ) . وهو مذهب السلف قاطبة كما نقله الإمام الذهبي في كتاب ( العلو ) .

قال أبو الوليد بن رشد في ( مناهج الأدلة ) : لم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتون لله سبحانه وتعالى جهة ( الفوق ) حتى نفتها المعتزلة ، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشاعرة كأبي المعالي ومن اقتدى بقوله –إلى أن قال : ( والشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء ، وأن منه تتنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين ، وأن من السماوات نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم . وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء ، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك بالمعقول . وبين بطلان الشبهة التي لأجلها نفتها الجهمية ومن وافقهم- إلى أن قال : فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل ، وأن إبطاله إبطال الشرائع . قال الدارمي : وقد اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله فوق عرشه فوق سماواته . وقد بسط نصوص السلف الحافظ الذهبي في كتاب ( العلو ) فانظره ، / هذا ، ولما كان لذوي الهمم العوال ، أشد التفات إلى ما يكون عليه خلفاؤهم من بعدهم من الأحوال ، بشره تعالى في ذلك بما بشره ، فقال : ( وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ) وكذا كان لم يزل من انتحل النصرانية فوق اليهود ، ولا يزالون كذلك إلى أن يعدموا فلا يبقى منهم أحد ( ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ) .