الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَىٰٓ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوۡقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ فِيمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (55)

وقوله تعالى : { إِذْ قَالَ الله يا عيسى إِنّي مُتَوَفّيكَ . . . } [ آل عمران :55 ] اختلف في هذا التِّوفِّي ، فقال الرَّبيع : هي وفاةُ نَوْمٍ ، وقال الحَسَن وغيره : هو توفِّي قَبْضٍ ، وتَحْصِيلٍ ، أي : قابضك منَ الأرْضِ ، ومحصِّلك في السماءِ ، وقال ابنُ عبَّاس : هي وفاةُ مَوْتٍ ، ونحوه لمالك في «العَتَبِيَّة » ، وقال وهْبُ بنُ مُنَبِّهٍ : توفَّاه اللَّه بالمَوْتِ ثلاثَ ساعاتٍ ، ورفعه فيها ، ثُمَّ أحياه بعد ذلك ، وقال الفَرَّاء : هي وفاةُ مَوْتٍ ، ولكنَّ المعنى : إني متوفِّيك في آخر أمْرِكَ عنْد نزولِكَ وقَتْلِك الدَّجَّال ، ففي الكلامِ تقديمٌ وتأخير .

قال ( ع ) : وأجمعتِ الأمة على ما تضمَّنه الحديثُ المتواتر ، منْ أنَّ عيسى عليه السلام في السَّمَاءِ حَيٌّ ، وأنه يَنْزِلُ في آخِرِ الزَّمَانِ ، فَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ ، وَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ ، وَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ ، وَيُفِيضُ العَدْلَ ، وَيُظْهِرُ هَذِهِ المِلَّةَ مِلَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، ويَحُجُّ البَيْتَ ويَعْتَمِرُ ، ويبقى في الأَرْضِ أَرْبَعاً وَعِشْرِينَ سَنَةً ، وَقِيلَ : أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يُمَيتُهُ اللَّهُ تعالى .

قال ( ع ) فقول ابن عباس : هي وفاةُ مَوْتٍ لا بدَّ أنْ يتمِّم إما على قول وهْبِ بن مُنَبِّهٍ ، وإما على قول الفَرَّاء .

وقوله تعالى : { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } عبارةٌ عَنْ نَقْلِهِ من سُفْلٍ إلى عُلْو ، وإضافة اللَّه سبحانه إضافةُ تشريفٍ ، وإلا فمعلومٌ أنه سبحانه غَيْرُ متحيِّزٍ في جهةٍ ، { وَمُطَهِّرُكَ } ، أي مِنْ : دعاوى الكَفَرَةِ ، ومعاشَرَتِهِمْ .

وقوله : { وَجَاعِلُ الذين اتبعوك } الآية ، قال جمهورُ المفسِّرين بعموم اللفظ في المتَّبِعِينَ ، فتدخُلُ في ذلك أمةُ محمَّد صلى الله عليه وسلم لأنها مُتَّبِعَةٌ لعيسى ، قاله قتادة ، وغيره ، وكذلك قالوا بعموم اللفظِ في الكَافِرِينَ ، فمقتضَى الآيَةِ إعلامُ عيسى عليه السلام ، أنَّ أهْلَ الإيمانِ به ، كما يجب ، هم { فوق الذين كَفَرُوا }[ آل عمران :55 ] بالحُجَّة والبُرْهَان ، والعِزِّ والغَلَبَةِ ، ويظْهَرُ منْ عبارة ابن جُرَيْج وغيره ، أنَّ المراد المتبعين لَهُ في وقْتِ استنصاره ، وهم الحواريُّون .

وقوله تعالى : { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } خَطَابٌ لعيسى والمرادُ : الإخبار بالقيامة والحَشْرِ ، وباقي الآيةِ بيِّن ، وتوفيةُ الأجور هي قَسْم المَنَازِلِ في الجَنَّة ، فذلك هو بحَسَب الأعمال ، وأما نَفْسُ دخولِ الجَنَّةَ ، فبرحْمَةِ اللَّه وتفضُّله سبحانه .