فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَىٰٓ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوۡقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأَحۡكُمُ بَيۡنَكُمۡ فِيمَا كُنتُمۡ فِيهِ تَخۡتَلِفُونَ} (55)

قوله : { إِذْ قَالَ الله يا عيسى } العامل في إذ : مكروا ، أو قوله : { خَيْرُ الماكرين } أو فعل مضمر تقديره وقع ذلك . وقال الفراء : إن في الكلام تقديماً ، وتأخيراً تقديره إني رافعك ، ومطهرك من الذين كفروا ، ومتوفيك بعد إنزالك من السماء .

وقال أبو زيد : متوفيك قابضك . وقال في الكشاف : مستوفي أجلك ، ومعناه : إني عاصمك من أن يقتلك الكفار ، ومؤخر أجلك إلى أجل كتبته لك ، ومميتك حتف أنفك لا قتلاً بأيديهم . وإنما احتاج المفسرون إلى تأويل الوفاة بما ذكر ، لأن الصحيح أن الله رفعه إلى السماء من غير وفاة ، كما رجحه كثير من المفسرين ، واختاره ابن جرير الطبري ، ووجه ذلك أنه قد صحّ في الأخبار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نزوله ، وقتله الدجال ، وقيل : إن الله سبحانه توفاه ثلاث ساعات من نهار ، ثم رفعه إلى السماء ، وفيه ضعف ، وقيل : المراد بالوفاة هنا النوم ومثله : { وَهُوَ الذي يتوفاكم بالليل } [ الأنعام : 60 ] أي : ينيمكم ، وبه قال كثيرون . قوله : { وَمُطَهّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُوا } أي : من حيث جوازهم برفعه إلى السماء وبعده عنهم .

قوله : { وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُوا إلى يَوْمِ القيامة } أي : الذين اتبعوا ما جئت به ، وهم خلص أصحابه الذين لم يبلغوا في الغلوّ فيه إلى ما بلغ من جعله إلهاً ، ومنهم المسلمون ، فإنهم اتبعوا ما جاء به عيسى عليه السلام ووصفوه بما يستحقه من دون غلوّ ، فلم يفرّطوا في وصفه ، كما فرطت اليهود ، ولا أفرطوا كما أفرطت النصارى . وقد ذهب إلى هذا كثير من أهل العلم . وقيل : المراد : بالآية أن النصارى الذين هم أتباع عيسى لا يزالون ظاهرين على اليهود غالبين لهم قاهرين لمن وجد منهم ، فيكون المراد بالذين كفروا هم اليهود خاصة ؛ وقيل : هم الروم لا يزالون ظاهرين على من خالفهم من الكافرين ، وقيل : هم الحواريون لا يزالون ظاهرين على من كفر بالمسيح ، وعلى كل حال فغلبة النصارى لطائفة من الكفار ، أو لكل طوائف الكفار لا ينافي كونهم مقهورين مغلوبين بطوائف المسلمين ، كما تفيده الآيات الكثيرة ، بأن هذه الملة الإسلامية ظاهرة على كل الملل ، قاهرة لها مستعلية عليها . وقد أفردت هذه الآية بمؤلف سميته «وبل الغمامة في تفسير : { وَجَاعِل الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُوا إلى يَوْمِ القيامة } » فمن رام استيفاء ما في المقام ، فليرجع إلى ذلك . والفوقية هنا هي أعم من أن تكون بالسيف ، أو بالحجة . وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن عيسى عليه السلام ينزل في آخر الزمان ، فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويحكم بين العباد بالشريعة المحمدية ، ويكون المسلمون أنصاره ، وأتباعه إذ ذاك ، فلا يبعد أن يكون في هذه الآية إشارة إلى هذه الحالة . قوله : { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } أي : رجوعكم ، وتقديم الظرف للقصر { فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } يومئذ : { فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } من أمور الدين .

/خ58